محاربة التكفير بالتكفير.. مأزق الفصائل أم خلاصها؟/ عقيل حسين
حملت التطورات الأخيرة على الساحة السورية، والتي جاءت متسارعة وعنيفة أكثر من أي وقت مضى، بوادر تحوّل فارق في تعاطي الفصائل الثورية والجهادية مع تنظيم “الدولة الإسلامية” من الناحية الشرعية.
مؤشرات مهمة دلت على هذا التحول، الذي قد تكون نتيجته النهائية، تنزيل أحكام الردة على التنظيم، بعدما تراوح التعاطي معه طيلة الفترة الماضية، بين البغي والخروج والافساد.
أبرز هذه المؤشرات كان بيان “الجبهة الشامية” حول المنطقة الآمنة، التي عزمت تركيا على إنشائها شمالي حلب، والجزء الثاني من إصدار “ولتستبين سبيل المجرمين” الذي أنتجته “جبهة النصرة”، بالإضافة إلى تصريحات من شخصيات جهادية ناشطة على الساحة السورية.
الشامية: خوارج..ولكن
في بيان صادر عن “الجبهة الشامية” في 15 آب/أغسطس، والذي أعلنت فيه استعدادها للتعاون مع تركيا في إنشاء وإدارة المنطقة الآمنة العتيدة في الشمال، قدمت “الشامية” لهذا القرار مسوغات عديدة، أهمها ما بدا أنه قطع للطريق على من يرى حرمة هذا التعاون من باب أنه استعانة على “المسلم الباغي بغير المسلم”.
وإلى جانب رفض اعتبار تركيا دولة غير مسلمة (كما يرى طيف واسع من التيار السلفي الجهادي، لاعتبارات في مقدمتها علمانية الدولة التركية وجيشها)، وعضوية أنقرة في حلف الناتو، فقد قدمت “الجبهة الشامية” في بيانها، ما رأت أنها أدلة تخرج جماعة “الدولة” من الدين، وتجعل التنظيم مرتداً، وعليه لا يصبح التعاون مع أي جهة كانت ضده، استعانة على المسلمين.
في الفقرة الأولى من البيان: “لقد كفّروا المسلمين، بل والمجاهدين، والنبي (ص) يقول: (من قال لأخيه يا كافر فقد باد بها أحدهما، إن كان كما قال أو رجعت عليه). ونحن نعلم يقيناً أننا مؤمنون بالله، فلم يبق إلا أن يكونوا هم كفاراً، وهو ما تشهد به الأدلة الصحيحة”.
ورغم أن بيان “الشامية” استعرض العديد من الشواهد التي رأى فيها خروجاً للتنظيم عن الدين والجماعة، إلا أنه لم يُسقط صفة الخوارج عن “الدولة”، مستدركاً ذلك بحكم العديد من الأئمة وفقهاء السلف على الخوارج بالردة والكفر، مثل البخاري والقرطبي وابن عربي والسبكي، دون أن يغفل البيان الإشارة إلى قول آخرين بخلاف ذلك.
النصرة: تصعيد هادئ
بالتأكيد لا يجب القول، إن هدف بيان “الجبهة الشامية” كان إصدار فتوى حاسمة بتكفير تنظيم “الدولة” والحكم بردته، إلا أن هذا الاتجاه فيه كان غالباً.
وإذا كان كُثر يرون في موقف “الشامية” المستجد هذا، استدلالاً غير موضوعياً، بحكم الظرف والتوقيت الذي جاء فيه، وخاصة لصالح التوجه نحو قبول التعاون مع تركيا ومن خلفها التحالف الدولي ضد التنظيم، فإن ما جاء في إصدار “جبهة النصرة” الأخير “ولتستبين سبيل المجرمين”-2، لا يمكن أن يعتبر كذلك، خاصة وأن موقف الجبهة واضح، وهو رفض المشاركة في تحالف “المنطقة الآمنة”.
الإصدار المرئي الذي انتجته مؤسسة “البصيرة” التابعة لـ”النصرة”، حمل تصعيداً لافتاً، ليس في لهجته وحسب، بل وفي ولوجه مدخلاً شرعياً في الحكم على التنظيم، لم يسبق أن اقتربت منه الجبهة.
يقول الشرعي في “النصرة” أبو مجاهد المصري، في الإصدار: “إن أعظم مصيبة ابتليت بها الشام وأهلها هم الخوارج… وأن هؤلاء القوم (تنظيم الدولة) هم الذين حذر منهم الرسول عليه الصلاة والسلام، وأمر بقتلهم وقتالهم ابتداء، وليس قتال دفع صائل وحسب”.
لكن الموقف الأكثر تقدماً على هذا الصعيد، يتمثل في إشارة أبو مجاهد، إلى أن تنظيم “الدولة” أخذ أحكام البغاة في مواقف، وأخذ أحكام المرتدين في مواقف أخرى.
اتفاق رؤية لا اجماع فتوى
توافق جهتان مختلفتان في التوجه والفكر، على ارتكاب تنظيم “الدولة” ما يُوقِعه بالردة، يشير ربما، إلى مدى الخطر الوجودي الذي بات يشكله التنظيم عل بقية القوى الثورية والجهادية.
لكن ما مدى توفر الشروط الشرعية للحكم بتكفير تنظيم “الدولة”، وإلى أي حد يمكن أن تمتلك الفصائل والجهات الشرعية القدرة على تحقيق اجماع حول ذلك، ومن ثم إلى أي حد يمكن أن يكون هذا مجدياً في ما لو تحقق؟
يقول عضو “المجلس الإسلامي السوري” الشيخ محمد عبدالله سالم، لـ”المدن”: “إن داعش ارتكبت ما يجعل العالِم والمفتي يميل لتكفيرها، بدءاً من رفضها تحكيم الشرع في خلافاتها مع الفصائل، مروراً بباطنية التنظيم، وليس انتهاء بقتاله للثوار والفصائل الإسلامية بعد تكفيرهم”.
لكن سالم يشير إلى أن “التكفير باب عظيم، ولا يتم الدخول فيه إلا بأضيق الحالات”، لكن “فجور داعش وشدة بأسها ضد من يخالفها، سيجعل العديد من الفصائل تعمد إلى تكفيرها”. وأضاف سالم: “شخصياً أميل إلى أن داعش، تنظيم مركب من خليط من كفرة وغلاة وسفهاء، مع جهلة ومخابرات، مع خوارج وتكفيريين، لكن رغم ذلك، فلا أعتقد بتوافر إجماع قريب على تكفير التنظيم، وإن كانت هناك بوادر للميل إلى ذلك”.
ويؤكد الشيخ سالم أن الحديث عن إقامة منطقة آمنة في الشمال، كان أهم ما أظهر النقاش في هذه القضية إلى العلن؛ فالمنطقة الآمنة لا بد لها أن تتم من خلال تدخل “التحالف الدولي” الذي تقوده دول غير إسلامية، الأمر الذي يضع الجميع أمام إشكالية التعاون مع هذا التحالف، ضد “مسلمين ضالّين”، وهذا غير ممكن، خاصة لدى التيار “التيمي السلفي” –العائد لابن تيمية- الذي يتبنى نواقض الإسلام العشر، وهو ما تدين به العديد من الفصائل الجهادية ذات الثقل.
يضيف سالم: “أما بالنسبة للتيارات الأخرى فإن أهل السنّة من علماء المذاهب الأربعة، ليس عندهم هذه النواقض بهذا الإطلاق الفاسد، حيث أجاز الأحناف الاستعانة بغير المسلمين، ضد مسلمين بغاة أو فاسدين، للمصلحة، كما وأجازت بقية المذاهب الاستعانة بغير المسلم ضد الخارجي أو الباغي، عند الضرورة والمصلحة بضوابط”.
إشكالية التوصيف
في مقابل الاستغراق في التأصيل الشرعي للحكم على تنظيم “الدولة”، وبالتوازي مع الاستعداد لدخول هذا التأصيل مرحلة جديدة، يتساءل الكثير من الناشطين عن سبب الإصرار على سلوك طريق ملتبس في الحكم على التنظيم، في الوقت الذي تقر فيه كل الشرائع بضرورة مواجهة أي عدو بكل الوسائل الممكنة.
وتساءل الناشط الحلبي سيف عزام: “كيف يمكن أن يكون مقبولاً الحكم على جريمة من زاوية مرتكبها، بحيث نصبح أمام إطلاق في مواجهة النظام، وتقييد بمواجهة داعش؟”. وأضاف عزام لـ”المدن”: “أنا لا أفضل وصف داعش بالخوارج أو البغاة أو الغلاة، والدخول بدوامة التوصيف هذه، طالما أن أفعال التنظيم واضحة. أنا أنظر إليه كعصابة، لها مصالحها التي تتعارض مع مصالح الثورة، وتتفق أحياناً مع مصالح النظام، ولذلك فهم بالنسبة لي عدو محتل، يجب مواجهته بكل الوسائل الممكنة”.
لكن الباحث أحمد أبا زيد، يرى في حديثه لـ”المدن” أن المسألة أخذت طابعاً أكثر تعقيداً، وهذا نتيجة أخطاء منهجية في التعاطي مع قضية تنظيم الدولة منذ البداية، في العراق وسوريا. وقال “أبا زيد”: “إن من عادات الإسلاميين السيئة والمعيقة، تحويلُ المشاكل السياسية إلى إشكالات فقهية، ثم إلى مفاصلات عقدية، وأن داعش كانت تجلياً لمدى الخلل في تعامل الإسلاميين مع الواقع، إضافة لمدى خفوت صوت التدين الشامي أمام طغيان السلفية الجهادية، ومزاوداتها التي اجتاحت الفضاء الثوري العام”.
وتابع “أبا زيد”: “رغم وضوح هذا الأمر منذ اليوم الأول، إلا أن الانتقال معها من (جماعة مجاهدة) إلى (عندهم أخطاء) إلى (لديهم بعض التشدد) إلى (فيهم انحراف) إلى (غلاة) إلى (خوارج)، مرّ على جثث آلاف المقاتلين”.
واستذكر “أبا زيد” بهذه المناسبة، تعامل حركة “حماس” مع جماعة “أبو النور” السلفية المتشددة، والتي ظهرت في قطاع غزة في وقت سابق، معتبراً أن قرار الحركة بالحسم الأمني منذ البداية، أثبت أنه كان خياراً ناجحاً، على عكس ما فعلته الفصائل في سوريا، حيث “يغيب الميداني والواقعي عن فتاويها، بانتظار توصيف لغوي للفئة التي توشك القضاء على أرواحهم وبلادهم”.
إذاً، وفي بحثها عن مواجهة أزمة تنظيم “الدولة”، ربما يكون الخيار الأخير لفصائل المعارضة السورية، الثورية منها والجهادية، الحكم بتكفير التنظيم. وهو حكم يرى البعض أن هذه الفصائل، تأخرت بالاجماع عليه، رغم انطباقه على أقوال التنظيم وأفعاله، الأمر الذي كان سيوفر الكثير من الدماء والخسائر، لكن البعض الآخر يرى أنه امعاناً في الدخول بدوامة لم تكن هذه الثورة مضطرة لها بالأصل، وأن اللجوء إليها، لن يزيد المشكلة من هذا الوجه، إلا تعقيداً.
المدن