مجتمعات الشقاء
عباس بيضون
إلى سمير قصير
قلما تصح تسمية كما تصح تسمية الربيع العربي، أما معيار الصحة فليس علمياً استعارة الربيع توافق حراكاً فيما كنا نحسبه أرضاً مواتا. استعارة الربيع توافق أكثر صبرنا الطويل جداً في انتظار هذا الحراك. كاد هذا الصبر أن ينقلنا إلى اليأس. بل هو أخذنا فعلاً إلى اليأس كنا في استعارة أخرى أرضا مواتا، عمقاً راكداً ومتيبساً. يئسنا وفي يأسنا لم نعد ننتظر شيئاً وأيقنا أن صبرنا جليدي وأن زمننا ليس مثل الأزمنة. انه فصل جليدي واحد ويزداد مع الوقت جليدية.
انه فصل واحد ولا تباينات أو تفاوتات فيه، فصل واحد وما من تنويعات داخله أو عليه، ما حدث لم يكن في حساب السياسيين ولكن لم يكن في حساب علماء الاجتماع وحساب الدارسين من كل نوع، وحساب المفكرين والشعراء والحالمين. كنا في فصل اليأس وفكرنا دائماً أن هذا قد يكون راسخاً في تاريخنا أو لغتنا أو أدياننا أو جغرافيتنا أو أصولنا أو بداوتنا المستمرة المتصلة. تحولنا في يوم إلى فلاسفة وعلماء وأدباء ومثقفين لليأس. وكان يمكننا هكذا أن ننتج سياسة خاصة بنا وثقافة خاصة لنا، سياسات اليأس وثقافات اليأس لا تخصنا وحدنا، لكن قلما وجد في العالم شعب من الأيتام بالقدر الذي وجدنا، قلما وجدت ثقافة استسلام واستكانة ورثاء للذات وتهكم على الذات وكره للذات وانقطاع أمل بقدر ما كانت عليه ثقافاتنا. إذ كان يلتقي العامي والمثقف والأمي والعالم على أننا شعب لا رجاء فيه ومن العبث أن تترجى منه شيئاً. كان هناك الغضب والعنف والسخرية واللعب والعبث أما نحن فلم يكن عندنا سوى الاستسلام. لقد استنفدنا كل طاقة فينا، حتى طاقة السخرية والعبث والعنف. لم نعد نلعب، صرنا جديين للغاية في يأسنا. صرنا معتقلين للغاية ومستسلمين للغاية في يأسنا. ان أنتجت هذه الأمة شيئاً في السنوات الأخيرة، شيئاً خاصاً بها شيئاً يمكن ان تتخذه علامة وشعاراً ومستقبلاً فهو الانتحار، ما زلنا كل يوم نتحف بهذه المقدرة الفذة. الانتحار يبدو الآن وكأنه اختراع عربي. أي قضية أو أي مسألة تجد فوراً انتحاريين. أي شعار يجد فوراً انتحاريين. أي هدف مهما كان عقيما يجد فوراً انتحاريين. يمكننا أن نتكلم عن الانتحار كما نتكلم عن النفط. وكما كان النفط وبالاً علينا مثلما لاحظ سمير قصير في مؤلفة النبوئي «تأملات حول الشقاء العربي». مؤلف سمير قصير من المحاولات القليلة التي حاولت أن تنفذ إلى مسألة شبه ميتافيزيقية بقدر ما هي شبه قدرية، مؤلف سمير قصير يدور حول معضلة محورية هي ان كل ما كان إيجابياً للآخرين. كل ما أدى إلى نمو سياسي واقتصادي واجتماعي: الموقع الجغرافي، النفط والمال. الوحدة اللغوية والتاريخية، الثقافة المشتركة، الشعور القومي، هذه العناصر التي في مجموعها أسست أوروبا الحديثة كانت وبالاً علينا. كل ما خدم واستثمر في إيقاظ شعوب ونموها وبنائها السياسي والدولتي تحول عندنا إلى سبب للتبطل والاقتصاد الريعي والعائلات الحاكمة والتسلط الديني والانقسامات الدينية والعرقية وفي بقائنا ما قبل الأمة وما قبل المجتمع وما قبل الدولة.
نتكلم عن الانتحار كما نتكلم عن النفط، يبدو أن الانتحار يتحول كالنفط إلى طاقة عربية. انه آخر ثمار اليأس. نجد فجأة جيشاً من الانتحاريين، نرى الانتحاريين ينبتون كالفطر وينبعون كالبترول، نجدهم حاضرين دائما لكل مسألة ولكل قضية مهما كانت ثانوية، انهم يموتون بالعشرات من أجل كل شيء وأجل لا شيء. الانتحار يبدو دائماً في اليد ويمكن تسليطه على كل مشكلة. نراهم يفجرون أنفسهم من أجل أي شيء، ويقتلون بالطبع معهم من ليسوا، بأي مقياس كان، أعداء. يمكن هنا أن نتوقف قليلاً لنقول ان الأنظمة السياسية العربية والتي نسميها مجازاً أنظمة سياسية فهي كل شيء إلا إدارات سياسية، وهي كل شيء إلا أن تحكِّم السياسة، أي سياسة في حكمها، انها مشيخة العشيرة أو العائلة أو القبيلة وقد اكتنزت عملات صعبة وأسست جيوشاً مسلحة واتخذت في اقتصاد السوق موقعاً كومبرادوريا وبنت هياكل برانية وفوقية تسميها دولاً، لقد بدأ التحديث في العالم العربي مع غزو بونابرت وانظر إلى ماذا وصلنا، أنظر إلى أين وصلنا بالتحديث، تقريباً لا شيء. ستقول أن الأنظمة نتاج لكن الأنظمة أيضا عقبات. أنظمة من هذا النوع، فيما التعليم مستمر بأي وجه كان، وفيما اقتصاد السوق يشبكنا وفيما العالم يتقدم من حولنا وفيما الفرص تتغير وتتزايد، ونحن هنا في ظل دول لا تزال تقيم العشيرة أو الجماعة أساساً ولا تزال عمليا عقبة دون انتاج الدولة والمجتمع. لا تزال تمثل مجموعة طفيلية تمتص دم الأمة وخيراتها. لا تزال تحول دون أي تقدم أو تغيير، أنظمة كهذه لا تترك للناس أملاً، أي أمل، وتجعل الحياة بدون أي معنى وبدون أي قيمة.
أنظمة كهذه تلعب في تدمير المجتمع وتدمير الحياة وتدمير كل رجاء تتحول إلى ثقل هائل وعبء هائل على الحياة. انها برانية وهذا صحيح، وشكلية وهذا صحيح لكنها تحاصر أي فرصة وأي حظ وأي امكانية وأي رغبة في التحول، ان الدور الذي تلعبه هو دور الطغيان البحت. الحيلولة دون أي فرصة حقيقية، تحطيم الآمال، تدمير الحظوظ. محاصرة كل نفس كل شوق وكل رغبة وكل متعة، هكذا نجد مجتمعات الشقاء الفعلي إذا كان لنا ان نستعمل مصطلح سمير قصير الفريد، نعم انه الشقاء، الشقاء الذي لا نجد تعريفاً حصرياً له فقوته في لا حصريته. الشقاء الذي لا يمكن ان يكون فقط في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، انه موجود، وبعمق، داخل النفس. انه ايضا الركود وانعدام أي متعة وانعدام أي دافع للحياة.
يمكن هنا أن نفهم لماذا الانتحار يكاد يصبح خصيصة عربية، نفهم لماذا هذا الجيش من المنتحرين. لماذا نجد هذا العدد الهائل من المستعدين لبيع حياتهم بأدنى ثمن. ليست العمليات الانتحارية الموصومة وحدها المقصودة بهذا الكلام، الرغبة في الموت، اللامبالاة تجاه الموت، عدم الخوف من الموت، النزول وبشجاعة وصلابة إلى الشارع لمواجهة الموت. مجازاة تظاهرة من تلك التي تحدث يومياً ببساطة وسلام في أي بلد في العالم، القتل المجاني والقتل العشوائي ألا يقدم ذلك أسباباً كبيرة للاستهانة بالحياة، للحصول على لحظة الحرية عن أي طريق حتى الموت. ألا يقدم ذلك الشقاء العربي سبباً جوهريا للاستهانة بالموت وربما الاقبال عليه.
السفير