محمد عبد المولى: المبدع يكتب في كل الظروف
إعدام اثنين من أخوة الشاعر طبع حياته
راشد عيسى
المصادفة وحدها أخذت الشاعر السوري علاء عبد المولى، ابن مدينة حمص، عاصمة الثورة السورية، إلى المكسيك حيث هو الآن. كان ذلك عشية اندلاع الثورة، وربما هذا وحده ما جعله يتفادى مصير شقيقين جُوبها بالإعدام في حقب سورية مظلمة سابقة. هو إذاً ابن عائلة مخضرمة بالظلم، وكان بديهياً أن يكون خياره الوقوف مع الثورة. من كل هذه المسافة يصحو عبد المولى ليكتب عن حمص، وعن ثورة بلاده التي يتنفسها صبح مساء، وينام على إيقاعها.
^ ما سبب وجودك في المكسيك هذه الأيام؟
ـ أنا في المكسيك في دعوة من مؤسسة Casa Refugio Citlaltépetl التابعة لمنظمة ICORN التي تستضيف أدباء وكتابا من أنحاء العالم، يعانون من أوضاع أمنية وسياسيّة خطيرة أو قلقة في بلدانهم.
^ انت تتحدر من مدينة حمص، فهل كنت على تواصل مع ما يجري فيها، كيف تلقيت أنباء المظاهرات هناك؟
ـ لقد كانت المظاهرات في بدايتها وشكلها المنبعث على ذلك النحو في حينه، كانت مفاجأة مذهلةً لي. كنت أرى الناس يكتبون بأجسادهم أعمالا إبداعية نادرةً، مقدمين صورةً حضارية للعالم بالتظاهر. كانوا يصطفّون صفوفا منظمة منسّقة يصنع تناغمها موسيقى هندسية خاصة، رافعين الأغصان والورود، ويرقصون ويغنون. كنت أعيد بذلك اكتشاف روح مدينتي التي لم يشأ النظام المخابراتي أن تستمر في هذا الشكل السلميّ من التظاهر، فبدأ يصعّد ويواجه بالنار والدبابة والمدفعية ثم الطائرة ثم الذبح ثم الحصار أخيراً، فقضى على هذا الفعل الحضاري لأنه ليس من مصلحته أن يعبر الناس عن رفضهم له بهذه الطريقة على سمع ونظر العالم المتمدن.
فيما بعد، ونظراً لتطوّر الأمور وتدهورها بصورة دراماتيكية وعنيفة وقاتلة، تحول كل شيء إلى ما لم يكن أحد يريده. ولعبت بالموقف تياراتٌ وجهاتٌ ومخابرات دول أرادت إدارة معركتها على أنقاض البيت السوري، والرقص في حمّام الدم السوريّ. فاختلطت كثيرٌ من الوقائع وانحرف البعض عن مسار الحقيقة. ومدينتي جزء من هذا الموقف برمّته…
^ أوّل قصيدة كتبتها كانت رسالة حنين لإخوتك المعتقلين، هل يمكن القول إن ذلك طبع تجربتك الشعرية عموماً؟
ـ كان ذلك عام 1980 صيفاً. لا يمكن القول (إن ذلك طبع تجربتي عموماً) من غير نقاش للقول. لكن موضوع الاعتقال ثم إعدام اثنين من إخوتي، طبع حياتي وحياة الأسرة كلها. ولا شكّ سوف يدخل ذلك في التجربة الشعرية على أكثر من صعيد، شخصي وسياسي وتراثيّ. الموضوع كثّفته في كوني وقفت مضاداً للنظام السياسي السوري، بما فيه النظام الثقافي. وانحزت من دون تردد إلى الجهة النقيضة. مع أني لم أعمل في المعارضة مع أي تيار سياسي ولن أعمل.
السوري كرمز
^ ماذا عنيت بالنظام الثقافي؟
ـ النظام الثقافي الذي يفرزه السياسي، يفرض عليكَ الامتثال لشروطه ومقتضياته بشكل متواطئ.
لماذا كانت أجهزة الأمن تستدعيني بعد معظم مشاركاتي الشعرية والثقافية؟ والجميع يعرف ذلك. كنت أُسألُ عن قصائدي وماذا أقصد بها… ومرة سئلت في فرع الأمن السياسي بحمص عن قصائدي الوطنية أين هي؟ لماذا لم أكتبها؟ وأنت تدري ماذا يقصد بالقصائد الوطنية. لقد سألني مرة رئيس قسم الأحزاب مباشرة: لماذا لم أكتب قصائد في حافظ الأسد وفي رثاء باسل؟ في حين كنت أنا أعلن في قصيدةِ ما أنني ضد كل قصائد المديح ورثاء الضّريح وضد رثاء الغلام… هذا مثال مختصر جدا على الحالة.
^هل على الشاعر أن يكتب شعراً الآن عن الثورة؟ هل يسيء ذلك إلى الشعر؟ هل كتبت للثورة الراهنة؟ هل ينبغي ترك مسافة لتأمل الحدث؟
ـ لا أحمل أيّ اعتقاد بالعلاقة الوظيفيّة بين الشّعر والثورة. ففي الأساس يكمنُ عمل الشاعر في الثورة، التي تبدأ من اللحظة التي يجد نفسه فيها شاعراً. الآن نُعاني من الشعر المتكلف لموضوع الثورة، كما عانينا من شعرٍ جبانٍ في علاقته باللغة مثلا، والمرأة، والتاريخ والوجود. سوف نجد أن كثيرا من الشعر العربيّ جبان متخاذل في هذا الموضوع. أي أنه يتعامل مع الحداثة بطريقة انتقائية مضحكة تنزع الأمور من سياقها فيشوهها.
الشاعر الحديث الذي يعجز عن خلق تجربة جديدة، ويفشل في تثوير علاقته بكل عناصر التجربة من وزن وإيقاع ورؤيا ورؤية ولغة وتراث… سوف يكون عجز عن أن يكون صادقا في اختبار الحداثة.
هذا ينطبق على علاقة الشعر بالثورة كموضوع آخر. إن الشعر الحقيقي الخلّاق لن يرضخ لطبيعة الخطاب السياسي الثوريّ كعملية اجتماعية وشعبية وانقلابية، حتى لو وقف مع كل ذلك. بل ينبغي له الوقوف مع ذلك، حين يدخل في لعبة الشعر عليه أن يحترم خصوصية شروط اللعبة ولا يُدخلها في شروط أخرى. لقد كُتبَ شعرٌ وأدب كثير حول الثورات والحروب والانتفاضات، معظمه مات ولم تعد له قيمة جمالية وفنية تذكر. هذا ما يجري في مناخ كل الثورات. على أنني لست متشائما فيما يخص الانتفاضة السورية، حيث أقرأُ لزملاء قصائدَ مهمة تتعامل مع الموضوع لا كحدث راهن، لا كوقائع تزول، بل كحدث له تأثيره القوي على كل شيء. ومن غير شك فقد كتب ويكتب ما هو مبتذل شعريا ولا قيمة له وينتهي في لحظته.
ليس بالضرورة أن ننتظر حتى ينتهي الحدث لنكتب عنه. لست مع هذه النظرة السائدة، فالمبدع الحقيقي يكتب في أي ظروف كانت. لأنه يحرر ملكوت الشعر من تبعيّته وارتهانه لشروط الثورة.
لقد نظرت فيما كتبته حتى الآن من قصائد مختلفة في هذه المرحلة، فوجدت أن هناك مجموعتين كاملتين في الأفق السوري الرّاهن… والأمر يتضمّن المعاناة الشخصية للذات في بعدها عن الوطن في مرحلة خاصة وحاسمة، وما يصنع ذلك من غياب وحضور يتصارعان في داخل اللغة. أضف لذلك أن هناك متابعة شعرية واستقراء شعريّا للكائن السوري المنتفض المطالب بحريته بهذه الشجاعة الأسطورية. لقد أرّخت للسوريّ كرمزٍ من رموز أسطورة معاصرة لم تكن في حساب أحد.
كتبت عن خراب المدن والأحياء والأرواح. عن الأقنعة التي سقطت طائفيا وثقافيا. كتبت أكثر للحرية، كتبت لها من جديد، فشعري تقيم فيه الحرية منذ بدأت الكتابة…
^كيف غيرت الثورة في حياتك ويومياتك؟
تزامن ذلك مع وجودي في المجتمع المكسيكي، فقد كنت مطالبا أمام نفسي أن أشرح للآخرين هنا ما يجري في سوريا، قدمت في معظم جامعات المكسيك (العاصمة)، محاضرات سياسية لأول مرة في حياتي! طبعا هذا غير اللقاءات الإعلامية التي يدور معظمها حول سوريا بطبيعة الحال. إضافة للقراءات الشعرية كلما توفر الوقت لذلك.
من جهة أخرى: لقد غادرت سوريا وفي ذهني أنني أريد أن أرتاح منها، من ركامها وضغطها علي من كل ناحية خلال أربعين عاما. قررت نسيان الكثير… ولم أستطع تحقيق شيء من ذلك بدءا من 15 آذار 2011. لا أستطيع الإحاطة الآن بوضعي عبر حوار لأقول لك كيف انقلبت يومياتي رأسا على عقب. أصلا لم يكن لدي وقت (أسبوعان فقط) لأصنع يوميات جديدة وخاصة. فكانت يومياتي كلها تدور حول سوريا… قلقاً ورعباً، أملاً وانكسارا وكتابة واستنفارا شاملاً.
حاوره: راشد عيسى
السفير