ما هو تاريخ الحاضر؟/ خالد الحروب
من يراقب وسائل الاعلام العربية, مقروءة ومسموعة ومرئية, ويرى التناقض الكبير الذي تتناول به ذات الوقائع والاحداث يظن ان كل منها تتحدث وتغطي امرا وحدثا مختلفا تماماً. كل من الاعلام المؤيد للنظام في سوريا, والاعلام المعارض له, على سبيل المثال, ينقل صورة ويغطي حدثا كأنه لا علاقة له بما يغطيه الاعلام الاخر. وعلى ذات المنوال نرى كلا من الاعلام المؤيد والمعارض لأي من الطرفين في مصر, ينقل اخبارا لا علاقة لها, ولا نراها, في الاعلام الاخر. لكن ما علاقة هذا بكتابة التاريخ, وهل الاعلام يكتب التاريخ في نهاية الامر؟ بالطبع لا, ذلك انه حتى لو كان الاعلام موضوعيا ونزيها فإن أكثر ما يمكن ان يقوم به هو توفير بعض ما يمكن ان يستفيد منه المؤرخ للقيام بعملية التأريخ. لكن لا احد ينكر الدور المتعاظم للإعلام في العقود الاخيرة, ومساهمته في تعزيز رواية تاريخية على حساب الاخرى, وهذا في حد ذاته يعتبر تطورا نوعيا كبيرا في مسألة كتابة التاريخ. قيل ويُقال دوما إن المنتصر هو من يكتب الرواية الاخيرة للحرب وما دار فيها. لكن هذه المقولة لم يعد لها معنى في العصر الحديث بعد ان انفتح الاعلام المعولم على الجميع, ملكية واستخداما وتأثيراً. لم يعد بإمكان احد ان يمتلك “الرواية”, بألف ولام التعريف, ويزعم بأنها السردية الحاسمة وهي تضبط ما حدث بالدقة والإخبار والإعلام التام.
واذا كنا نحن, ابناء الحاضر, نختلف بشكل هائل في ما بيننا على تأريخ الاحداث التي نمر بها, ونراها من زوايا مطلقة الافتراق عن بعضها البعض, فكيف سيراها مؤرخ المستقبل؟ كيف سيكتب مؤرخو المستقبل عن هذه الحقبة التي نعيشها, بدءا من سنوات ما بعد التخلص من الاستعمار, وصولا إلى الربيع العربي وتحولاته؟ إعلام الحاضر وفيضانه الكوني سوف يزيد العملية تعقيدا وغموضا, ذلك ان العملية الاعلامية تفاقم من مسألة الانحياز واللاموضوعية, والتي هي اساساً احد الازمات والامراض التي لازمت مسألة الكتابة التاريخية ماضيا وحاضرا. فالتاريخ والتأريخ بصورة عامة مسائل غير موضوعية وهي خاضعة لمنظور المؤرخ ذاته ونظرته ومعرفته وفوق ذلك كله انحيازاته المباشرة, او المُستبطنة. كل ذلك قب لو من دون ان يشتغل الاعلام الهائل على التأثير المباشر في تخليق مناخات وصور وسرديات تعزز بيئات معينة تؤثر بدورها على من يعيش فيها بما في ذلك المؤرخين.
