صفحات الرأي

محجوب عمر المتعدد المناضل صاحب النكتة


علي العبدالله()

لم يكن الدكتور محجوب عمر الذي وافته المنية في القاهرة يوم السبت17/3/2012 رجلا عاديا فقد جمع في شخصه قدرات وخبرات عديدة فبالإضافة إلى محجوب المناضل السياسي هناك محجوب الطبيب والمترجم والناقد. وصفه أحد المعلقين بالناقد الأكثر دقة ونباهة، إلى محجوب القاص، خاصة في قصصه الموجهة للأطفال والفتيان، والشاعر والمسرحي، ناهيك عن محجوب الإنسان الصلب والشجاع والمتواضع والمحب والزاهد والمتقشف الى ابعد حدود التقشف والمتعاون، الذي لا يقابل محتاجا للخبرة أو للنصيحة إلا قدمها له، كما كان وكمعظم المصريين، صاحب نكتة.

كان رؤوف نظمي (اسمه الحقيقي) القبطي الشيوعي يحفظ أجزاء من القرآن الكريم والكثير من أحاديث النبي ويتعامل مع القضايا الاجتماعية والدينية بأريحية عالية ولا يقف عند تباينات المصادر والفروق بين الأديان والمذاهب بل يأخذ من كل الأديان والمذاهب ما يراه جيدا ومفيدا للمجتمع الإنساني.

دخل السجن كمناضل شيوعي أيام الملك فاروق أربع سنوات وأيام عبدالناصر عشر سنوات ولما خرج منه بفعل تداعيات هزيمة حزيران 1967 وسعي النظام الناصري لتخفيف ردات الفعل الشعبية على الهزيمة بالانفتاح على القوى السياسية والإفراج عن المعتقلين منهم، حاول النظام احتواءه في ضوء ما عرف عنه من مواقف رافضة لتأييد النظام وهو داخل السجن حيث اختلف مع رفاق حزبه (الحزب الشيوعي المصري) على خلفية الموقف من النظام بعد صدور القرارات الاشتراكية عام 1961 وتعميقها عام 1964 فسعى لاحتوائه عن طريق إغراقه ماديا فعرض عليه عدة وظائف في الوقت نفسه: عرض للعمل كطبيب لإحدى شركات القطاع العام براتب مجز، وعرض من مجلة الكاتب التي كانت تصدرها وزارة الثقافة لكتابة مقال شهري مقابل مئة جنيه، وكتاب من وزارة الصحة يعيده إلى العمل كطبيب في احد مشافي القاهرة، ما عنى دخلا شهريا يفوق الثلاثمئة جنيه، وهذا مبلغ ضخم في تلك الايام خاصة بالنسبة لرجل خرج لتوه من السجن وهو بحاجة ماسة للمال لترميم حياته واستعادة وضعه الاجتماعي والإنساني.

لم تنطل اللعبة عليه (عالج الحالة بشكل رمزي في مسرحية “السبع في السيرك” التي كتبها بعد ذلك) فاستدان مبلغا من المال وغادر إلى الجزائر حيث معسكر تدريب لحركة فتح وتقدم للعمل كطبيب متطوع في صفوف الثورة الفلسطينية انتقل بعدها إلى الأردن حيث قواعد الثورة وأدار مستوصفا صغيرا في الطفيلة جنوب الأردن.

في السجن التقى بمعتقلين من جماعة الإخوان المسلمين بمن فيهم سيد قطب ودار بينهم نقاش طويل وعميق وحصل اتفاق على تقييم النظام الناصري واتفاق على التحالف لإسقاطه. وقع الاتفاق، واتفق على إرساله إلى كوادر الحزب والجماعة خارج السجن لتنفيذه لكن محاولة تهريبه انكشفت، وقد سرعت العملية بإعدام سيد قطب الذي وقع الاتفاق باسمه الصريح بينما وقعه محجوب باسم مستعار يعرفه أعضاء الحزب في الخارج ولا تعرفه السلطة المصرية.

لم يتخل عن الموضوعية والحياد في تفكيره أو ينحاز على خلفية الأفكار التي يؤمن بها فقد أكد إن اعتقال الشيوعيين في مصر كان في الغالب الأعم للتغطية على اعتقال جماعة الإخوان المسلمين التي تشكل خطرا على النظام الناصري بينما لم يكن للشيوعيين مثل هذه الإمكانية.

سأله شباب مصريون لم لا يرد على الكلام الذي كتبه شيوعيون من رفاقه القدامى تناولوا فيه فترة السجن وقد انتقدوه فيه لمواقفه المتشددة داخل السجن فرد: “لماذا نشغلكم بقضايا لستم طرفا فيها ولا فائدة من تحويلها إلى مادة تشغلكم عن فعل مفيد ويتناسب مع المرحلة الراهنة”.

امتلك محجوب عمر قدرة فائقة على تبسيط القضايا الفكرية والسياسية وعرضها بلغة قريبة من العقل غير المثقف بحيث تصبح متاحة لكل مستمع، وقد قادت هذه القدرة / الميزة إلى حصول مواقف طريفة. ففي الطفيلة، حيث المستوصف التابع لحركة فتح والذي أداره من 1968 – 1970، قواعد تتبع حركة فتح، وحركات فلسطينية أخرى، ما يستدعي أن يقوم مسؤولون سياسيون من الحركة بزيارة القواعد. وذات يوم زار المكان مسؤول الإعلام في فتح آنذاك أبو خالد جورج (جورج شفيق عسل، وهو شقيق الكاتب منير شفيق عسل) وقضى ليلته في المستوصف حيث تبادل الحديث مع الدكتور محجوب طوال الليل. وفي الصباح عندما هم المسؤول بمغادرة الموقع ودع الدكتور قائلا:” لقد أعجبني حديثك لكنك بحاجة لتطويره بإضافات ثقافية واستخدام المصطلحات المناسبة سأرسل لك بعض الكتب كي تحسن من مستوى لغتك السياسية. لم يعلق الدكتور المتواضع ولم يقل للمسؤول المعتد بنفسه (كان أبو خالد كشقيقه منير ماركسي ماوي ) يا بني عندما كنت أمين عام مساعد في الحزب الشيوعي المصري لم تكن قد ولدت بعد. لكن المسؤول اكتشف الحقيقة عندما وصل إلى عمان وحدث رفاقه في المكتب بما حصل معه وإعجابه بالطبيب في المستوصف ووعده له بتزويده بكتب حيث قيل له من هو محجوب عمر. وفي لقاء لاحق كان المسؤول محرجا وقد دارى حرجة بالابتسام.

كنا في مركز التخطيط الفلسطيني خليطاً من الفلسطينيين والعرب، لبنانيين وسوريين وعراقيين ومصريين، وكان الأستاذ منير شفيق مدير عام المركز والدكتور محجوب بمثابة نائب للمدير العام وقد كان التمايز بين الشخصين كبيراً جدا، كان الأستاذ منير معتدا بنفسه ويرى في نفسه ندا لياسر عرفات ومنافسا له على قيادة الشعب الفلسطيني بينما كان الدكتور محجوب يرى في نفسه عاملا مساعدا للعمل الفلسطيني”: نزق عربة فلسطين” كما كان يقول باللهجة المصرية المحببة. كما كان الفرق بينهما في التعاطي مع الموظفين كبيرا حيث كان الأول لا يهتم بمساعدة الموظفين على تطوير قدراتهم بينما كان الثاني يجهد نفسه لتحقيق ذلك عبر متابعتهم أثناء انجاز العمل. فالأول يأخذ العمل ويصححه دون أن يناقش الموظف بنقاط اخطأ فيها أو نقص وقع فيه بينما يضع الدكتور محجوب إشارات وملاحظات على النص ويناقش الموظف في نتائج عمله ويعيد له النص ليعيد كتابته في ضوء النقاش، لذا استفاد الموظفون من إشرافه على عملهم. هناك فرق أكثر جوهرية وهو أن الأستاذ منير صاحب عقل حزبي يعامل الموظفين وفق مسطرة حزبية فمن يتبنى أفكاره ينال الحظوة والقرب بينما كان الدكتور محجوب أكثر موضوعية وإنسانية لا فرق لديه بين من يتفق معه ومن يخالفه طالما انه ملتزم بقواعد عمل المركز.

