متى تعتذر إسطنبول؟
ميشيل كيلو
لا أعتقد أن وقتا طويلا سيمر قبل أن تعتذر حكومة إسطنبول من النظام السوري، بسبب إسقاط الطائرة التركية في المياه الإقليمية السورية. هناك إشارات تدل على أن تركيا لن تتخذ أي موقف من الحدث، منها تصريح الرئيس التركي السيد غل الذي يقر بأن الطائرة قد تكون قد اخترقت السيادة السورية. كما أن عنتريات رجب طيب أردوغان لا تعني إطلاقا أنه جاد فيما يقول، ولو كان ما يصدر عنه جديا كله، لكان الجيش التركي قد احتل سوريا منذ أكثر من عام، ووصل ربما إلى الخرطوم قرب أعالي النيل. أما ما يقوله وزير خارجيته فهو ينتمي غالبا إلى صنف المزاح السياسي، ومن تابع ما قاله الوزير لحار في سياسة تركيا ونهجها، ولداخ دوخة لا دواء لها؛ أليس هو من قال في أيام الثورة السورية الأولى إن الوضع الداخلي السوري هو جزء من الوضع الداخلي التركي، ثم صرح بعد أقل من شهر، وفي دمشق بالذات، بأن تركيا لن تتدخل في الشؤون الداخلية السورية، ولا تريد أن يكون لها علاقة بها! يبدو أن سياسة «صفر مشاكل» تعني الهرب من المشكلات وإدارة الظهر لها وتجاهلها. في لغة الصراحة يسمون هذا سياسة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال، وتعتقد أنها صارت غير مرئية، لمجرد أنها لا ترى هي نفسها أي شيء!
يبدو أن النظام السوري درس تركيا وسياساتها وقدراتها الفعلية وخياراتها التطبيقية أكثر بكثير مما درس النظام التركي نظام سوريا وسياساته وخياراته وقدراته. والدليل أن تركيا لم تعد نفسها إطلاقا وعلى أي مستوى لحالة ثورة قد تنشب في سوريا، بينما أبقى النظام الأسدي علاقاته مع حزب العمال الكردستاني، وعزز روابطه مع قطاعات معينة من أقليات تركيا العرقية والطائفية، وخاصة في منطقة لواء الإسكندرون السوري، ومع بعض جيش أتاتورك وأجهزة الأمن التركية، وهو يعلم أنهما على غير اتفاق مع حكومة أردوغان، وأن هذه لا تثق بهما كما لا يثقان هما بها، وأن العلاقة بينهما يمكن أن تتحول إلى عنصر ضغط بيد نظام البعث على الحليف التركي، الذي تركبه عنجهية فارغة تتمثل في أحاديثه المبالغ فيها عن العثمانية كنزعة إمبراطورية متحققة يمكن أن تمتد إلى بقية بلدان المنطقة التي خضعت ذات يوم للسلطنة العثمانية، لتستعيد ماضيا لا يقبل الاستعادة، انتهى بكارثة على آل عثمان وعدنان وغسان، مثلما انتهى بكارثة في البلقان، لكن أردوغان لم يجد ما يدغدغ به مشاعر الترك القومجية غيره، حتى توهم (وهنا المأساة) أنه صار حقيقة، وأن علاقاته الشخصية مع الأسد تعني قبول الأخير بالانضواء تحت النزعة العثمانية الإمبراطورية، بل وصار تابعا له إن نصحه بالإصلاح أصلح، وأمره بالانفتاح انفتح.. إلى آخر هذه الترهات التي تدل على قصور في الوعي وقلة في العقل والإدراك.
فهم البعث مفاصل الضعف التركية ولم يرمِ من يده أي ورقة من أوراقها أيام الحب الأهوج مع تركيا، بينما كان يبيع أردوغان كلاما معسولا عن الانفتاح والأخوة التاريخية والشراكة الحضارية.. إلخ، ويقبض مقابل كلامه الذي لا يعني شيئا في الواقع، لأنه كان يفتقر تماما إلى ركائز حقيقية داخل النظام السوري تلزمه بفعل أي شيء قد يقيد حريته نحو جميع الاتجاهات؛ انفتاح اقتصادي وتوازن سياسي إقليمي وأبواب مفتوحة نحو الغرب وشفاعات تركية لدى قادته. وحين انفجر الوضع السوري كان الترك – الاستراتيجيون العظام، الذين كتبوا كتابا من عدة مئات من الصفحات يرتكز على رؤية ساذجة سموها «صفر مشاكل»، لهم وللمنطقة طبعا، بوغت الترك بالحدث وارتبكوا أول الأمر، ثم تذكروا غلطتهم في ليبيا فألقوا بنفسهم في لجة الحدث، وكأنهم يريدون أن يكونوا طرفا داخليا فيه، وحين أدركوا (في علامة إضافية على جهلهم بالواقع السوري) أن القصة طويلة، وأن سوريا لن تشهد شيئا قريبا مما حدث في تونس ومصر، وحتى في ليبيا، تراجعوا وبدأوا يلعبون اللعبة الأميركية، التي تبيعك كلاما جميلا هدفه التغطية على حقيقة أهداف واشنطن، أي التغطية على حقيقة أنها ليست ضد تدمير سوريا الدولة والمجتمع، ولن تفعل أي شيء يحول بين النظام واستكمال هذه المهمة، التي تولى تنفيذها وسيسير فيها إلى نهاية الشوط، لأنه كأميركا ضد قيام نظام ديمقراطي في سوريا سيكون شديدة الخطورة على إسرائيل بالدرجة الأولى، وعلى مصالح واشنطن في عموم المنطقة العربية، وضد أن تصل سوريا في أي مدى منظور إلى حالة تصير معها قابلة للحكم، أو دولة فاعلة وذات حضور متوازن ومتقدم في عالم عربي ينتفض رافضا أوضاعه ونظمه.
واليوم، وتركيا تتعرض لضربة معنوية وعسكرية حقيقية، تتمثل في إسقاط طائرتها في المياه الإقليمية السورية، تنخرط السياسة التركية من جديد في تخبطها المألوف، المعبر عن واقعها الانتقالي الذي تتفاوت درجات تطوره الاقتصادية والسياسية والعسكرية، فارضة منطقها وإلزاماتها على ساسة يحظون بدعم نحو نصف شعبهم، ومع ذلك فإنهم يتصرفون كمن يمشي على صفحة ماء متجمد يخاف أن تنهار في أي لحظة فيغرق، ويعبرون عن مواقفهم من خلال خطوات ناقصة هي في أحسن حالاتها أنصاف، إن لم تكن أرباع خطوات، مثلما نلاحظ من تصريحات ومواقف القادة الترك المتضاربة في قضية الطائرة، التي أحالوها إلى تحقيقات يعلم الله وحده متى تنتهي، مع أن العسكر السوري أعلن بكل فخر واعتزاز أنه هو الذي قام بإسقاطها. على كل حال، يعرف كل متابع للشأن التركي أن إسطنبول لا تعتزم فعل أي شيء جدي اليوم، وإلا لكان النظام السوري آثر عدم التعرض للطائرة، ولو وصلت إلى دمشق. لكنه يعلم أن تركيا لن تفعل شيئا، قبل انتخابات واشنطن، وتنقية أجوائها الداخلية، وبالتالي قبل انقضاء وقت طويل، فلا يستبعد أن تغطي هذه المرحلة باكتشاف أنها هي التي اعتدت على سوريا، وأن عليها الاعتذار منها. في هذه الحال، سنكرر ما سبق أن قلناه مرات كثيرة إلى الآن: لا حول ولا قوة إلا بالله.. أسمع كلامك يعجبني أشوف عمايلك أتعجب!
الشرق الأوسط