صفحات المستقبل

المعلن والمضمر في خطاب الساسة السوريين/ ضحى حسن

 

 

“لن تقبلوا ، لا مبرر، لن تسامحوا، أنتم معنا أو ضدنا، عليكم أن تدركوا، أنصحكم وإلا، أنا أعرف، أنتم لا تعلمون، علينا أن نحارب.. نقاوم، أيها الشعب العظيم، هم الظالمون..” تلك مفردات يستخدمها الرؤوساء والقادة العسكريون ومعظم قادة الرأي السوريين، في خطاباتهم وتصريحاتهم. تلك الخطابات المحمّلة بمعايير ضمنية وصريحة، من الخطأ والصواب، الحقيقة والزيف، تحكم المتلقي بما يجب ولا يجب أن يقال؛ “خطاب الهيمنة والقمع والتبشير”.

علّق الشيخ معاذ الخطيب على الحملة ضد قائد جيش الإسلام زهران علوش: “أنا لا أعرف سر الحملة على هذا الرجل، جدوا لكم غيره.. وأنصح المشتغلين به أن ينصرفوا إلى النظام الذي يقول: إما أن تقبلوا ظلمي، أو أذبحكم واحداً واحداً، وأقصفكم بالبراميل واحداً واحداً”.

تصريح الخطيب، يبدو في ظاهره بسيطاً شفافاً، يدافع فيه عن رأيه حول رجل إشكالي كزهران علوش، لكنه في واقع الأمر يضمر نَفَساً سلطوياً متعالياً بعض الشيء. يحاول عبر لغة دارجة خفيفة إظهار آليات مستترة للإرشاد والصواب، تبتعد عن أية امكانية للنقاش، أو حتى تقليب الأمر بشيء من الشك. فعبارة “جدوا لكم غيره، انصحكم بأن تنصرفوا إلى النظام” تبدو سريعة، مباشرة وفجّة. إنها “أدوات” خطاب السّلطة، أي سلطة واثقة من امتلاكها حقيقة واحدة ووحيدة.

السباق نحو الخطابة والإرشاد، يظهر جلياً عند شخصيات المعارضة والنظام السوريين. الرغبة في السلطة أصبحت تبدو كأنها حاجة موتورة بحد ذاتها. وإن اعتبر البعض استخدام هؤلاء لمفردات تدل على السلطوية حديثاً غير ذا نفع الآن، إلا أنها في الحقيقة ترصدنا جميعاً، تحاصرنا بشكل لا فكاك منه. إذ لا يخفى على أحد بأن كل سلطة بحاجة إلى “خطاب” يعبر عنها، ويكشف ما تريد ويحجب أيضاً ما تريد. قد يتساوى الجميع في هذا المنحى، منحى الإبتعاد عن الحقيقة والتوجه نحو أطرافها، ولو أن للنظام قسطاً كبيراً من تلك الآلية المبرمجة، ذات الخبرة والتاريخ الممتد على خمسين عاماً.

في المشترك بين الساعين إلى السلطة بأشكالها المختلفة، هناك نوع من الحديث الزائف عن “الحقيقة”، تعكسه القوالب اللغوية التي يُستند إليها في الخطاب. “الدوران حول الحقيقة” التي يحاول المتكلم تغطيتها بجملة من العناصر كي تبدو على توافق “ظاهر”، سواء كان دينياً، سياسياً أم اجتماعياً، فقد يكون من القوة والثبات والتكرار بحيث يجعل المتلقي أقرب لقبوله، مع درجات أقل من إمكانية التفكير فيه أو حتى مناقشته بشكل نقدي هادىء. هنا يكون “الظاهر” أفضل من “الباطن”، وأكثر قدرة على الولوج إلى الأذهان. يصبح سطح الخطاب أكثر أهمية من متنه، ومفردات الخطاب أكثر ولوجاً من أفكاره.

متن الخطاب يصبح مع الزمن أكثر تهميشاً، حين يغلف بالدين مثلاً، العنصر الحاصد للتوافق الاجتماعي لمجموعة ما، حتى وإن لم يكن “متن الخطاب” في متناول أفكارهم وقناعاتهم الشخصية والمجتمعية العامة. وهكذا يمسي “الظاهر” هو الأساس عمّا عداه من عناصر في طرح الخطاب المرتبط بالسلطة حصراً. الظاهر الديني أبسط وأقل تعقيداً وأكثر نفاذاً إلى طبقات الوعي، غير المرتبط بالنقاش العام.

يقول زهران علوش: “البغدادي وعصابته يحاولون إكراه عامة المسلمين بالدين، إذ أنهم وظفوا أنفسهم شرطة على أبواب جهنم، يلتقطون الناس ليكفرونهم ومن ثم يدخلونهم النار، فيكره المسلمين الإسلام، وبالمقابل يحاصر ويضيق من رفض فكره فيكره المسلمين عامة بالجهاد، كي لا يبقى أحد على منهج الرسول عليه الصلاة والسلام”. المقتطف من خطبة ألقاها زهران علوش، بأحد مساجد الغوطة الشرقية، منذ فترة، حمّل رسالته بالانتماء الديني الذي يربط الأفراد ببعضهم البعض، ويميزهم عمّا عداهم من الآخرين، ما قد يخفي الجزء المستتر/المسكوت عنه من الخطاب، مزاحمة سلطة داعش الدينية، ويخفف القابلية للمراقبة.

قابلية المراقبة وإعادة التقييم والرصد، يمكن أن تضيع في الخطابات المشبعة بالمفردات، التي تم طرحها على مر السنوات، بشكل متكرر، والمصحوبة بشحنات عاطفية تتّخذ من “الخطاب القومي” المرتبط بالوطن “المقدّس” مذهباً لها. “ما يمر به الوطن مؤلم وصعب وأشعر بما يشعر به الشعب السوري، وسوريا ستبقى كما عهدتموها بل ستكون أقوى مما كانت، الجولان قضيتنا المركزية، والقدس محور اهتماماتنا، ونحن ندعم المقاومة في وجه الاحتلال الإسرائيلي”، قال بشار الأسد.

يقوم الأسد بمهارة بتنظيم الفوضى في خطاباته، وذلك من خلال الدوران حول الحقيقة، عبر استخدامه لأوجه المخزون المعرفي الجمعي السابقة، والتركيز على العدو الذي لا غبار عليه، والخوف من الأحداث الغامضة. يستخدم بنية لغوية لها ميراث طويل، قديم ونافع في التسكين والتركين، وذهاب الأفكار نحو وجهات منتقاة بعناية. هي فعلاً بنية لغوية قابعة في اللاوعي الجمعي. خطابات الأسد كانت وما زالت تستفيد من كمّ الوقاحة “الجدية”، التي تشكل مفرداتها وتصوراتها.

ولأن الأحداث لم تعد مجرد همس مستتر، أصبح استخدام الوقاحة الخطابية داخل ماكينة “البروباغاندا” في التصريحات السياسية أمراً فاضحاً وغير مجدٍ، كما حدث مع الناطقة الإعلامية باسم الحكومة السورية بثينة شعبان، أُثناء حوارها مع مذيعة محطة سكاي نيوز، حين سألتها: “ماذا تفعلون بالسجناء لديكم، هل تعذبونهم وتقتلونهم؟”، فأجابتها” نحاول في سوريا إيقاف الإرهاب الذي يصلنا من دول أخرى”. ألاعيب الكلمات هنا لم تنفع بثينة، ولم تثر كلمة “إرهاب” الوقع الذي ظنته، إذ أن المذيعة قاطعتها مطالبة إياها بالإجابة عن سؤالها المتعلق بالسجناء، فتجيب: “لا يمكنك أن تأخذ كل هذه الأكاذيب المفبركة من أشخاص يستهدفون سوريا وهويتنا والمسيحية. هناك مسيحيون في العالم الغربي، ألا تقلقون على المسيحيين وعلى لغة المسيح وعلى 11 راهبة مختطفة”. وهنا أيضاً، تبين فشل شعبان في استخدامها لأحد عناصر تشكيل الوعي الغربي-المسيحي، في بعد سياسي، كعنصر يراد منه إظهار توافق ظاهر مع السياق الثقافي-السياسي “المفترض”، للمذيعة الأجنبية، التي بدورها لم تعر اهتماماً لجواب شعبان، وسألتها سؤالاً آخر.

