ماذا مع القتل الفاشي؟
عزيز تبسي
رغم الأرض الواسعة ،لن يبقى لكم سوى قبوراً ضيقةً،ولن تريح عظامكم كذلك،ويفاجئ من عمل على إنهاضكم ببشارة النشور ،كونه سيجدكم مثقلين بالتعب وآلام الظهر من الغفوة الطويلة فوق حصى مدبب جرّح لحمكم وأنهكه، يقول لكم على سبيل إشغال الوقت”تأخرت عليكم”أليس كذلك.
ولن تنهضوا ساعة يأتيكم صوته الراعد،بقفزة أرنب مذعور إلى السهوب الواسعة،حيث كل الكائنات بإنتظاركم السماء الرائقة لتنظيف بصركم،والشمس المتهيئة لإخراج الرطوبة من عظامكم،وأناشيد جوقة الطيور تواكبكم لتنزع من أذانكم صمت الدهور،وهناك المياه المباركة تستدرجكم بخفقات زبدها ،علكم تتحفزوا لرمي الكفن وتلاقوها ببهجة من خرج من ثوب الموت إلى عري الحياة.
-1-
يقتنع الكثيرون يوماً بعد يوم ،أن مهمة إزالة نظام سياسي ذو سمات فاشية متأصلة،مهمة فوق بشرية،مهمة تستوجب تدخل الله لحلها.ولله مشاغل كثيرة في هذا الكون اللامتناهي،قد تكون إزالة بقايا الأنظمة الفاشية آخر ألوياته،وعلى وجه الخصوص حين تنتهي إليه دعوتان متناقضتان من مخلوقاته الأرضية،واحدة تتوسله التدخل لدحر الفاشيين أعداء الله وتذرير أثرهم،وأخرى لمباركتهم وشد إزرهم في مواجهة الأعداء أنفسهم.
بالمقابل يتوجب،علينا، الإنتباه لميول ومزاج شعب مقهور ومهمش،وإدراك حقيقة الآثار العميقة لنصف قرن من الفراغ السياسي والفكري،وإشغالهما بتأويلات متعددة للسردية العقائدية الإسلامية المنفصلة عن شروطها التاريخية التكوينية،وتواطئ أربعة أجيال على الأقل ،من “طلائع”العمل السياسي مع الفاشية ومقولاتها الأيديولوجية والإندماج بهما.لن تسعفنا عبارة الشاعر المغدور”يحفظون خريطة الفردوس أكثر من كتاب الأرض”لكون المطرودين من الأرض لم يبقى لهم سوى الفردوس،أو بعضه،بعد أن خذلتهم وتنكرت لهم قوى صعدت في يوم ما حافلة الثورة ولم تترجل إلا في موقف الثورة المضادة.
رغم ذلك ،لانبحث عن تبرير الإسلاموية المناضلة الراهنة وغيرها،بل نبحث في فهمها وفهم الشروط التاريخية التي صنعتها،فهي ليست حجراً نيزكياً منفلت من إنفجار كوكبي،بل إبنة الشرط الإجتماعي السوري-العربي الثقيل،وإطاره التاريخي الذي ساهمت في تكوينه أنظمة ما بعد الإستعمار ،وما بعد جنون الإستعمار ذاته.لنتيقن بأن خطبة الوداع ،والبيان الشيوعي يحققان ممارسة تاريخية واحدة،تتعلق بنتائجهما المحققة هذه السيرورة الإجتماعية،التي ساهما في صنعها وإطلاقها،وتباينت في مساراتها.
