مثالب الولادة: إميل سيوران
“مثالب الولادة”: أحقاد إميل سيوران/ علي العائد
“ماذا تفعل من الصباح إلى المساء؟ يسأله أحدهم، أو يسائل نفسه. الإجابة: أُعانيني”. بمثل هذا التكثيف الفلسفي الشاعري يسخر الرّوماني إميل سيوران (1911 – 1995) من نفسه، ومن فكرة الحياة التي عانى فيها من يوم ولادته أكثر مما عانى في الشيخوخة، ومن الموت الذي أتاه في الرابعة والثمانين من عمره. هو فيلسوف وشاعر حيناً، وراءٍ في أحيان أخرى.
في كتابه “مثالب الولادة” (عُرف في ترجمات أخرى بعنوان “في مساوئ أن يكون المرء قد وُلِد”)، الصادر أخيراً عن “منشورات الجمل”، بتوقيع المترجم التونسي آدم فتحي، يلتقي تشاؤم سيوران مع تشاؤم لوتريامون، وتتقاطع وجوديته مع وجودية سارتر. يقرأ المسيحية بعهديها القديم والجديد؛ مقارناً بينها وبين أديان شرق آسيا. وفي شبه تأكد، ينتقد الطقوس لمصلحة التصوّف، والنصوص المباشرة لمصلحة العرفان. فالمسيح، في رأيه، لم يدرك أن مأزق الإنسان في الوجود يكمن في ولادته، بينما أدرك بوذا ذلك في خطابه لتلاميذه.
يقول بوذا: “لولا وجود ثلاثة أشياء في العالم يا تلاميذي، لما احتاج الكائن الأكمل إلى الظهور في هذه الدنيا”. يشرح سيوران: “وقبل الشيخوخة والموت اعتبر بوذا واقعة الولادة مصدراً لكل العاهات، وكل الكوارث”.
في السياق نفسه، يعلن صاحب “المياه كلها بلون الغرق” عن عدم إيمانه بالطقوس: “بأي حق تصلّون من أجلي؟ لا حاجة لي بشفيع، سأتدبر أمري لوحدي”. على أنه لا يضع الولادة في خانة السلبية الكاملة، إذ يتجاوز في لحظات نرجسية ذلك التشاؤم: “أعلم أن ولادتي مصادفة؛ حادثة مضحكة. وعلى الرغم من ذلك، فإني ما إن أنسى نفسي حتى أتصرف وكأنها واقعة رئيسية ضرورية لمسيرة العالم وتوازنه”. ويبدو سيوران واضحاً في توجهه لمدح الولادة. فيوم ولادته الضروري لمسيرة العالم هو نفسه الذي يجعله يُشبع الأيام الأخرى في حياته لعنات، على العكس من النبي أيوب، الذي لعن يوم ميلاده فقط وهو يعاني ابتلاء ربه لصبره.
كتابات سيوران على العموم، وهنا تحديداً، مجمع أفكار يسجّلها قبل أن تداهمه فكرة أخرى. لكن الفكرة التي يكتبها تبقى كما هي، تكثيفاً إنشائياً حيناً، أو بلاغة شاعرية، على عكس ما يقوم به الفيلسوف، الذي يطوّر الفكرة، بإنشاء مستفيض على منهج، وشرح ما يجب هنا، وإحالة إلى مصدر هناك. بينما يضع سيوران، هنا، الخبرة كلها، أو القول تاماً، لمن يريد، كونه في شغله يتابع الأفكار كمن يلتقط الفراشات واليعاسيب في حقل متاح لتحليق الأفكار الشريرة والخيِّرة.
الوعي عنده هو “الرذيلة الوحيدة التي تتيح لك أن تكون حراً، حراً في صحراء”. الرذائل تتيح لنا التقدم بسهولة: “الرذائل مرنة بطبعها يساعد بعضها بعضاً ويتسامح بعضها مع بعض. أما الفضائل الغيورة فهي تتخاصم ويلغي بعضها بعضاً، وليس من مجال إلا وهي تبرهن فيه على تنافرها وعدم تسامحها”.
