ما لم تقله فاطمة/ حـازم الأميـن
ما كتبته فاطمة عبدالله الأربعاء الفائت في صحيفة “النهار” بعنوان “الى أخي الذي مات في سورية”، والذي كان يُقاتل مع حزب الله، مثل “نقرة” على وترِ وجدان جماعي لم يسبق أن نقر أحد عليه، على الرغم من أن فاطمة كشفت عن صمت أكثر مما أضاءت على مشاعر.
قالت إن خلف مشهد جنازة شقيقها صمتاً هائلاً لا قوة لها على تبديده. فالشابة أبّنت شقيقها على نحو ما يُؤبَن الأشقاء، لا على نحو ما يؤبن الأبطال. قالت إنها تبكيه لوحدها، وقالت إنها تُحبه، وإن جزءاً من قلبها انطفأ بموته.
صمت فاطمة كان تحدياً لكثيرين، هذا ما شعر به مستَفَزون من هذا النوع من التأبين. وبما أنها شقيقة الشهيد، اقتصر الهجاؤون على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن تحفظاتهم كشفت عن مزيد من الصمت الجماعي المضروب حول المهمة في سورية.
قال كثيرون إنه شهيد من دون أن يشيروا الى موضوع الشهادة. فقط شهيد، ولم يوضحوا لفاطمة المفجوعة بشقيقها الذي مات في سورية “لماذا قُتل حسين في سورية؟”. بعض الإجابات حمل النصف الأول من السؤال ليعود ويسقط في الصمت. فعشرات ممن علقوا على مقال فاطمة، قالوا “نحن لا نُقاتل دفاعاً عن بشار الأسد في سورية”، لكن جملتهم انتهت هنا.
ولنستغرق بعد ذلك بمزيد من الصمت. فعبارة “ليس دفاعاً عن بشار”، عندما تنقطع عن سياقها نقترب من الفجيعة، فتبلغها فاطمة وننتظر نحن خلفها.
هذا السؤال يؤرق كثيرين في البيئة التي ينشط فيها حزب الله. ومن بين الكثيرين، كثيرون ممن لا يعترضون على المهمة في سورية، لكنهم لم يعثروا على الإجابة عن السؤال نفسه: لماذا قُتل حسين في سورية؟ فيُستعاض عن الإجابة بالصمت، اذ إن المهمة قدر أكثر منها تكليفاً، هذا ما يشعر به الصامتون، وهم اذ يتخبطون بصمتهم وبقبولهم المهمة، يعجزون عن مخاطبة فاطمة بغير عبارة واحدة؛ إنه شهيد وعليك تأبينه بوصفه شهيداً.
وهنا يسقط الفارق طالما أن موضوع الشهادة ليس سوى تكليف، فتخرج فاطمة لتقول إن غياب الفارق يدفعني الى إعلان حزني الخاص على أخي. هذه فجيعتي لوحدي. فجيعتي بفقدان أخي الذي هو ليس أخاً لغيري. لكم شهيدكم، ولي أخي.
والحال أن فجيعة فاطمة هي فاجعتنا كلنا، ذاك أن المهمة المدفوعين إليها في سورية أقوى من أن نقاومها، نحن الأفراد الوحيدين، الذين نؤلف الجماعة من دون أن نتآلف معها. نحن الشقيقات والأشقاء ممن ذهب أشقاؤنا للقتال هناك.
ثم إن القول بأن الجماعة أوفدتهم إلى هناك فيه افتئات علينا. لكن الحيرة تُصبح كابوساً عندما تلوح حقيقة أننا لا نقوى على طرح السؤال الذي طرحته فاطمة من دون أن تكتبه. فالجماعة، “جماعتنا” تنفذ المهمة من دون أن تقوى على الإجابة عن السؤال. نحن نُقاتل في سورية يا فاطمة، وعليك تقبل شقيقك شهيداً. دعك من السؤال.
فاطمة استجابت للطلب، لم تطرح السؤال. لم تكتب عبارة: لماذا قُتل أخي في سورية. فقط قالت أريد أن أؤبنه على نحو ما تؤبن شقيقة شقيقها. الفَقد أصابني لوحدي، ووحدي سأبكيه. أما الصمت الهائل خلف الجنازة الكبيرة، فلن أعكره بندبي شقيقي.
يجري كثير من الصمت في وجداننا الجماعي هذه الأيام. ولعلها تجربة بسيكولوجية فريدة على هذا الصعيد. مهمة جماعية تُنفذ بصمت وبغياب أوهام لطالما احتاجتها الجماعات في مهامها العضال.
موقع لبنان ناو