صبحي حديديصفحات الثقافة

إعادة تصنيع الاستشراق/ صبحي حديدي

على مدار ثلاثة أيام، نهاية الأسبوع الماضي، شهدت ‘دار ثقافات العالم’ HKW، في برلين، مؤتمراً دولياً بعنوان ‘رحلة أفكار متقاطعة’، يكرّم الناقد والمنظّر الفلسطيني ـ الأمريكي إدوارد سعيد (1935 2003)، في مناسبة الذكرى العاشرة لرحيله. وقد شارك في جلسات المؤتمر عدد كبير من دارسي سعيد، والمشتغلين بالنقد الأدبي والثقافي، والفلسفة، وعلم الاجتماع، والفنون المسرحية والسينمائية والبصرية المختلفة؛ فضلاً عن باحثين مثّلوا منظمات مختصة بالأعمال الميدانية الثقافية والتربوية والتنموية (مثل مجموعة ‘المشاع′ الفلسطينية التي تُعنى بتطوير الحياة في المخيمات)، وآخرين عرضوا طرائق قراءة سعيد على نحو مرتبط بفنون الشارع (مثل جماعة ‘أهل الكهف’ التونسية).

كذلك حضر الملفّ السوري، من خلال حوارية مسرحية بعنوان ‘يوسف مرّ من هنا’، كتبها المسرحي السوري محمد العطار (مؤلف مسرحية ‘فيك تطلّع بالكاميرا؟’)، وتولى أداءها على الخشبة الممثّلون السوريون رامي خلف وحلا عمران ومحمد آل رشي. والعمل يتناول رحلة عودة إلى سورية، تمرّ بأحياء مدينة حلب وأطرافها وريفها، وتنتهي في مدينة الرقّة، بحثاً عن يوسف الذي اختفى، ولا يُعرف له مصير: أهو في قبضة السلطة، أم احتجزته ‘داعش’، أم بات رهينة في يد جهة أخرى… والرحلة هذه ـ التي تمزج بين السخرية السوداء، والنقد والنقد الذاتي، والتوصيف التوثيقي ـ تنطوي على نماذج وتجارب إنسانية شتى، صارت مقترنة بحياة السوريّ اليومية، من انقطاع الكهرباء والماء، إلى التآلف مع قذائف الهاون والبراميل المتفجرة وطائرات الـ’ميغ’.

انتفاضات العرب، والانتفاضة السورية تحديداً، حضرت أيضاً من خلال الورقة التي قدّمها كاتب هذه السطور، بعنوان ‘: تغطية إسلام(ات) ‘الربيع العربي”؛ والتي انطلقت من الفرضية التالية: إنّ الفشل في التأطير السليم للأنساق المختلفة التي اتخذها الإسلام السياسي خلال الانتفاضات العربية، أفسح المجال أمام نمط من الاستشراق لا يتوقف عند الثوابت العتيقة، غربية التمركز، حول ‘الشرق’، فحسب؛ بل يعيد تصنيعها أيضاً، بطريقة تنتهي إلى حشر شعوب المنطقة، وانتفاضاتها، في طبعات جديدة من ثوابت الهيمنة الثقافية، ثمّ السياسية. وفي حالة سورية، أكثر من سواها في الواقع، لم تكن عمليات تصنيع وإعادة تصنيع هذه ‘المعرفة’ الاستشراقية مقتصرة على اليمين، والمحافظين، والمحافظين الجدد؛ بل تولاها أيضاً عدد من الليبراليين، والماركسيين، والتروتسكيين، وأهل اليسار عموماً.

وفي مقدّمة تعود إلى تشرين الأول (أكتوبر) 1980، صدّر بها كتابه ‘تغطية الإسلام’، الذي سيُنشر بعد عام، يشير سعيد (في ترجمة محمد عناني؛ دار رؤية، 2006) إلى أنّ ‘الآراء تتفق على اعتبار ‘الإسلام’ كبش الفداء الذي ننسب إليه كلّ ما يتصادف أن نكرهه في الأنساق السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة في عالم اليوم. فاليمين يرى أنّ الإسلام يمثّل الهمجية، واليسار يرى أنه يمثّل حكم الدين في القرون الوسطى، والوسط يرى انه يمثّل الغرابة الممجوجة’. أمّا في مقدّمته لطبعة 1997 المنقحة، والتي تصلح فصلاً إضافياً للكتاب لأنها تقع في 48 صفحة، فإنّ سعيد يؤكد تقديرات العام 1980، بل يشددها أكثر: ‘سوق التمثيلات، حول إسلام أحادي، حانق، مهدِّد، منتشر بطريقة تآمرية… صارت سوقاً أوسع نطاقاً، وأكثر نفعاً، كفيلة بتوليد المزيد من الإثارة’.

تجدر الإشارة، هنا، إلى أنّ سعيد اعتبر ‘تغطية الإسلام’ بمثابة كتاب ثالث، وأخير كما قال، من سلسلة أعمال حاول فيها دراسة العلاقة القائمة في العصر الحديث بين عالم الإسلام والعرب والشرق من ناحية، وبين الغرب وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة من ناحية أخرى. الكتاب الأول كان ‘الاستشراق’، 1978، الذي نهض أساسه الفكري على ‘الارتباط الوثيق بين المعرفة وبين السلطة أو القوّة، ورصد شتى مراحل تلك العلاقة منذ غزو نابليون لمصر، والفترة الاستعمارية، ونشأة دراسات المستشرقين الحديثة في أوروبا حتى انتهاء الهيمنة الإمبريالية، البريطانية والفرنسية، بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور السيطرة الأمريكية في الوقت نفسه. وأمّا الكتاب الثاني فقد كان ‘المسألة الفلسطينية’، 1979، الذي يعرض للصراع ما بين سكان فلسطين العرب الأصليين، والحركة الصهيونية ذات المنشأ الغربي والتي تنتهج في تعاملها مع حقائق الواقع ‘الشرقي’ نهجاً غربياً إلى حدّ كبير. كذلك يصف الكتاب ما اختفى ويختفي تحت السطح في الرؤى الغربية للشرق، أي الكفاح الوطني الفلسطيني في سبيل تقرير المصير.

والحال أننا، منذ مطلع العام 2011، شهدنا، ونشهد كلّ يوم تقريباً، سلسلة من القراءات الاستشراقية للانتفاضات العربية، تثبت أنّ مؤسسة الاستشراق ما تزال مكينة؛ وهي لم تكن، وليست اليوم أيضاً، مرحلية في الزمن السياسي (الذي يخصّ المشروع الاستعماري البريطاني ـ الفرنسي وحده)، أو محدودة في النطاق المعرفي (الأدب والفلسفة والاجتماع والثقافة إجمالاً). وهكذا، نقول مجدداً إنّ سعيد كان غائباً في الجسد عن عام الثورات العربية، ولكن مؤسسة الاستشراق التي انتقدها لم تكن حاضرة بقوّة في تفكير غالبية الآراء والتحليلات الغربية، فحسب؛ بل لعلّها قبعت وراء صياغة معظم السياسات الغربية الرسمية.

لهذا فإنّ مؤتمر برلين لم يسعَ إلى تكريم سعيد فقط، بل أعاد تلمّس منهجيته النقدية العميقة في ضوء حاجتنا الماسة إليها، راهناً: في أماكن غير منتظَرة، وأخرى مألوفة؛ وفي شوارع الانتفاضات العربية، أسوة بأروقة إنتاج المعرفة والسلطة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى