مختارات من أشعار تشارلز سميك: عالم خليط من الرؤى والأماكن والهويات/ هاشم شفيق
يدفع الشاعر الأمريكي من أصل يوغسلافي تشارلز سيميك في أشعاره القارئ إلى التأمل والتفكر والاسترسال في أحوال العالم والذات والوجود، كون شعره هو وليد هذا الأنسقة الفنية والجمالية المتشابكة في نسيج محكم وخلاق، يشي بجودة الصنيع وبالمهارات والخيالات النادرة التي يجترحها سيميك في كتاباته الشعرية التي رَبَت على العشرين كتاباً وترجمت لمختلف لغات العالم، لا سيما بعد شهرته الواسعة التي تأتّتْ إليه عبر نيله جائزة البولتزر الشعرية، وهي من الجوائز العالمية الكبرى والرفيعة التي تمنح عادة للكتب الإبداعية المتميزة، شعرية كانت أو روائية أو أوتوبوغرافية تبحث في عالم السيرة، ثم نال بعدها جائزة والاس ستيفينز ليتوج فيما بعد شاعراً لعموم أمريكا
يتقن سيميك الشاعر لغات عديدة وقد ترجم ثلاثين كتاباً من هذه اللغات، ترجمته كانت تتم من الصربية إلى الإنكليزية وبالعكس، حتى نال هذه الشهرة العالمية التي لم تأت إلا بعد معاناة كبرى مع الحياة والسفر والكتابة.
ولد تشارلز سيميك، ويلفظ حسب اللغة السلافية بـ «سيميتش» في العاصمة بلغراد عام 1938 لعائلة متوسطة الحال، سرعان ما تعرّضت إلى الاضطهاد إبان الفترة النازية، حيث طورد والده واعتقل مرات عديدة إلى أن تمكن من الفرار أثناء الحرب العالمية الثانية إلى ايطاليا، لكن سوء الطالع سيقف له بالمرصاد لتعتقله السلطات الفاشية هناك، ولكنه سيتحرر بعد نهاية الفاشية وانتهاء الحرب. سيغادرالأب إلى أمريكا، ليظل سيميك الابن والشاعر مع أمه التي ستعاني الكثير أيام الحكم الشمولي في يوغسلافيا، من أجل الانتقال إلى أمريكا بسبب المنع، ولكنها في الآخر ستتمكن من الفرار في عام 1954 إلى باريس ثم إلى نيويورك.
الفتى الشاعر الذي أكمل الثانوية في بلغراد، ستنطبع في ذهنه صور الحرب والخراب والدمار التي خلفتها النازية في بلده وهو صبي. كل هذه المحن الكثيرة من منع للسفر ومداهمات ليلية ومآسٍ وسجون ومعتقلات وسفر إلى المجاهل والعوالم الغامضة، ستولّد للشاعر الذي درس اللسانيات في إحدى جامعات نيويورك، ستولّد لديه تلك القصيدة السديمية، التي تنحو صوب التعقيد جراء الحياة التي تعقّدتْ أمام الطفل والفتى ثم الشاب المشرّد في عالم آخر وبيئة مختلفة.
بيد أنّ هذه الأمكنة المتعدّدة، بلغراد، باريس، نيويورك وغيرها من المدن، ستترك على القصائد طابعها وميسمها وسيرورتها، وكذلك سيرتها، بين مكان ومكان، وحياة وأخرى متغايرة ومختلفة. من هنا سنجد في قصائد سيميك هذا العالم الخليط والمزيج لشتى الرؤى والعناصر والسياقات التي ألمّت بقصيدته النادرة والغريبة، بسياقها الغرائبي عن شعراء أمريكا، فهو،إضافة إلى هذه العناصر والتصوّرات والحيثيّات المذكورة، سيضيف إليها بعده المعرفي وثقافته الواسعة في الفلسفة وتأثره البليغ والنافذ في عوالم الفيلسوف الظاهراتي هايدغر، الذي نهل الشاعر من رؤيته الكثير، كل ذلك من أجل أن يجسّده في نهاية المطاف في قصيدة صغيرة أحياناً لا تتعدى الثلاثة أسطر.