كان الدكتور محجوب من عشاق غناء سيدة الغناء العربي أم كلثوم وقد تأثرنا به وأخذنا نستمع إلى أغانيها في المركز بعد الدوام حيث كان قسم من الموظفين ينام في المركز ولما اسلم الأستاذ منير شفيق (مسيحي وماركسي) بعيد قيام الثورة الإيرانية وأصبح المركز مزارا لإسلاميين لبنانيين وكذلك لشخصيات إيرانية تزور المسلم الجديد فقد حصل أن كان عنده عدد من المشايخ وكنا في غرفة مجاورة نستمع إلى أغنية لام كلثوم وعندما غادر الضيوف دخل علينا الغرفة واخذ أشرطة أم كلثوم وصعد إلى الطابق السابع حيث مكتب الدكتور محجوب ورمى الأشرطة على الطاولة قائلا:” خذ لقد أفسدت الشباب”. في ذات الفترة كانت سيدة تعمل في المركز تنظف وتحضر الشاي للموظفين حاسرة الرأس خيرها الأستاذ منير بعد اسلامه بين التحجب أو ترك العمل، وقد كانت امرأة عزيزة النفس قوية ففضلت ترك العمل على التحجب بهذه الطريقة، بينما كان الدكتور محجوب الطبيب يعالجها مما يصيبها من أمراض.

لقد كان العمل معه مريحا وشيقا، فهو رجل نذر نفسه للثورة وللحياة الحرة والمنفتحة. نشيطا لا يحس بالكلل او الملل فقد كان وعلى الدوام اول من يحضر الى المكتب(السابعة صباحا) وآخر من يغادر(الحادية عشرة ليلا). وكانت له طقوسه اليومية من شرب الشاي الاسود اولا ثم فنجان القهوة ثانيا والأكلة المفضلة لديه جبنة بلغارية وخس وبيض مسلوق. كنا اتفقنا على تحضير طعام الغذاء بالتناوب وعندما يحين دوره يتهامس الشباب شو الغدا اليوم فيردون معا: بيض مسلوق وخسة وجبنة بلغارية. ومن طقوسه المحببة انه زرع على قبور الشهداء الذين عاشرهم(جواد ابو الشعر ، الحج حسن وآخرون) شجر ياسمين وكان يستقبل العام الجديد حيث تاريخ انطلاق الثورة الفلسطينية 1/1/1965 بزيارة المقبرة عند الفجر ليترحم على الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من اجل فلسطين وشعب فلسطين ويسقي الياسمينة. وكان لعاطفية اللحظة وعمق احساسه بفراق هؤلاء الابطال لا يقول: “اننا ذاهبون الى المقبرة لزيارة الشهداء بل “اننا ذاهبون لنسقي الياسمينة”.

كان في مركز التخطيط كما في كل قطاعات الثورة العسكرية والمدنية عرب من كل الدول العربية وقد اطلق عليهم اسما يليق بهم” كتيبة الالف صعاليك العرب عشاق فلسطين”.

لقد بلغ تفهمه لظروف البشر ولأخطائهم وتسامحه معهم درجة عالية فقد كنا مرة في شارع الحمرا، الشارع البيروتي الشهير، ومررنا بمومس تعرض نفسها على المارة في وقت غريب: العاشرة صباحا، فاستغربنا الموقف فعلق بلهجته المصرية:” تلاقيها متعشتش مبارح”.

الحديث عن الدكتور محجوب عمر رحمه الله لا ينتهي ففي سيرته الكثير من القضايا والمواقف والمحطات التي تستحق الذكر لكن لعل الحديث عن وصيته يصلح خاتمة لهذا الحديث فهي تعكس طبيعة شخصيته ومدى اتساع افقه وبساطته وتواضعه، فقد كنا في بيروت واحتمالات الموت كبيرة خاصة عندما كانت بيروت الغربية، حيث مقر المركز، تتبادل القصف العشوائي مع بيروت الشرقية، طلب أن يكون خبر وفاته بسيطا وقصيرا: فتح تنعى محجوب عرف بالأسماء التالية: رؤوف نظمي، محجوب عمر، وائل عزام، سعد زهران…الخ. فلما سألناه عن المغزى قال:” أبدا فقط حتى يعلم من له معي حساب أو تصفية حساب شخصي فيصفره ويغلق الدفتر”.

() كاتب سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى