متى تسقط سلطة آل الأسد؟ /د. عبدالله تركماني
بعد ما يقرب من ثلاث سنوات على اندلاع الثورة السورية، وبعد سيل التضحيات التي قدمها أبناء الشعب السوري وبناته، فإنّ الثورة كغيرها من ثورات الشعوب العربية لم تكن نتيجة مباشرة للعمل التراكمي الذي قامت به أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني. بل هي جاءت من وعي تشكّل في مكان عميق من العقل والوجدان الشعبيين، وهو مكان لم يعد قادراً على تحمّل أو فهم دواعي استمرار الاستبداد المستفحل منذ أربعة عقود. وهي لا تسير وفق جدول زمني محدد أو طريق أحادي الأبعاد، بل تخضع لمعادلات تبدو معقدة: سلطة آل الأسد تعيش حالة تخبط واضحة، ظهرت جلية في أداء وفدها المفاوض في مؤتمر جنيف 2، تعوض عنها برفع حدة القتل في البراميل المتفجرة. والشعب السوري، الذي كان حتى الأمس القريب خارج المعادلة السياسية، نجده وقد أصبح اللاعب الأول والأهم في الواقع السوري.
إنّ الطابع العام للثورة ظل مدنياً وتحررياً وإنسانياً، وبقيت قاعدتها الاجتماعية تحظى بدعم من مختلف الأطياف السورية، بما فيها أوساط من الموالاة المتخوفة من المستقبل، وأخذ وجهها العام يستعير مفرداته الحداثية. فقد تشكلت قيادات شابة قادرة على استيعاب معطيات التحول العالمي نحو الديمقراطية، وتمسك بزمام الأمور وتتحكم بحركتها حسب المتغيّرات، رغم وجود حالات تشويش فردية، وجماعات إرهابية استجلبتها سلطة الاستبداد من كل صوب. وهي تعرف أنّ هذا الليل السوري الطويل لن ينجلي بسرعة، وأنّ أمامها مهمات شاقة وتضحيات كبرى، لكنها تعرف أيضاً أنّ لا عودة إلى الوراء، وأنّ لا خيار أمامها سوى مواجهة ظلام هذا الليل الطويل بالصمود والتحدي والتفاؤل.
ولكن من المهم قيام إطار سياسي وطني شامل يحظى بقدر معقول من الإجماع والثقة، يتابع ما قام به وفد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة من مبادرات سياسية وأداء جيد في جولتي مؤتمر جنيف 2، ويحاول التأثير على سير الثورة باتجاهات تتوافق مع شروط الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، ويمكنه أيضاً من تقديم مبادرات سياسية تحاصر سلطة الاستبداد، من خلال طرح حل وطني جامع يجذب أوسع فئات الموالاة إلى برنامج التغيير الديمقراطي، مما يسهم في إحكام عزلتها وفي المزيد من تجريمها إقليمياً ودولياً، أو في فرض تفاوض من مواقع أقوى عليها.
إنّ قوى الثورة الشعبية وهي الجسم الحيوي الفاعل والواعد، والذي نهض بصورة عفوية دفاعاً عن كرامة السوريين وحريتهم من غير قوى سياسية أو شخصيات ورموز تقوده ومن دون شعارات أو برامج مسبقة، بل تنطحت لقيادته مجموعات شبابية نالت ثقة الناس من خلال صدقيتها واستعدادها العالي للتضحية. وعلى رغم عفوية الثورة وغياب أي تحضير أو تخطيط لها، نجح شبابها في بناء هياكل وأطر تنظيمية حملت اسم التنسيقيات قابلة للتطور بما ينسجم مع حاجات تقدم الاحتجاجات وتجذيرها، وتمكنوا تدريجياً من توحيد قطاعات مهمة من هذه التنسيقيات على مستوى المناطق الأكثر سخونة ونشاطاً، ويبدو أنهم الآن في طريقهم لاستكمال هذه العملية وتشكيل قوة واحدة قادرة على العمل الميداني والسياسي المتسق.
وهكذا، تقتضي الثورة السورية، التي وصّفنا واقعها أعلاه، اعترافها بالحاجة إلى الخارج ودعمه بالحدود التي لا تهدد وحدة البلاد أو تجرها إلى تدخل عسكري مباشر، إذ يختلف تصور الحماية الدولية الإنسانية للمدنيين ما بين مراقبين دوليين ومنظمات حقوقية ووسائل إعلام مستقلة يراقبون الوضع السوري وممارسات سلطة الاستبداد، وما بين توقع حظر طيران ومناطق آمنة، وصولاً إلى التدخل العسكري الدولي.
والسؤال اليوم هو متى ستسقط سلطة آل الأسد، وبأي تكلفة، وعبر أي مسارات متعرجة، وضمن أي نطاق زمني؟
قد يأخذ سقوطها شكل اهتراء تدريجي يدوم شهوراً طوالاً، ولا يستبعد أن تتسبب خلالها في تخريب وطني واسع، قد لا تنهض منه سوريا إلا بمشقة وبعد سنوات. ولكنّ العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل 15 آذار 2011 متعذرة، فما تشهده سوريا حالياً هو نوع من المأزق: لا السلطة تستطيع وقف الحراك المجتمعي ولا الحراك الحالي قادر على إسقاط السلطة.
والمهم أنّ سلطة الاستبداد ستلحق بأقرانها التونسي والمصري والليبي واليمني، وكلما تضافرت الجهود وتعاظمت العوامل المنهكة لها، كلما كان اللحاق هذا أسرع وبكلفة بشرية واقتصادية أقل وطأة. ما يفرض على الكتلة التاريخية للثورة السورية، أن تبلور توازنات جديدة، تصون الحرية المكتسبة بعد كفاح شاق، وتضمن استقراراً مواتياً للتراكم الوطني، وتؤسس لنشوء تقاليد سياسية واجتماعية جديدة.
()باحث استشاري
في «مركز الشرق للبحوث»