كان صاحب “تاريخ ويوتوبيا” أميناً مع نفسه في كرهه للمنابر والجوائز: “سُكنى بالوعة ولا الوقوف على منصة”، مؤمناً بأن الحياة أوسع وأقدم من منجز الإنسان على الأرض: “لو استطعنا أن نولد قبل الإنسان!”. ولا يفرق بين حضارة مادية متقدمة، وحضارة روحية متباهية: “الغرب: عفونة ذات رائحة زكية. جثة معطرة”. أرقه المزمن موضوع متكرّر لشذراته: “لا قهوة، لا كحول، لا تبغ، منذ سنوات! من حسن الحظ أن لديّ القلق الذي يعوض بشكل مجدٍ أقوى المنشطات”.
وبمثل هذا المزاج المحروم من نعمتي النوم والنسيان، لا بد للشك من أن يقيم في ذهن صاحبه: “قالت لي سيدة مطلعة: أنت ضد كل ما أُنجز منذ الحرب الأخيرة. لقد أخطأتِ التاريخ. أنا ضد كل ما أنجز منذ آدم”. كما أنّه يقدِّم مفارقاته الوجودية السوداوية وأحقاده بشكلٍ ساخر، كقوله: “اقترفت كل الجرائم باستثناء أن أكون أباً”.
ولأن البشرية، أفراداً وقبائل ومجتمعات، تسير على منوال رتيب، يجد سيوران في نرجسيته ما يدَّعيه من إمكانية تعليم بشر التاريخ الماضي والحاضر، مستغرباً ألا يكونوا أدركوا أن مأزق الحياة في الولادة، وليس في الموت: “ليس من برهان على ما بلغته البشرية من تقهقر أفضل من استحالة أن نعثر على شعب واحد، أو قبيلة واحدة، ما زالت الولادة قادرة على أن تثير فيها الحداد والمناحات”.
وبين هذه الولادة، وذلك الموت، في مأزق الحياة، لا بد أن نتمرد مرة، أو مرات، على شيء ما، أو على أنفسنا، لكن: “حين نتمرد بعد أن نكون قد تجاوزنا سن التمرد، فإننا نظهر لأنفسنا بمظهر إبليس خرف”.
ورغم أن سيوران ليس فيلسوفاً بالمعنى الدقيق للكلمة، أو شاعراً، للاعتبار نفسه، وهو بالتأكيد ليس نبياً، فإن ما يقوله من شذرات يتجاوز فكرة الحكمة الفردية، بجمعه قدراً من كل من تلك الثلاثية (الفلسفة، الشعر، العرفان)، دليلاً على ثقافة واسعة أتاحتها له عزلته عن المجتمع، وبدورها أتاحت له هذه العزلة قدراً هائلاً من التأمل جعل الأفكار تتناغم في مواضع، وتتصادم في مواضع. من هنا، نجد أنفسنا في مواجهة فيلسوف ألماني، وشاعر فرنسي، ولاهوتي أرثوذكسي “مرتد” روماني.
العربي الجديد
اميل سيوران فيلسوف السخرية يسائل فعل الولادة/ شادي كسحو
اميل سيوران، رسول العدم أو فيلسوف الخواء كما يحلو للبعض تسميته، هو الابن الشرعي لانهيار البنى التقليدية للفكر الغربي، وتفكك عصر الحكايات الكبرى، وربما هو الوارث شبه الوحيد لـ «فيلسوف المطرقة» فريدرك نيتشه. وخيراً فعل الشاعر والمترجم التونسي آدم فتحي إذ أضاف إلى المكتبة العربية كتاباً ثالثاً لسيوران، نقله عن الفرنسية بعنوان «مثالب الولادة» (دار الجمل)، إضافةً، إلى كتابين آخرين كان فتحي نقلهما إلى العربية وهما: المياه كلها بلون الغرق، وتاريخ ويوتوبيا.
ربما أصبحوا قلّة أولئك الكتّاب، الذين تنطبق عليهم مقولة نيتشه الشهيرة: أحلم أن أقول بجملة واحدة، ما يقوله غيري في كتاب. كاتب الشذرات أو الأفوريزمات الفلسفية الروماني المولد – الفرنسي الثقافة واللغة، اميل سيوران (1911- 1995)، ربما هو واحد من هؤلاء القلّة الذين ساروا على هدى نيتشه في القرن العشرين، من دون أن يعفي هذا صاحب «الإنسان الأعلى» من تهكم سيوران وسخريته اللاذعة.
للتو، وعند أول مطالعة لهذا الكتاب الجديد، تكتشف أنك أمام نصوص من نوع خاص، فالولادة، أو قل: كارثة الولادة، والتي هي التيمة الأساسية لهذا الكتاب، هي مغامرة عبثية لا جدوى منها، لأن مصير الإنسان مرتبط بنهاية حتمية يغيب فيها وعيه ووجوده، ويكون مصيره كمصير أي كائن آخر… إذاً لمَ كل هذا النواح؟ فإذا كان مصير الإنسان هو الموت، ما قيمة الولادة أصلاً، هل ولد الإنسان ليموت؟.
قد تفوح هنا رائحة النزعة الشوبنهورية (نسبة إلى الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور)، التي تزعم بأن هذا الوجود برمته هو مجرد عبث لا طائل من ورائه، أي بمعنى ليس ثمة هدف أو غاية لهذا الوجود، فالإنسان محكوم عليه بالوجود في هذا العالم مسلوب الإرادة، والأنكى من ذلك أنه محكوم عليه بالموت أيضاً. فهل نحن نستحق فعلاً هذا القدر المحتوم؟ أليس علينا أن نصرخ دائماً: من العبث أن نولد ومن العبث أن نموت.
ولدتم جزافاً… هذه هي رسالة سيوران الأولى والأخيرة للبشرية. مدهش وفريد، ذاك التماهي شبه التام بين أفكار هذا الفيلسوف وحياته، ولا نبالغ لو قلنا: إن فلسفة سيوران، هي أيقونة نفسه القلقة وروحه المتمردة ومزاجه الحاد، ونتيجة لهذه العلاقة الوثيقة بين فكر سيوران وحياته، جاء نتاجه لا يشبه الفلسفة بمعناها التقليدي، فقد جعل سيوران من نصوصه وشذراته حرباً مفتوحة على الخواء والعدم واللامعنى، فهو لم يكتف بتأملات باردة حول الوجود، بل دخل إلى دهاليز الكينونة، كاشفاً، منقباً، باحثاً، عن كل ما يجول في أفكارنا من دون أن نقدر على التعبير عنه.
يكتب سيوران في مثالب الولادة: «اقترفت كل الجرائم، باستثناء أن أكون أباً. كابوس الولادة حين ينقلنا إلى ما قبل ماضينا، يجعلنا نفقد الرغبة في المستقبل والحاضر والماضي أيضاً. بمجرد التفكير في أن لا أكون ولدت، أي سعادة! أي حرية! أي مدى».
في الشكل، لا يخرج سيوران عن أسلوبه المعتاد باعتماد الشذرة شكلاً كتابياً، مكثفاً وموجزاً، بل وربما متقشفاً، للتعبير عن علاقته المأزومة بالوجود، تلك العلاقة التي لطالما ألحّ عليها سيوران قائلاً: ليس لدي أفكار وإنما هي مجرد وساوس. ثمة قرابة خفية يمكن الشعور بها عند المقارنة، بين هذه الشذرات، التي تتخذ من مثالب أو مساوئ الولادة موضوعاً لها، وبين ما كتبه شاعرنا الكبير أبي العلاء المعري القائل مثلاً: هذا ما جناه أبي عليّ، وما جنيت على أحد.
أما في المضمون، والمحتوى الفكري والفلسفي والدلالي، فربما بلغ الاختلاف بين ما كتبه الرجلان حد القطيعة والتعارض التام. وهذا طبيعي بين فيلسوف وشاعر عاش في ذروة انحطاط الحضارة العربية، وبين كاتب عاش القرن العشرين بكل أهواله وفظائعه طولاً وعرضاً.
عن هذا الكتاب يحدثنا اميل سيوران قائلاً: «ألتزم بكل كلمة في هذا الكتاب، الذي نستطيع فتحه من أي صفحة وليس من الضروري قراءته كله». وأما عن سبب تأليف هذا الكتاب، فيروي سيوران، بأنه دخل يوماً على أمه وارتمى على الأريكة وهو يصرخ «لم أعد أحتمل هذه الحياة»، فردت والدته: «لو كنت علمت ذلك لأجهضتك». يقول سيوران: «لقد أصابتني هذه الكلمات بهلع ميتافيزيقي وبإهانة وجودية، وألهمتني بتأليف كتاب مثالب الولادة».
من سيقرأ هذا الكتاب، سيكون مدعواً ليبذل مزيداً من الجهد، فهذا النوع من النصوص، إنما كُتب خصيصاً لتأزيم الفكــر وخلخلة مسلماته، إنه ينتمي إلى تلك الكتابة التي تمتدح الأنانية لا التضحية، وتمجـــد الانتحار على الاستمرار الساذج في الحياة، وتضع متعة الهدم والتفكيك مقابل متعة البناء والتركيب، لتبدو كأنها نشيد للعزلة وليس للاحتفال بالجمهور، إنها تهكم متعمّد من العقل الوثوقي والعقلاني وامتداح مطول للجنون والهذيان. لذلك فهي كثيراً ما تبدو، كتابة لاذعة متهكمة، تسخر من كل الأكاذيب الكبرى التي أنتجها العقل البشري.
إننا بحاجة إلى كتب بقيمة «مثالب الولادة»، ليس لأن مشكلة الولادة، ظلت الهاجس الوحيد لسيوران طوال حياته، كما يروي صديق عمره سيمون بويه، بل لعلنا – عبر مثل هذه الأفكار- نتمكن من الوقوف على كثير من نقاط التشابه والتقاطع، بين العدمية الغربية كما تجلت على لسان أبرز كتابها المعاصرين اميل سيوران، وبين تلك العدمية المبتذلة التي تلفّ عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج، آملين أن يأتي ذلك اليوم، الذي نسهم فيه بتعميق هذه العدمية وتجذيرها، والدفع بها إلى حدودها القصوى، لنهيئ الانتقال والعبور من العدمية المبتذلة بما هي انحطاط وتراجع، إلى طور «العدمية الأنيقة» بما هي أفق وتجاوز.
على أية حال، قد نتفق مع سيوران أو نختلف معه على كثير من القضايا والمواضيع، لكن المميز حقاً في كتاب «مثالب الولادة»، هو تلك الرؤيا التي تقلب كل الأسئلة المصيرية رأساً على عقب، وكأني بسيوران يريد بساعتنا الوجودية أن تعود للوراء. فبدل الحديث عن الموت وعن هاجس الموت، يطرح سيوران سؤالاً أكثر جذرية من سابقه، وهو لماذا الولادة أصلاً؟. نحن هنا أمام استفزاز في غاية المراوغة والعبث، يراد منه بلبلة وتشويش أفكارنا، لا حباً في الاستفزاز وإنما رغبة في حَرف علاقتنا بالوجود، فالكارثة أو النكبة، ليست هي الموت، وإنما هي الولادة ولا شيء غير الولادة.
(كاتب سوري)
الحياة
صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت
كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية.
حمل الكتاب من الرابط التالي
أو من الرابط الثاني
أو من الرابط الثالث