فهو مثلا يكتب عن اكتشاف اللامرئي وعن صور مشاهير الدكتاتوريين في طفولتهم وعن الرجل الباطني وعن أجداده مربّي الخنازير، هذا غير كتابته عن الحياة اليومية، وكل تفاصيلها ومشاهدها ويومياتها والعالم اليومي للإنسان المُجِد والكادح والمظلوم والناجي، عن النادل، عن الحيوانات والجزّار والمتاحف والضحايا، وعن المراقص الليلية ومصنع الدمى والجنود أيام الحروب، وعن النساء الجميلات أيضاً، لا سيّما هو القائل حين سئل كيف اهتدى إلى الشعر: «حين رأيت الفتيات يُهرعن إلى الشعراء الذين يكتبون فيهنّ قصائد مؤثرة».
الشاعر الكوزموبوليتاني، متعدّد الهويات والثقافات والأمكنة، يستحق أن تترجم كامل أعماله إلى العربية، كاتب هذه السطور ترجم له بضع قصائد في كتابه «أشعار من العالم» وجدها قريبة إلى نفسه. وهناك ترجمات متفرقة له، من أبرزها وأكملها وأكثرها إضاءة لمشروعه الشعري الواسع ومتنوع الأنسقة والاتجاهات والأساليب، هي ترجمة اللبناني من أصل فلسطيني الشاعر سامر ابو هواش، وترجمة السوري أحمد م أحمد التي ظهرت مؤخراً في كتاب جامع، قدير ودقيق استطاع من خلالها أن يوصل طريقة وأسلوب وتقنيات تشارلز سيميك في الكتابة الشعرية. ولأهميته الفنية سيكون مدار بحثنا هنا وتسليط الضوء على العمل الذي ضم كتابين شعريين، وهما مختاران من كافة أعماله الشعرية، الأول هو «ذلك الشيء الصغير» والثاني جاء تحت تسمية «سيد التبديات».
ذلك الشيء الصغير
عن عالم السجون والمعتقلات نجد قصائد كثيرة في هذا الديوان، إضافة إلى قصائد عن الحرب والدمار التقني، والخراب الإنساني، الذي شهده العالم ولا يزال يشهده حتى هذه اللحظة، خراب طال قطاعات واسعة من البشرية، وكل بلد وشعب وفئة بشرية، قد نالوا ما نالوا من الحرب، منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الآن، ناهيك عن عالم الدكتاتوريات التي تحكمت برقاب البشرية، في دول عدّة، ومن ضمها يوغوسلافيا السابقة. ففي قصيدة له بعنوان «أولئك الذين ينظفون في أثرنا» نتحسس بدقة متناهية هذا العالم المظلم والظالم «باسمنا ارتكبت الشرور/ ينظف أحدهم آثار الدم/ ونحن نشيح النظر/ مجهّزاً الزنزانة ليوم جديد / لا أستطيع قراءة وجوههم/ مجرد سطول ومماسح، ينزلون بها درجات حجرية/ إلى ظلام القبو».
أما عن الحرب التي تتكرر في أكثر من مشهد وملمح وقصيدة، فنقرأ قصيدة «ذكريات عن المستقبل» «نتلمس المعاناة البشرية والضياع والفوضى والقتل الذي يسود في أزمنة الحرب/ في أيّ حشد هناك قاتل أو اثنان/ ممن لم تعترِه الشبهة بمصيره بعد/الحرب اندلعت/ لتسهل عليهم قتل امرأة تدفع عربة رضيع/ لا تُخفي الحيوانات في حديقة الحيوان اضطرابها، تذرع أقفاصها أو تشيح خجلاً منّا/ مصغية إلى شيء ما حتى الآن لا نستطيع أنْ نسمعه : صنّاع التوابيت يجدّون في دقّ المسامير».
وعن الطغاة والرؤساء وصناع الحروب ومهندسيها ثمة قصيدة «رقصة فئران الرَّوْع»، وهي من القصائد الجميلة التي تشير إلى القتلة الذين يحكمون البلاد، أنى كانت هذه البلاد والحرب التي يصنعونها «يبتسم الرئيس في سرِّه/ فهو يحبّ الحرب/ وثمة حرب قادمة في الطريق/ يمكنه أن يستشعر البهجة تتصاعد كلّ يوم/ في مكاتب الحكومة واستوديوهات التلفزيون/ بينما قاذفاتنا تحلق باتجاه بلدان بعيدة/ مستودعات جثثنا تُفْرَك لتغدو نظيفة/التي ستمتلئ قريباً بالشباب الشاحبين وقد رُصّوا في صفوف».
