ما بعدَ حلب.. ما قبلَ حلب../ د. مازن أكثم سليمان
من نافل القول إنَّ ما يحدث في حلب هو هزيمة عسكرية وسياسية بالغة للثورة السورية، وليس من باب المُبالَغة أنْ نصفها بأنَّها مفصلٌ عميقَ التأثير في مآلات هذه الثورة، ولا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار البُعد الإنساني التراجيدي، وانكشاف حجم الانهيار الأخلاقي العارم الذي سيصبغ هذه الحقبة ليس في المشرق وحده؛ إنَّما في عموم العالم.
تبدو الاحتمالات ما بعدَ حلب مفتوحة على توضُّعات جيوسياسية وعسكرية بالغة الحساسية والدِّقة، ومن المُؤكَّد أنَّ تكبيل أذرُع القوى الإقليمية من قِبَل الأطراف الدولية الكبرى كان له دور حاسِم في ترك قوى الثورة في حلب في حالة شبه معزولة لمُواجَهة مصيرِها، ولا سيما تلكَ المُقايَضة السياسية التي دفعَتْ بالأتراك إلى القبول تكتيكيّاً بصفقة منع قيام كيان كردي في شمال سورية عبر إطلاق عملية (درع الفرات)، مقابل التخلّي عن دورهم على الأقلّ في معركة حلب.
لعلَّ من أُولى انعكاسات هذه الهزيمة تتعلَّقُ بإضعاف الموقف التَّفاوضيّ للمُعارَضة في المرحلة (الترامبية) القادمة، وهو الأمر الذي تمَّ بغطاء واضِح من الإدارة الأمريكية الحالية، أو لنقل بتخاذل فاضِح عن القيام بواجباتِها بوصفِها زعيمة أقوى دولة في العالم على أقلّ تقدير.
لهذا، فمن الطبيعيّ أنْ ترتفع الأصوات المُتشائمة الآن، والتي باتت تتحدَّث بمُنتهى اليقين عن وجود خطط لإعادة تأهيل جدِّيّة للنظام السوري في المرحلة الآتية بفعل ما يرونَهُ تحوُّلاً حاسِماً في توازنات القوى بعد حلب.
لكنَّ السؤال المحوري في هذا الإطار، والذي لا ينبع من باب بيع الأوهام، بقدر ما يستمدُّ مشروعيته من زاوية القراءة المَنطقيّة الباردة للمشهد السوري المُتشظِّي، يتعلَّقُ بمدى الإمكانية الواقعيّة للعودة إلى حالة ما قبل عام 2011، أو بالأحرى يتعلَّقُ بمدى قدرة القوى الدولية مهما تكاتفَتْ وتوافقَتْ على ترميم ما يُدعى (الدولة السورية) كي تُحاكي ما كانت عليه؟
وبعيداً عن الكلام الشعاراتيّ المُرتبط بفكرة الإيمان بحقّ الشعب السوري ومشروعية ثورتِهِ وضرورة انتصاره (وهوَ كلام لا أُقلِّل من صدقيَّتِهِ على كُلّ حال)، وكذلكَ بعيداً عن القول إنَّ التَّغيير قد تمَّ وانتهى الأمر، وما نراهُ ليسَ سوى صراع على شكل هذا التَّغيير وحجمه وترتيباته، أرى أنَّ هزيمة حلب لها وجهان: يتعلَّقُ الوجه الأوّل بتضخيم الانتصار واستثماره بأنماط من التطبيل والتزمير الإعلامي الذي يسعى عبرَهُ الروس والإيرانيون والنظام إلى تكديس أوراق القوّة قدر المُمكن، في حين أنَّهُ يُمكِن لأي محلل عسكريّ مُختصّ أنْ يرى أنَّ مناطق سيطرة النظام من شمال شرق محافظة حماه حتى مدينة حلب هيَ أشبه بدودة جغرافيّة تستطيع قوى المُعارَضة قطعَ شرايينها متى تغيَّرَت التوازنات والمُعطيات الداخليّة والإقليميّة والدوليّة.
ويتعلَّقُ الوجه الثاني بالقول إنَّ قراءة مُتأنيّة لحجم ارتدادات الزلزال الحلبي قد تُفضي إلى (ثورة داخل الثورة) بمعنى الكلمة، إذ تلوحُ باعتقادي مرحلة جديدة من مراحل الثورة السورية سيكون أساسُها تخليق مُراجَعة مسؤولة وشاملة على كُلّ الصُّعُد، وتجميع مدروس للطاقات، وتوجيه أكثَر جدوى لها.