إدوارد كار المؤرخ البريطاني الشهير الذي كتب في اوائل ستينات القرن الماضي كتاب “ما هو التاريخ” يشدد على ان كل مؤرخ هو نتاج السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي يعيش فيه ويتأثر به وادواته المعرفية والتفسيرية. الاعلام المعولم واللحظي والذي بات يؤثر في, إن لم نقل يسيطر على, فضاءات البشر واذهانهم وتكوينهم الثقافي والمعرفي يحتل اليوم موقعا رئيسا في السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي المحيط بكل منا. كار استفز كثيرا من زملائه بطروحاته التي نفت سمة “العلم” عن التاريخ وارخت ظلال الشك على موضوعيته, ووضعت المؤرخ قيد الريبة الدائمة. فالمؤرخ وعملية التأريخ عموما ضحيتان للإنتقائية ولإعادة ترتيب الحوادث التاريخية كي يتناسب ذلك الترتيب مع تفسير معين محدد مسبقا يخدم فكرة او سياسة او ايديولوجيا. ولا يعني ذلك بأي حال ان كل مؤرخ يكتب بطريقة غير موضوعية عن قصد وتصميم, لكن المؤثرات التي قولبت نظر هذا المؤرخ ورؤيته للاشياء, والادوات المعرفية المتوفرة لديه التي تتيح له الاطلاع على اجزاء محددة من الحوادث التاريخية تحول كتابة التاريخ بطريقة موضوعية إلى مسألة شبه مستحيلة. انتقد كار ايضا فكرة الاستناد إلى الوثيقة وتقديسها واعتبارها حجر الزاوية في التاريخ و”الدليل” الدامغ على الحادثة التاريخية. وقال إن الوثيقة قد تكون على العكس من ذلك اي “مقبرة” الحقائق وليست “كنزها”. اليوم وعلى رافعة الإعلام تتكدس “الوثائق” السرية وغير السرية, المسربة قصداً والمسربة رغم إرادة اصحابها, ولنا ان نتأمل كيف تؤثر هذه الوثائق في بناء رواية او روايات تاريخية تحقق هدفا معينا لمسربيها, في ما تبقى وثائق اخرى بعيدة عن التناول وتلفها السرية المطبقة.
معنى ذلك كله ان كتابة التأريخ في العصر الراهن تواجه معضلات وتحديات إضافية تتعلق اساسا بفيضان المعلومات, او بحسب المصطلح الذي نحت حديثا ب “المعلومات الضخمة – Big Data”. مشكلة المؤرخ هنا لم تعد في شح المعلومة والاخبار عنها, ولا في بذل الجهد الكبير للوصول إليها, بل تتمثل في الامر المعاكس تماما, اي في فيضان المعرفة وطوفان الاخبار والمعلومات والتحليلات. لكن هذا الفيضان لا يعني توفر كل شيء, بل التغطية على الأشياء والعناصر المهمة الخاصة بحدث معين. فالذي يتم, سواء بقصد ام بغيره, هو إغراق الحدث بكم هائل من المعلومات والتحليلات والصور المتلفزة والوثائق بحيث تصبح مهمة المؤرخ شبه مستحيلة. هذا كله من دون الانخراط في جدل التشكك في اهمية الوثيقة اصلا ومدى صلاحية الاعتماد عليها كأساس في التأريخ, وفي ما إن كان ذلك الاعتماد يعزز من منهج التأريخ ام يعزز التضليل غير المقصود. مثلاً, هي يمكن ان يوثق حاكم ما رغبته وسياسته في إبادة جزء من السكان ثم يوثق طرائق التنفيذ؟ وهل يمكن ان يوثق قادة وسياسيون نياتهم الحقيقية الدافعة لغزو بلد مجاور؟ ما هو موثق في هذه الحالات تبريرات وتفسيرات مغايرة تماما وتخفي النيات الحقيقية. كيف نوثق إذن النوايا والاهداف الحقيقية وراء الفعل والحادثة التاريخية؟
تطبيقا لذلك لنتأمل كيف يختلف المؤرخون العرب اليوم وكتابهم على تأريخ ما يعيشون من حقبة ما بعد الاستقلال, والامثلة اكثر من ان تُحصى. كيف كانت بالضبط مصر الملك فاروق التي انتفض عليها الضباط الاحرار, هل كانت كما أرخ لها مؤرخو الثورة او الذين تأثروا بها, ام كانت على شكل مغاير؟ ما الذي حدث, كمثل آخر, في قلب عملية الوحدة المصرية السورية عام 1958 وافشلها بعد ثلاث سنوات؟ هناك “تأريخان”يكادان يكونان منفصلان تماماً ينطلقان من رؤيتين متعارضتين, واحدة من انصار الوحدة وعبد الناصر, والثانية من انصار الانفصال وخصومه. كيف حدثت حرب 1967 واي الرويات هي الادق في مسببات الحرب, أهو استفزاز عبد الناصر لإسرائيل, ام نية إسرائيل المبيتة للقيام بالحرب عندما تحين الفرصة؟ ما الذي حدث في صدامات ايلول بين الجيش الاردني والمقاومة الفلسطينية, وكيف تراكمت الاسباب وادت إلى ذلك, ولدينا روايتان واحدة فلسطينية “ثورية” والاخرى اردنية رسمية؟