-2-
الثورة فعل يقوم على إبراز ،من غير إفتعال مبتذل،الأساس الإنقسامي العميق في المجتمع وإظهاره للعلن،وتؤسسه على التضاد مع أساس التوحيد الشكلي التي عملت على إنتاجه الطغمة العسكرية وأجهزتها الأيديولوجية.كل جماعة ستظهر غير ماكانت ،كل فرد سيظهر غير ماكان،أعضاء الأحزاب سيتجرؤون على قياداتهم المحفوظة والمملحة جيداً،والمرأة المضطهدة على زوجها،والعسكري المنبوذ على الجنرال والفلاح المقهور سيخرج من صدره صرخة حمدان قرمط،كل ذلك وغيره بعد هذا اليوم المجيد الذي ماإنفك يعبر كدفقات شهب،لن تكف عن تجريف التراكم المصطنع لأصبغة التلاحم والتماسك والوحدة،ماترائ يوماً صخور كلسية صار حصى،ويعيد بصبر وحصافة تكوين إصطفافاته وفق مشيئته وقناعته ومصلحته.ويذكرنا بعض “الثوريين” بقانون علمي بليغ:أن الذي يمشي يسبق الواقف!!ويتوجب علينا شكرهم،عند توفر الوقت لذلك.
-3-
تبقى الفاشية أكبر مستثمر للخوف،بعد زراعته وسقايته ورعايته في وجدان وعقول الناس-فئران تجارب جاهزة لتطبيقاتها المتعددة-التخويف من التغيير ونتائجه،الفحص الدوري للجماعة المحلية وسبر نقاط ضعفها ومكامن التسلل منها إلى أعماق الخوف النائم وإيقاظه،يوماً بجفلة على صوت إنفجار مخطط له بعناية،ويوماً على صراع بين جماعات محلية أعد بحرفية طهاة الرؤساء ورشات توابلهم ،والإستعانة الدورية الإنتقائية بكل مواقع الإعلام لتوصيل سردية الحروب الأهلية والقتل الطائفي والتفجيرات البهائمية في أكثر الأماكن التي تصنع الطمأنينة للجماعات التائهة-دور العبادة-،والتستر على أسبابها وتجاهل تفسيرها. في جعبة هذه الأنظمة الكثير لتفعله من أجل الحفاظ على سلطتها وإمتيازاتها،والحصول على تلك الرعدة في أوصال العامة،قبل حصاد الولاء.إحذروا من سيأتي بعدي سيكون أسوء مني.إذاً إبقى كما أنت وإلى الأبد ياسيدنا.
وهي فرصة لاتعوض للموالين من عشائر-المنحبكجية-للوقوف تحت شرفة الجنرالات،ليهتفوا:حذاري من حساء الملفوف!!بإعتبار أن الخلية الأمنية قضت بعد تناولها حساء الملفوف،وفق إحدى الروايات الشفهية.
ولكن ماذا بحيازة العبيد،ساعة تتسرب إلى تضاعيف حيواتهم مصول التمرد،عبر نبذ تلك العبارة التائهة التي ما زالت تسمى”عدم الرضى عن قسمة الحياة”وتدفعهم لإظهار نفورهم من تحمل ما باتت لا تحتمله الزواحف والرواكب،ليس أمامهم سوى خيارين إما تجديد شروط عقد العبودية بتعديل بعض من عناصره،أو بحرقه وتبديد حبره والكفاح لتدوين عقد جديد،ليس بين العبيد والأحرار هذه المرة ،بل بين الأحرار والأحرار.
-4-
فئات وسطى مدينية،إلتقطت من الحداثة عناصرها الأكثر عملية وحيادية وقابلية للدمج السهل في خيارات حياتها اليومية:الحصول على درجة مقبولة من التعليم /دعم التشارك مع المرأة-الزوجة المؤهلة،في تأمين متطلبات الأسرة/الإدخار المالي لتأمين منزل في المدينة الكبيرة/تنظيم الأسرة بتحديد عدد الأولاد…بهذه العوامل تعتقد أنها قد تحصنت من طوارئ ومفاجآت النوائب الإقتصادية التي لا تكف عن تجريف الطبقات الإجتماعية،وتحقيق حالة من الإستقرار النسبي،وينتج عن هذه الحالة ميلين:
ميل يتقدم بحذر لإستكمال عناصر الحداثة وتعميقها العدالة/الديموقراطية/المواطنة/الجمهورية/العلمانية/العدالةوالمساواة المنبثقة من التعاليم الإسلامية..