ما من شك أنَّ إعادة تقييم الاستراتيجيات العسكرية التي كانت مُتَّبعة في سنوات الثورة الماضية ستكون من الأولويات التي ستنهَضُ على مُراجَعةِ موضوعة أساليب التَّشبُّث بالمدن والأرض، وستبحث عن خيارات مُغايِرة، ومنها ما يُكرِّرهُ بعض العسكريين عن ضرورة الانتقال إلى حرب العصابات أو حرب التَّحرير الوطنيّة في ضوء انتقال سورية لتكون بلداً مُحتلّاً بمعنى الكلمة.
ولابدَّ أنْ تكون المُساءلة الثانية مُرتبطة بمسألة مُعالَجة تشتُّت الفصائل واختلاف الأجندات والمرجعيّات وتعدُّد الأعلام، وضرورة العودة إلى الخطاب الوطني الجامع، ولابُدَّ في هذا السياق من تكليف الضبّاط المُنشقّين من ذوي الخبرة ونظافة السِّيرة بقيادة الجناح العسكري للثورة.
أمّا في الشقّ السياسي فلابُدَّ من الاعتراف بإخفاق الطبقة السياسية المُعارِضة في تمثيل صوت الشعب السوري الحقيقيّ، وتسويق قضيَّتِهِ في العالم، وذلكَ في ظلّ خللٍ بنيويٍّ يبدأ بافتقاد معظم شخصيات المُعارَضة للخِبرة الديناميكيّة الأصيلة والقراءة السياسية الثاقبة، ويمرّ بالارتباطات الخارجية المُتضارِبة وغير الموثوقة لها، وينتهي بتأثير موازين القوى الإقليمية والدولية التي حجَّمَتْ دورها عن عمدٍ، فضلاً عن اضطراب بيِّن في العلاقة بين الأجسام السياسية والأجسام العسكرية طوال السنوات الماضية للثورة.
كُلّ ثورة تحتاج إلى مُساندينَ وداعمينَ لها، وهذا ليسَ عيباً، لكنَّ عودة القرار السوري إلى الداخِل أوَّلاً وثانياً وأخيراً، أو لأقل إلى أصحابِهِ الفعليِّين ضرورة بالغة، وكذلكَ منح فرصة العمَل السياسي لمجموعة الشباب الثوريّين الناشطين الذين تمَّ إقصاؤهُم في المرحلة الماضية حاجة قصوى وعاجلة أيضاً، إلى جانب لزوم تحمُّل أعباء الضغوط السياسيّة بقدرات براغماتيّة تتَّسِم بالحِنكة والمُداوَرة والاستفادة من لعبة التوازنات والاختلافات الدوليّة والتغيُّرات التي قد تطرأ في أيّة لحظة هيَ بالتّأكيد أمورٌ مُلِحّة ومطلوبة في أداء الجسم السياسيّ للثورة السورية، على أنْ يتناغَمَ هذا الأداء مع الجسم العسكريّ إلى مُستوىً عالٍ يُحافِظُ على الثوابت الوطنيّة لأهداف الثورة، ولا يُفرِّطُ بها. وربّما تكونُ مسألة عقد مُؤتمر وطنيّ جامِع من أولويّات المرحلة المُقبِلة من دون شكّ؟
مُخطئٌ من يعتقد أنَّ هزيمة حلب هيَ نهاية المطاف، لكنَّهُ مُخطئٌ أيضاً من يُقلِّلُ من خطورة ما حَدَثَ. لهذا ومن مُنطلَق (رُبَّ ضارّةٍ نافعة) يبدو لي أنَّ ما بعدَ حلب يُحتِّمُ على الثورة وفاعليها وجُمهورها أنْ يعودوا إلى المَنابِع الوطنيّة الأُولى لها، وأنْ يبتكروا حلولاً واقعيّة ومُبدِعة وأصيلة في الوقت نفسه، وذلكَ إذا أرادوا أنْ يكونوا أوفياء فعلاً لحُلم الحُرِّيّة التي خرَجوا من أجلِها، ولمَقولة الربيع العربي الأنقى والأشهر: الشَّعبُ يُريد…
شاعر وناقد سوري