لنعد إلى معاذ الخطيب، الذي أجرى مقابلات إعلامية عدة، لتبرير زيارته إلى موسكو، تلك الزيارة التي تعرّض إثرها لهجمة شديدة من شرائح مختلفة شعبية وسياسية. “عندما نحترم أنفسنا ونكون يداً واحدة، ونحاول أن نحرك القضية لتتحرك باتجاه مصالحنا، لأننا بحال تركناها سائدة فالفوضى والإهمال الدولي سوف يقتلها”، علق الخطيب في مقابلته مع تلفزيون “الغد العربي”.

أكد الخطيب في معظم تصريحاته حول زيارته إلى موسكو على ضرورة أن يعمل السوريون معاً “يداً واحدة”، من أجل القضية لسورية، لكن تصريحه هذا جاء متناقضاً بشكل كلي مع الفعل الذي قام به “منفرداً”؛ قرار التفاوض مع الروس.

وعلى ذلك، يعتبر تصريح الخطيب بهذا المعنى، مجرد كلمات فوضوية، بعيدة كل البعد عن الحقيقة الواقعة المرئية، ما يجعل من مفرداته الملفوظة مفقرة ومهترئة.

تعتبر المبررات التي صرح بها الخطيب، ذات طابع تبشيري خالص، واعدة بالانعتاق من النظام السوري، وإمكانية حل الأزمة السورية. وكأنه صاحب الحق في شمولية المعرفة، وبشارة الغد المشرق: “هناك أمر ربما لا ينتبه الناس له، بأن الدول كلها لن تقدم لها شيئاً، أنت يلي لازم تحركها، فكلما استطعت تحريكها في المجتمع الدولي والمواقع المناسبة، ومفاتيح القرار، فهي تتجه نحو الحل”. إنه التعاضد والتآرز بين مكوّنات التعالي والتبشير اللغوية البحتة، كما قدّمها الخطيب بكل ثقة كعادته.

يبدو وكأن السلطة التي امتلكها الخطيب، كرئيس سابق للائتلاف الوطني السوري، على سبيل المثال، حررت لديه ما يمكن تسميته بالأنا الحكومية؛ الأنا التي تخلق لدى ممارسي السلطة شعوراً بالسمو، والاختلاف عن باقي أفراد الشعب. وإن رفض هؤلاء هذا الوصف، إلا أن اللبس يظل قائماً في جوهر فهمهم للسلطة التي منحت لهم، فيتم الحديث عنها بوصفها مرفوضة من تلك النفوس التي تمتطيها، لكنهم لا يلبثوا أن يغرقوا في ممارستها سلوكياً ولغوياً.

خطابات السياسيين والعسكريين ورجال الدين، مليئة بـ”الأمر والنهي”، والتهويل والتخوين والمنع والتعالي، يلتف ظاهرها حول الحقيقة، وتصب جميعها نحو المتلقي، بصيغة أمر بعدم الوجود أو الظهور، أو التزام الصمت، أو الإفصاح ضمن منظومتهم المعرفية والحقيقة النابعة من سلطتهم.

في إحدى المقابلات، قال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو: “أعتقد بأن عدداً كبير من الناس، من بينهم أنا، لا يرون وجوداً للحقيقة، إن اللغة فقط هي الموجودة”.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى