ما لا نرى من إساءات صنعتها أيدينا

حسام عيتاني

الدقائق الأربع عشرة المتاحة على موقع «يوتيوب» من فيلم «براءة المسلمين»، تكفي لتكوين فكرة وافية عن مضمونه وعن الخلفيات التي أتى منها منتجو هذا «العمل» وممثلوه وتقنيوه.

من السينوغرافيا إلى الإخراج والصوت والإضاءة وأداء الممثلين و «الكاستينغ»، وصولاً إلى القصة ومعالجتها الدرامية، ينضح بؤس إلى الحد الذي يجعل من الصمود طوال مدة «التريلر» الحاضر على شبكة الإنترنت، معاناة لكل مـشـاهد قرر أن يـشاهد هذا الـشيء الذي أثار ضجة واسـتنكاراً وتـسبب في سـفك دمـاء وقـتلى. لكن هـذه مـعانـاة هينة أمام الشعور بالضيق حيال خفة الفيلم والخفة المقابلة التي حملت الآلاف على النزول إلى الشوارع في المدن العربية.

لا يستحق هذا الفيلم خروج تظاهرة واحدة استنكاراً له. وهو يشير إلى مسألة تتطلب رداً حصيفاً من قبل دارسي الإسلام وتاريخه وتطوره. ويبدأ السرد من قصة طبيب قبطي في الريف المصري يتعرض إلى هجوم عصبة من الملتحين الذين يرتدون الجلابيب البيضاء الطويلة، مصوراً ترك الشرطة المصرية «المسلمين» يدمرون العيادة ومنتقلاً بالزمن إلى عهد البعثة النبوية. الربط الساذج بين ممارسات الجماعات المتطرفة وبين تأسيس الإسلام يريد الإيحاء بأن الرسول محمد هو من أسس لهذه الكراهية والتشدد. يستخدم الفيلم معالجة تبخيسية لمحطات من السيرة النبوية لا تضفي أي بعد جديد، ولو من الزاوية الفنية المحضة، إلى جماعة المسلمين الأوائل ناهيك عن سخاء السيناريو بالشتائم والإهانات الصريحة.

لا قيمة إذاً للفيلم المذكور. بل لعله أسوأ من الناحية الفنية من فيلم «فتنة» الذي أنتجه البرلماني الهولندي غييرت وايلدرز في 2008. فالأخير جهد، على الأقل، في استخدام الصور النمطية السائدة عند خصوم الإسلام وسعى إلى الاستناد إلى النصوص الإسلامية الأصلية لدعم ما ذهب إليه. أما الفيلم الجديد فليس أكثر من سلسلة من الشتائم مقدمة بغلاف رث.

بيد أن المسألة يجب أن لا تقف عند حدود التجاهل. وردود الفعل الانفعالية والعاطفية عند جمهور المسلمين التي سرعان ما تستغلها الجماعات المتطرفة على غرار تظاهرات الاحتجاج في القاهرة وبنغازي وصنعاء، تدعو إلى التأمل في دور الدين، أو الإسلام في حالنا هذه، في العالم المعاصر.

ولا بد من الاعتراف بأن إنسان اليوم الذي تواجهه أسئلة الحياة المعاصرة وتصفعه عند كل منعطف، بات في حاجة إلى قراءة جديدة لمجمل التاريخ العربي – الإسلامي. وصار ذلك الدمج بين التاريخين الديني والسياسي في حاجة إلى إعادة نظر عميقة وعلمية، بعد أن انقلب حملاً مرهقاً لكل من يسعى إلى مواءمته مع العصر ومعطياته.

وليس كشفاً القول إن الرواية الرائجة في الأدبيات العربية – الإسلامية لتاريخ الإسلام خصوصاً في القرون الهجرية الأولى، تطرح أسئلة أكثر مما تقدم أجوبة، من نوع سبب تأخر كتابة السيرة النبوية إلى أواخر القرن الهجري الثاني، وطريقة جمع الحديث وصحة سلاسل الأسانيد وصولاً إلى الكمية الكبيرة من الأحاديث الضعيفة، وتأخر تدوين الفتوحات بل اعتبار قصصها أو ما يعرف بأدب «المغازي» غير ذي صدقية من قبل العلماء المسلمين الأوائل، وتاريخ الفرق وخلافاتها وصراعاتها، والمعاني الاجتماعية والقومية لتعدد المذاهب الإسلامية…

ومن المسائل التي أهملها التاريخ «الرسمي» كثيراً، دور القبائل العربية في القرنين الهجريين الأولين والأهمية الحاسمة التي أدتها القبائل في الصراع على السلطة داخل البيتين الأموي والعباسي.

المفارقة أن من سعى إلى إعادة تركيب صورة قريبة إلى الواقع وتنقية الروايات التاريخية من المبالغات التي زادها أصحاب الغايات السياسية والقومية والمذهبية، هم المستشرقون. وغني عن البيان أن هؤلاء فئات وطبقات منهم الجدي الذي ساهم مساهمات كبرى في إعادة اكتشاف التراث العربي – الإسلامي في جوانبه التاريخية والأدبية، ومنهم بعض شذاذ الآفاق الذين ارتبطوا بمشاريع دولهم الاستعمارية من دون أدنى لبس.

ذلك لا ينفي أن دراسات قيّمة لرسم صورة القرنين الهجريين الأولين قام بها مستشرقون من مستوى مونتغمري وات وليون كايتاني وانياس غولدسيهر. ومن بين المحدثين جون وانسبرو وروبرت هويلاند، على رغم بعض الشطط الذي قد يظهر هنا أو هناك (على غرار كتاب «الهاجرية» لباتريسيا كرونه ومايكل كوك). ويمكن بسهولة تنحية الأعمال ذات الأهداف السياسية حتى لو صدرت عن مستشرقين معترف لهم بأهميتهم الأكاديمية كبعض أعمال برنارد لويس.

لكن الباحثين العرب والمسلمين المعاصرين ارتاحوا إلى وضع المستشرقين كلهم في سلة واحدة وإسباغ الصفات السلبية عليهم، ورفض جل ما قالوه ودرسوه. لقد فضل أبناء جلدتنا سبات العقل وانصرفوا إلى تصنيفه وترتيب مكوناته وبيئته وتوحيده ككتلة صماء جامدة (على غرار ما فعل الراحل محمد عابد الجابري في مجموعته «نقد العقل العربي»)، على أن ينكبوا على فهم أسباب التناقضات الواضحة في روايات المؤرخين المسلمين القدماء للوصول إلى رواية تلائم أدوات عصرنا النقدية والمعرفية. والأنكى أن الدراسات التاريخية المستندة إلى المناهج الحديثة تواجه بعوائق شتى. قضية المصحف المعروف باسم «مصحف صنعاء» نموذج لما قد يواجهه كل راغب في وضع خط زمني لتطور الرسالة الإسلامية.

ليس في مقاربة كهذه أي تهديد لأسس الدين أو الإيمان. بل على العكس. حيث يمكن القول إن من يصر على قراءة فقيرة ومختزلة لتاريخ الإسلام وتطوره، بدلاً من النظر إلى الإسلام كمنجز حضاري في عالم القرنين السادس والسابع الميلاديين، يقف من حيث يدري أو لا يدري موقف الشريك ومقدم الذرائع لمن يريد إنتاج المزيد من الأفلام السفيهة عن الإسلام ونبيه.

الحياة