وميل محافظ متكور على ذاته،يتنعم بالوضع الذي تكيف مع معطياته وبات أسيره،أشد مايروق لهذا الميل: الفكر الوعظي بحديه التربوي والديني.تكون العامة وتفاصيل حياتها موضوعه النقدي والساخر معاً،يتجنب السلطة ويطيعها ويتعيش على الهوامش التي تبقيها له ليتحرك عبرها ويتنزه.مقرعاً أولئك الجهلة،الذين لا يرضون بزوجة واحدة،الناثرين للأولاد في الأزقة والساحات وورشات العمل غير الصحية……،يجب تثبيت الوضع الطبيعي،والعودة إليه في حالة تضييعه،يقولون أخيراً في ختام الموعظة.ولكن ما هو الوضع الطبيعي،أو مايتهيأ لهؤلاء أنه طبيعياً؟أن يبقى كل شئ جامداً في الثلاجة الفاشية الدهرية.
-5-
كم سيبدو صعباً ومعقداً على المنتفضين وهم في أوج معركتهم من أجل الحرية،الكفاح لأجل إستبدال “قيادات”الأمر الواقع،المسألة معقدة ومربكة، ليست بسهولة إستبدال القميص أو الجورب في اللحظة الأخيرة قبل الخروج من المنزل،مهمة شاقة تبدو في غير أوانها،لكن من هذا الذي يأتي في أوانه في زمن الإنتفاضات الشعبية.عمل بعض هؤلاء(هيئة التنسيق الوطني) بغباء وإنعدام ضمير على تيئييس الناس ودفعهم دون قصد معلن –المعلن هو عكسه-للعودة إلى أحضان الفاشية وتدارك ما فاتهم من وقت جرى تبديده على مهمة مستعصية.وينبري جناح آخر منهم،إلى تسويق قيم”ثورية”بسعر الكلفة وتخفيضات آخر الموسم،هي عينها كلفة قصهم لبضعة أسطر من المواقع الألكترونية المجانية ولصقها على صفحتهم.ولا يمكن تخفيف أو إنكار الحجم الحقيقي لا الإفتراضي لرهط من هؤلاء،ممن باتوا يعرفون ببقايا “إعلان دمشق”،إنه يوازي على الأكثر تمثيل-تنظيم الصاعقة- في منظمة التحرير الفلسطينية.والغريب أنه لم نسمع أو نقرأ عن معتقل ينتمي إلى هؤلاء،ولم نسمع عن دورهم في إطلاق تنسيقية مناضلة أو تحشيد لتظاهرة أو أي مبادرة ميدانية مهما إنخفض وزنها وفعلها وأثرها،زمرة من”المناضلين”الفيسبوكيين والتلفزيونيين ورواد الحانات والمقاهي،تعزز وزنهم بالأموال التي تصلهم وبالوزن التمثيلي المخادع التي حصلوا عليه في المجلس الوطني،والذي إستغلوه لتأمين طلبات الهجرة والرحلات “التثقيفية”لأعوانهم وهو الشكل الوحيد الذي بحوزتهم لتأمين “قاعدة” مما يلتقطونه من نوافل الحركة الثورية وهوامشها،ما يذكر بسلفهم غير الصالح-خالد بكداش- حين كان وعائلته يستغلون البعثات والأموال التي تأتيهم من الإتحاد السوفياتي ومنظومته لشراء الذمم وإنتزاع الولاءات………..الخ.هذا نمط من الجماعات،باتت عبئاً على الإنتفاضة الشعبية الثورية.
وكذلك حين يستمع المنتفضون لعديد من هؤلاء المنشقين اللذين لا يكفون عن إبراز كل مظاهر المسكنة والتعفف والعجز عن القيام بأي فعل يخدم “قناعاتهم”في الوقوف جانب الشعب ومطالبه العادلة،مما إضطرهم للوقوف إلى جانب الطغمة العسكرية لربع قرن –كحد أدنى-ومشاركتها سرقاتها وإمتيازاتها وجنون قمعها،رغم ذلك ينبغي القناعة لم يرغب بأن لا حول ولا قوة لهم،حتى حين كانوا قبل ساعات يأمرون وينهون في الحكم،وبات المرء يشك في النسل الذي يتأبطونه ولا يفارقهم ،ترى هل هؤلاء من صلبهم أم ثمرة نوم نسائهم في أسرة الجنرالات.
حلب-آب2012