سيّد التبديات
أما الديوان الثاني فقد ضم قصائد تتراوح ما بين الخفة المرحة التي تستبطن شيئاً، لتستثمره فنياً لصالح القصيدة في البدء، ومن ثم تستدرك نفسها لتلتفت إلى القارئ الذي كتبت من أجله، قارئ سيميك الذكي والمحبط والقلق والمتألق أحياناً حسب أهواء الحياة ودوافعها ومراميها، وبين الدعابة السوداء التي تحمل الدوال والمواقف الفنية والرموز التي توقظ الذاكرة لتجعلنا نعي أين نحن وماذا نحن صانعون بأنفسنا؟ وهي حقاً تمظهرات الحياة وما تشي به من مشاهد ومباذل وتوترات تخلعها الحقيقة علينا والواقع لتتبدى هكذا عالماً حافلاً بالتداعيات اليومية للإنسان وتفاصيله التي لا تحصى في أتون الحياة : «بناءً على الحروب الراهنة/ سمعتهم على التلفاز يصرخون/ بأن رحاها ستدور إلى الأبد/ إذْ أنّ أعداءنا لا يُحصون / سيكون هناك الكثير من البزنس/ لأولئك الذين يُصنِّعون القنابل والبذلات العسكرية وأسرّة المشافي /وبالتأكيد التوابيت…./ أيها العصفور الذي يتقافز في الحديقة/ إن كان رئيسنا على حق/ فقد نكون أنتَ وأنا على العكازات/ حين تزورنا في المرة القادمة /». قصيدة العصفور ص 142.
يتوغل تشارلز سيميك في دواخلنا، من أجل استكناه اللوعة المختبئة في طوايانا، من أجل التحريض ونبش الضد الذي لم يعد يتحرك ، يبحث عن كلمة لا وسط آلاف من الكلمات ليرفعها الينا أو يزفها ناصعة بيضاء ومتحدية « يا نزلاء السجون اللامرئية والمستشفيات ودور الأمراض العقلية / إنه موسم الهواجس المبهمة والأفكار الهاذية / الذعرِ الموغلِ» من قصيدة «قلق خفي».
هكذا يمزج سيميك، وعبر مخيلة ناشطة وبارعة المشاهد التي تتواتر، مزحومة في طريقنا وبداية أي يوم من أيامنا، مشاهد الحرب والذعر والخوف والقتل، دون ان ينسى تلوين المشهد بفطنته ومَكره الجمالي، ليحوّل القطعة الشعرية إلى قالب من السحر، يشع بالضوء والفتنة، وقد تجد ذلك متبدّياً في قصائد «كلاب ترثي أسيادها» و «في صالة آدم وحواء لتسمير البشرة» و «مدلهم هو الليل» التي يتحدث فيها سيميك عن الحياة والوحدة وعن الذين يكبرون بين الآلام والعزلة التي يحتّمها عليهم الوجود.
وحين يسعى الشاعر الصربي، الذي ترعرع وسط الحروب، وشاهدها وهو طفل كيف تحصد الأبرياء والتي لا تفرق بين شيخ وطفل وامراة، يُسجّل على نحو حزين ومؤس ولافت إلى من لا يبالون بصناعتها، يُسجل هنا هذه الكلمات « لم يجلْ في خَلدي / أنّ هناك كثيرين/ ممن لذتهم الوحيدة في الحياة / كانت في جلب البؤس للآخرين/ كيف للحشود أن تهيم بهم!؟ / كيف تهلل لحروبهم التي لا تنتهي / ذلك ما يجعلني أفقد إيماني». من قصيدة الأب في الدار الآخرة.
رغم الهنات القليلة التي ظهرت في العملين الشعريين هذين، مثل استخدام الذال في كلمة بزّة وليس الزاي، وهي ترد في سياقات كثيرة، وكلمة الصرير للأسنان والصحيح الصريف، وتذرق الطيور بالذال وليس الزاي، وكلمة صراصير الليل والصحيح صرّارات الليل، ومفردها صرّار، رغم هذا، فالعمل الذي قدّمه المترجم، يعد من الترجمات المتألقة، التي استطاعت الوصول إلى عالم سيميك المتداخل والمتشابك، وهو غير السطح الذي يوحي بالسهولة والبساطة.
تشارلز سيميك: «ذلك الشيء الصغير وسيد التبديات».
ترجمة أحمد م أحمد، كتاب «دبي الثقافية». دار الصدى، دبي 2015.
198 صفحة
القدس العربي