ما جدوى الإسلام السياسي؟
في كل وادٍ يهيمون
سعيد ناشيد
اعتبره فرانسوا بورغات امتداداً طبيعياً لحركات الاستقلال الوطني في دول الجنوب، واعتبرته الصحافية الفرنسية الشهيرة كارولين فوريست استمراراً للإيديولوجيات الفاشية، واعتبره المفكر الاقتصادي المصري سمير أمين مجرّد إفراز للرّأسمالية العالمية، بل لعله الإيديولوجية الأكثر تناغماً مع مقتضيات العولمة الرّأسمالية بحسب تحليل السوسيولوجي الفرنسي أولفييه لوروا. ويحاول المفكر السويسري طارق رمضان أن يبحث له عن موقع داخل العولمة البديلة. وقد سعى الرّئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغن إلى توظيفه في حربه على الشيوعية، ووظفه المحافظون الجدد في حربهم على القومية العربية، ويعتقد المناضل البريطاني المعروف كريس هارمن بإمكانية التحالف معه في بعض الأحيان قصد مواجهة الرّأسمالية العالمية، ويظنّ الصحفي الفرنسي المثير للجدل ثييري ميسان أنه حليف استراتيجي في مناهضة الإمبريالية والصهيونية، ويراه الفيلسوف الأميركي المحافظ برنارد لويس عدوّاً لدوداً لقيم الحداثة والديموقراطية. ويؤمن الفيلسوف اليساري الفرنسي ألان غريش بإمكانية تكيّفه مع مقتضيات الحداثة.
في كل الأحوال، ليس هناك تيار اختلف حوله الباحثون والمفكرون والفاعلون السياسيون مثلما اختلفوا حول تيار الإسلام السياسي. وقد طال الاختلاف معظم الأوساط العلمية والسياسية، منهم: علماء الاجتماع، علماء السياسة، اليساريون بكل أطيافهم، البيئيون بكافة أنواعهم، المناضلات النسائيات، الفاعلون الحقوقيون، النقابيون، المحافظون، المحافظون الجدد… إلخ.
نحن إذاً، بكل المقاييس العلمية والسياسية، أمام تيار معقد، فرض ارتباكاً في المواقف واختلافاً في التقديرات، وأثار الكثير من التوثر والتضارب في الرهانات. إلا أن السبب في ذلك التضارب يعود إلى طبيعة التيار نفسها. ذلك أننا في واقع الحال أمام تيار ديني متقلب الأحوال والأشكال ويمتلك قابلية كبيرة للتحوّل من موقف اجتهادي إلى موقف مختلف، وله قدرة على الانتقال من القضية التي تعني مصلحة الدين إلى نقيضها الذي لا يجانب بدوره مصلحة الدين، ومن الرأي الشرعي إلى خلافه الشرعي أيضاً. كيف لا، والنص الديني نفسه حمال أوجه، وأنزل القرآن على سبعة أحرف. وأما مدونة الحديث، فإنها تتّسع لكل المفارقات التاريخية. وحتى «مصلحة الأمة» أو «مصلحة الدين»، كما يحب أن يقول الإسلاميون، فليست في واقع الحال سوى عنوان افتراضي قد نكتب تحته أي شيء.
لعل الطابع الغالب على الإسلام السياسي هو القابلية للتكيّف مع مختلف الظروف التي يفرضها الواقع العيني. إذ، حين يكون الواقع «طائفياً»، كما هو الحال في لبنان، يكون الإسلام السياسي طائفياً أيضاً. وحين يكون الواقع «سلفياً» كما هو الحال في السعودية، يكون الإسلام السياسي سلفياً، بحكم أولوية أحكام الواقع العملي على كل القيم. وحين تقوم «أحكام الواقع» بمنع المرأة من السياقة أو الدراسة أو العمل، لا يبادر الإسلام السياسي إلى المطالبة بالمساواة بين الجنسين بدعوى أن «الإسلام كرّم المرأة». لكن، متى انتصرت قضية من قضايا المرأة جرّاء تطور الوعي، إلا ونرى الإسلام السياسي يتكيف بسرعة مع مقتضيات الوعي الجديد؛ فللضرورات أحكام، والضرورات تبيح حتى المحظورات.
لعل القدرة على التكيّف السريع هي نقطة القوة الأساسية للإسلام السياسي. لكنها أيضاً نقطة ضعفه: فهي نقطة قوته؛ لأن القدرة على التكيف تعني القدرة على البقاء أيضاً. وليس في ذلك أي عيب سياسي. إنما نقطة الضعف القاتلة، حين يصبح البقاء غاية في ذاته، حين يصبح البقاء لمجرّد البقاء. وقتها يصبح البقاء بلا جدوى، بلا قيمة، بلا قضية، بلا حول ولا قوة إلا بالله! وكي لا ننسى، فهذا أيضاً رهان الكثيرين. ولعله رهانهم الأكبر.
السفير