مخاض أم انتكاسة؟/ سمير العيطة
لا بدّ من وقفة أمام المشهد العربيّ اليوم، ليس في سوريا والعراق وحدهما بل أيضاً على مساحة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.
كان المدّ الشبابيّ متوقّعاً، إلاّ أنّ العمى والإنكار أصابا جميع الحكّام… كما أصاب ورثة التيارات السياسيّة لزمن الاستقلال. تُرِكَ الشباب عقداً من الزمن مهمّشين من دون أمل. هذا التهميش هو بالضبط الأرض الخصبة «للهويّات القاتلة» وشبكات أفكارها وتمويلها. لقد ثاروا انطلاقاً من الضواحي والمدن المهمّشة طلباً للحريّة والكرامة، فسدّت الأنظمة الحاكمة الأبواب في وجوههم، وانتهى الأمر بهم إلى الانخراط انبهاراً بـ«دولة الخلافة» و«نجاحاتها» أو الصعود في قارب موتٍ حلموا بأنّه سيحملهم إلى شواطئ شمال المتوسّط. فهل يُمكن أن تهدأ المنطقة قبل أن يهدأ التسونامي ويجد الشباب أملاً لهم بمستقبل؟
اخترعت سوريا ولبنان ومصر والعراق العروبة. هذه العروبة ليست راسخة في القدم كما علّمتنا الكتب، إذ أفل نجم تلك الموروثة يوم أضاعت هذه البلاد إرث أبو العلاء والمتنبي ومن سبقهم. بل كانت العروبة هويّة حديثة تخطّت العثمانيّة المتهالكة، وتعالت على الانتماءات الدينيّة والمذهبيّة لتنظر إلى أفق «الدين لله والوطن للجميع». كانت مشروعاً لتحرير المغرب العربي وخليجه من الاستعمار، ومشروع قطبٍ عربيّ في عالمٍ ثنائيّ. اليوم انتقل مركز الثقل الإقليمي في المنطقة إلى الخليج، وإلى إيران وتركيا. غرقت دول العروبة الأولى في مشاكلها وحروبها وضعُفَت، ولم يبقَ سوى عروبة لا تُضيء إنسانيّاً، لا بمشروع حداثة ولا بقطبٍ يحمل سكّانه إلى دورٍ عالميّ. لم يبقَ سوى خطابات مستقاة من عصور الانحطاط عن كفّار وتكفيريّين. فهل هناك عرب و«تضامن عربيّ» حتّى في حدّه الأدنى، من دون مصر وسوريا والعراق ولبنان؟
القوى الإقليميّة الجديدة ثريّة وتبحث عن نفوذ. وتتصارع على هذا النفوذ عبر جموع أولئك الشباب بالتحديد، والذين تمّ إبعادهم عن التنمية وعن مشروع وطن المواطنة. تتصارع السعوديّة مع قطر وتركيا، وتتصارع هذه كلّها مع إيران. وإذا لم تستمرّ الحروب «ثلاثين عاماً» في صدام مذهبيّ قاتل عقيم، فإنّ التهدئة ستكون نتيجة توازنات القوى الإقليميّة، لا نتيجة نهضة عربيّة جديدة. فأيّة توازنات يُمكن أن تتواجد في أمدٍ قريب، علماً أنّ هجمة الصراع على النفوذ تشكّل أصلاً لكلٍّ من هذه القوى هروباً من مشاكلها الداخليّة؟
قُضي على عروبة الاستقلال الأوّلى يوم «نكسة» 5 حزيران 1967. بمؤامرة نعم، ولكن أيضاً وأساساً لأنّ الاستبداد نخر مشروعي النهضة ونصرة فلسطين سويّة. واليوم، يتمّ وأد «الربيع العربيّ» الذي انبثق حقّاً «ثورة» من أعماق المجتمع، لأنّ «الثورة» الحقيقيّة محظورة داخليّاً وإقليميّاً ودوليّاً. إذ إنّها كانت قد تأخذ العروبة الأولى إلى عروبة أكثر حداثة… تحمل قيماً عالميّة أعمق: المساواة في المواطنة، دولة القانون واحترام الحريّات، العدالة الاجتماعيّة والعدالة بين المناطق المختلفة، اللامركزيّة الإداريّة وتقبّل تعدّد الهويّات ضمن الفضاء الواحد.
المشهد العربيّ قاتمٌ اليوم. من ثار وقُمعت ثورته يهاجم العرب والعروبة. فهؤلاء أضاعوا فلسطين وتخلّوا عن أهلها. وتركوا شباب الربيع يُقتَلون والشعوب تتشرّد. ومن منهم بقي يتغنّى بالعروبة يقوم بأفظع الشنائع باسمها. وها هم العرب يتقاتلون بالسلاح ضمن الحدود وعبرها. بالتالي، لِمَ ستنادي الشعوب العربيّة بـ«العروبة»؟
إلاّ أنّ هذا السؤال يبقى مطروحاً بعد أن قامت «دولة الخلافة» بإلغاء الحدود بين سوريا والعراق، وبعد إعلان «إمارة إسلاميّة» بايعت «الخلافة» في ليبيا على حدود مصر، وبعد النزوحات الضخمة للسكّان بين البلدان العربيّة. فماذا بعد؟
وماذا عندما ستنتهي الحروب ويأفل فكر التنظيمات المتطرّفة؟ كيف ستُعيد هذه المنطقة ترتيب أوضاعها؟ وإذا ما انهزمت «دولة الخلافة»، ما الذي يمكن أن يحلّ محلّها؟ وباسم أيّة هويّة؟ وضمن أيّة حدود؟
السفير