مؤشرات صعوبة التنبؤ بالأزمة السورية
غازي دحمان *
تتميز الأزمات الكبرى بطابع المفاجأة الدائمة والتي غالباً ما تكون بمثابة المحرك الأكثر فعالية في هذا النمط من الأزمات، على رغم وضوح محركات الأزمة، على الأقل من الناحية النظرية، إلا أن تفاعل هذه المحركات مع الوقائع الجارية على الأرض واضطرارها إلى إجراء عمليات تكيف تجعل من إمكانية التنبؤ بصيرورة الأزمة ومآلاتها أمراً بالغ الصعوبة، وذلك عائد بدرجة كبيرة إلى محاولات أطراف الأزمة تطوير إستراتيجياتها في الإدارة بما يتناسب مع المعطيات المستجدة، ما يؤدي بدوره إلى إفقاد التحليل السياسي أهم عناصر قدرته، ليس في قراءته لواقع الأزمة، وإنما في استشرافه لتوجهاتها، أي القدرة على التنبؤ السياسي.
ينطبق هذا الأمر على الأزمة السورية في شكل كبير، حيث تتسم عملية تفاعل ديناميات هذه الأزمة بطابع متحرك سواء على مستوى إستراتيجية النظام في مواجهة الحراك الشعبي، أو بالنسبة الى إستراتيجية قوى المعارضة في تزخيم الحراك وتصعيده ضد النظام، حيث تلعب وقائع البيئة الداخلية وممكناتها المتطورة، فضلاً عن مواقف البيئتين الإقليمية والدولية، دوراً مهماً في رسم إستراتيجيات الطرفين وتطويرها بما يجعلها أكثر قدرة على التكيف مع التغييرات الحاصلة والتي ترتب بدورها استحقاقات متجددة ومفاجئة في ظل صراع الإستراتيجيات الدائم.
ولعل المراقب للتطور التاريخي للأزمة السورية، وتحديداً منذ ستة أشهر من انطلاقها، يلاحظ التطور الواضح في الإستراتيجية التي اعتمدتها السلطة في إدارة الأزمة، والتي بدأت في مرحلة أولى بمحاولة عزلها عن إطارها الوطني العام عبر تفكيك مكوناتها إلى إشكالات ذات طابع محلي ضيق وقضايا مطلبية وخدمية لا مشكلة في الاعتراف بها وتحميل مسؤوليتها إلى مستوى إداري متدن في سلم صنع القرار في النظام مثل رؤساء البلديات وفي أحسن الأحوال محافظ المدينة.
غير أن اتساع رقعة الاحتجاجات، ورفع المتظاهرين لشعارات تنادي بإسقاط النظام، الأمر الذي كشف للعالم الخارجي عن أزمة عميقة في صلب النظام وطرق ممارسته للسلطة وطبيعة إدارته للبلاد، دفع بالنظام إلى طرح ما أسماها حزمة الإصلاحات في مجالات الإعلام والانتخابات والأحزاب، في محاولة كان الهدف منها عزل قوى المعارضة، عبر الإيحاء للمجتمع السوري بأن هذا النظام الذي يملك قوة قهرية كبيرة، إنما يقدم فرصة مهمة (على وهنها ومحدودية تضمنها للتغيير المنشود) للمجتمع السوري، سيؤدي ضياعها إلى إدخال البلاد في مخاطرة كبيرة، وقد تزامن هذا العرض مع حوادث ذات طابع طائفي في حمص وريف دمشق، وهو ما يشير إلى انطواء إستراتيجيات السلطة على قدر من إمكانيات التفجير في لحظة معينة من صيرورة الأزمة.
وقد ساهم تطور الأزمة في البلاد، وبخاصة في ظل تصعيد حركة الاحتجاج وتفاعل المواقف الإقليمية والدولية المطالبة بالتغيير الفوري، في تطوير إستراتيجية النظام الهادفة إلى خنق الحراك الشعبي عبر استخدام العنف بأقصى درجاته وممارسة إستراتيجية اللعب على حافة الهاوية، عبر تثمير خيارات ممكنة، لم يتم التصريح بها، لكن إرهاصاتها على الأرض باتت واضحة في شكل جلي، وهي جزء من ممكنات التفجير التي تنطوي عليها إستراتيجية السلطة.
مقابل ذلك، فإن إستراتيجية الثورة تميزت بقدر كبير من المرونة والتطوير، سواء من خلال صنع الهياكل التنظيمية للحراك، أو من خلال العمل الميداني اليومي، على رغم أن الحركة انطلقت من مناخ غير سياسي بامتياز ويفتقر الى الخبرة الحركية والتنظيمية، وبالطبع يفتقد الخبرة في إدارة الأزمة، ناهيك عن محدودية الخيارات المتاحة وضعف الإمكانيات المتوافرة، إلا ما يتيحه الرهان على الإمكانيات النائمة والقدرة على تفعيلها في ظل كثافة نيران النظام، وهو ما كان من نتيجته ضخامة فاتورة الدم والاعتقال.
إلا أن إستراتيجية الثورة لم تسلم بدورها من ممكنات الفوضى التي تكتنفها، وبخاصة في ظل حالة عدم وضوح الخيارات والبدائل مع استفحال الممارسات القمعية للنظام والتي كان من نتيجتها مقتل آلاف الناشطين واعتقال أعداد كبيرة منهم وجرح أعداد أخرى واضطرار الآلاف الى توقيع تعهدات بعدم المشاركة في الحراك، ناهيك عن تشرد عشرات الآلاف داخل سورية وهذه الجزئية غير مرئية في الأزمة السورية، وهذه الأعداد في غالبيتها قوى منظمة وذات توجه سلمي ولديها قدرة معتبرة على ضبط الحراك وتنظيمه. وإخراج هذه القوى من خانة الحراك من شأنه تضييق الخناق على الحركة الاحتجاجية وتحول قيادتها إلى أطراف وجهات أقل تنظيماً وثقافة ما يؤدي بدوره إلى الدفع صوب خيارات غير مرغوبة في هذه المرحلة.
والحال فإن مزاوجة نزعات التفجير في إستراتيجية النظام مع حالة غموض البدائل والخيارات في واقع الحركة الاحتجاجية من شأنه الإحالة إلى حزمة فضفاضة من الاحتمالات التي تبقى مرهونة للمفاجأة وإمكانياتها من دون القدرة على تقدير مآل الأزمة واحتمالاتها.
* كاتب فلسطيني
الحياة