مخاطر استتباع لبنان للأزمة السورية
سليمان تقي الدين
يصعب تحديد الجهة التي بادرت إلى افتعال الأزمة الأخيرة في لبنان . هناك سياق تاريخي للأزمة معقد وجميع الأطراف والقوى السياسية المحلية والإقليمية متورطة فيه . وعلى فرض اتهام طرف واحد بعمل معيّن فإن التداعيات لم تكن عفوية في أي مكان . المسرح اللبناني متوتر مستنفر ومعبّأ للاشتعال بالاحتجاجات السياسية والحوادث الأمنية . ورغم أن الحكومة شبه مشلولة وغير مؤثرة كثيراً وهي تراعي جميع الأطراف والاعتبارات وتحاول المساومة والتسوية، إلاّ أن وجودها يأكل من رصيد أحد التيارات الأساسية المبعدة عن المشاركة فيها . رفعت الحكومة شعار “النأي بالنفس” تجاه الأزمة السورية وهي فعلاً تسعى إلى ترجمة هذا الشعار بالقدر الذي تستطيع خاصة في المواقف السياسية والدبلوماسية والعلاقات الخارجية، لكن أطراف الحكومة كما سائر القوى اللبنانية تورطت في الأزمة السورية منذ اللحظة الأولى سياسياً وميدانياً . في الأصل انشق لبنان على نفسه في صيغة مع وضد سوريا، وهناك توترات قديمة في علاقة الأطراف مع الدولة التي تتداخل علاقات السكان بها يومياً عبر حدود واسعة ومصالح اقتصادية متنوعة وعلاقات اجتماعية مندمجة . ولم يكن خروج القوات السورية في لبنان مناسبة لتنقية العلاقات ومراجعتها وتصحيحها، فهو جاء في ظل صراع سياسي كبير جعل هذه العلاقة أكثر توتراً . ولم تنسحب سوريا من الملف اللبناني وهي تمارس نفوذاً وتأثيراً داخل مؤسسات الدولة ولديها حلفاء يرتبط مصيرهم بمصير سياستها . خلال السنوات القليلة الماضية شعرت فئات لبنانية بالغبن والظلم المتمادي من الممارسات السابقة ورأت أنها لم تستطع أن تحقق حريتها الكاملة في ظل الوضع الجديد وعندما انفجرت الأزمة الداخلية السورية اتجهت إلى تعزيز الشعور الطائفي في كلا البلدين ولم يعد ممكناً عزل الصراع في لبنان عن ما يجري في سوريا .
لم تنشأ في لبنان كتلة وطنية استقلالية فعلاً هدفها بناء الدولة وتأمين الشراكة والعدالة بحيث يتعزز الولاء اللبناني وتتراجع نزعة الولاء للخارج والرهان على تأثيراته . في ظل الواقع الطائفي والصراع على السلطة يصبح العنصر الخارجي مهماً لدعم هذا الفريق أو ذاك . فشل اللبنانيون حتى الآن بأن يطرحوا القضايا الوطنية بروح الوحدة والمصالح العامة ونزعوا إلى تقوية مشاريعهم الفئوية الخاصة .
اتجهت السياسة اللبنانية بتأثير واضح من النزاعات الإقليمية إلى بلورة تيارات طائفية مذهبية وقد عبّرت عن نفسها بحدة كانت تباعد بين اللبنانيين . نمت اصوليتان في لبنان تتغذّى الواحدة من الأخرى وترتكز إلى مصالح مادية فعلية من اقتسام النفوذ والخدمات . ونتيجة الأزمات السياسية المتلاحقة زاد الطابع المذهبي لمؤسسات الدولة ولمواقع القرار فيها وطاول ذلك الأجهزة الأمنية نفسها . تدريجاً فقدت الدولة الصفة المعنوية والمصلحية العامة وصارت قراراتها تحسب في خانة نفوذ الجماعات . ففي لبنان تتمتع الجماعات بامتيازات خاصة من بينها واقع السلاح الذي يمتلكه طرف سياسي مذهبي . لم ينجح الحوار الوطني في حل مشكلات أساسية تتعلق بغياب التوازن وبشعور مجموعات لبنانية بالغبن، وأخرى بالاستقواء، حتى ان قضايا مثل السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وداخلها لم تجد طريقها إلى المعالجة . تراكمت المشكلات وأحدثت احتقاناً في الشارع وحرّضت على ما يمكن اعتباره سياسات الأمن الذاتي عند جميع الطوائف . كان ذلك يحصل قبل الأزمة السورية واستفحل بعدها . قد يكون متعذراً إنتاج توازن مسلح في لبنان لكن النزاعات الأهلية لا تحتاج إلى التوازن بل هي تستمد شرعيتها من الجغرافيا السياسية . في الأزمة الأخيرة حصل ما يشبه هذا التوازن السياسي إذ ارتسمت مناطق نفوذ واضحة وبدأت تطرح على اللبنانيين مهمة معالجة وحدتهم الوطنية قبل ان يقع محذور الحرب الأهلية .
الخليج