ما علاقة حرب الشمال الكردي ومعركة تحرير الساحل؟/ بكر صدقي
اتفق كل من وليد جنبلاط وأحمد الجربا، من بين مراقبين كثيرين غيرهما، على أن الأسابيع القادمة ستشهد تحولاً دراماتيكياً في ميزان القوة بين الجيش الحر وقوات الأسد. وثمة من يربطون ذلك ببدء تدفق السلاح على القوات المناهضة للنظام، بعدما تخلى الأميركيون عن تحفظاتهم بهذا الخصوص. وقد بدأت أولى المؤشرات على التحول المذكور في سيطرة قوات “الحر” على مطار منغ شمال حلب، بعد حصار دام شهوراً، وفي إطلاقه لـ”معركة تحرير الساحل”.
ولكن ألم نشهد موجات سابقة من تصعيد هجومي لقوات الحر انتهت دائماً إلى ركود أو إلى هجوم مضاد من جيش النظام؟ بلى، حدث ذلك حين سيطرت كتائب الحر على المعابر الحدودية ودخلت مدينتي حلب ودمشق، في تموز 2012، كما تكرر التصعيد في مطلع العام الجاري حين سيطرت على مراكز عسكرية للنظام في محافظة درعا.
لا شك أن الأمر يرتبط، في كل مرة، بتدفق السلاح والذخيرة بعد طول انقطاع، وربما بوعود سياسية للجيش الحر من دول داعمة، كالوعد بإقامة مناطق حظر جوي مثلاً. ثم تتغير المعطيات السياسية الدولية، فيعود الوضع العسكري إلى ما قبل التصعيد. من المحتمل أن الإدارة الأميركية تلعب دوراً رئيسياً في ضبط إيقاع الصراع العسكري بما لا يتيح تحقيق النصر السريع لأي من الطرفين.
غير أن هناك لاعباً آخر لا يقل أهمية، هو النظام السوري نفسه وحليفه الإيراني. يبدو أحياناً وكأنهما يضبطان، بطريقة غير مباشرة، حركة العدو ويوجهانها الوجهة التي تخدم “استراتيجيتهما السياسية” القائمة على تفخيخ أرض العدو وتخريبها قدر المستطاع. من ذلك مثلاً التخلي طوعاً عن بعض المناطق، كالشمال ذي الغالبية السكانية الكردية، وترك مناطق أخرى تقع بسهولة مع الامتناع عن بذل مجهود جدي لاستعادتها، كحال الأحياء الشرقية من حلب في بداية دخول الجيش الحر إليها، أو مدينتي الرقة والطبقة. لا يمكن الجزم بأنه كان قادراً على استعادتها ولم يفعل، ولكن يمكن الجزم بأنه لم يبذل أي جهد في سبيل ذلك.
بهذا التخلي، أتاح النظام الميدان لظهور قوى نشاز لا علاقة لها بهدف إسقاط النظام، كمسلحي حزب العمال الكردستاني وجبهة النصرة ودولة العراق والشام الإسلامية، فضلاً عن مجموعات إجرامية استغلت فراغ القوة والشرعية لتنشط في السرقات والاختطاف بغرض الحصول على فدية. فإذا أضفنا القصف الصاروخي والجوي من بعيد الذي واظب عليه النظام للمناطق المحررة، كانت النتيجة البديهية هي تحويل حياة السكان فيها إلى جحيم يجعل الناس يحنون إلى “عصر الاستقرار” الأسدي الشهير.
جاءت معركة الشمال الجديدة بين مقاتلي النصرة والدولة من جهة وقوات الحماية الشعبية الكردية من جهة ثانية، في سياق يستثير “الإحساس بالمؤامرة” مهما كان المراقب كارهاً لنظرية المؤامرة. يرسل نظام بشار وفداً للحوار مع قادة الأحزاب الكردية في القامشلي، بما فيها حزب الاتحاد الديموقراطي، لينقل إليهم وعداً من الدكتاتور بـ”حل القضية الكردية” لا أقل!.. يلي ذلك، بعد أيام معدودات، إعلان “الاتحاد الديموقراطي” عن مسودة دستور لـ”غربي كردستان” وعن خارطة طريق مزودة بجدول زمني لإقامة “إدارة ذاتية” فيها.. وبعد أيام قليلة أيضاً تندلع المعارك بين المجموعتين الجهاديتين المرتبطتين بمنظمة القاعدة و”قوات الحماية الشعبية” بدءً من رأس العين وصولاً إلى تل أبيض وعين العرب.
حكومة رجب طيب أردوغان تستشعر خطر الحريق الكبير على عتبة أرضها، فتستدعي صالح مسلم على عجل إلى اسطنبول. ثم يستدعيه الإيرانيون أيضاً على عجل، برفقة عبد الحكيم بشار المقرب من مسعود بارزاني. فجأةً يتحول اللاعب الكردي إلى محور تجاذبات اقليمية لأن من شأن أي قرار يتخذه أن يقلب معادلات القوة الاقليمية من حول سورية وفيها.
وفجأةً أيضاً، بدأت معركة تحرير الساحل!
ما زالت الأخبار شحيحة ومتضاربة عما يجري هناك. كل طرف يستثمر هذه المعركة إعلامياً بما يخدمه. هل جرت مجازر في القرى العلوية المحررة كما يزعم الإعلام الموالي، أم أن الجيش الحر لا يعتدي على السكان المدنيين كما تزعم المعارضة؟ أم أن “أشياء حدثت” وتم تضخيمها؟ الوقت مبكر على إعطاء جواب شافٍ. لكن المؤكد أن العلويين المؤيدين للنظام في تلك القرى لا يرحبون بدخول قوات المعارضة، بل طالما رأوا فيها تهديداً وجودياً للطائفة ككل.
يقول المدافعون عن معركة تحرير الساحل إنها ضرورية لقلب ميزان القوة في معقل الموالاة، أو أن هؤلاء لن يتخلوا عن النظام ما دامت مناطقهم في منأى عن الحرب الدائرة في باقي أراضي البلد. بالمقابل يقول معارضوها من أنصار الثورة إن من شأن فتح هذه الجبهة أن يحول الحرب الأهلية غير المعلنة الدائرة منذ حين إلى حرب أهلية صريحة قد تترتب عليها مخاطر كبيرة جداً على مستقبل الثورة والبلد.
لا يختلف اثنان، على أي حال، في أن هذه المعركة زودت النظام بمادة تظلُّم إضافية في المحافل الدولية، يضيفها إلى “رصيده” من روايته التي تبنتها تلك المحافل، ومفادها أن “الدولة” تخوض حرباً على إرهاب طائفي يستهدف وجود الأقليات في سوريا.
استكمالاً للإحساس بالمؤامرة: هل هي مجرد مصادفة أن يطل جزار سجن تدمر رفعت الأسد برأسه مجدداً ويطرح نفسه في صورة المنقذ؟
نذكِّر هنا بكلام منسوب إلى عم الدكتاتور السوري، نقله عنه قيادي بارز في الحركة السياسية الكردية التقاه في باريس، بناء على طلب الأول، في الأشهر المبكرة من الثورة السورية. قال “العم المنقذ” للقيادي الكردي: أنتم تملكون البترول، ونحن شاطئ البحر. علينا أن نتعاون معاً لتأمين مصالحنا.
سبق لأحد الظرفاء أن قال: “إن عدم إيماني بنظرية المؤامرة، لا يعني أن أحداً لا يتآمر عليّ!”
المدن