مدينتي التي لم اعش حبها
علي العبد الله
لم يتسن لي، وأنا الديري، اقامة علاقة حميمة مع ديرالزور، فقد غادرتها قبل ان اتشرب عادات أهلها، ثقافتهم، سلوكهم، وأسلوبهم في التعاطي مع شؤون الحياة. نعم لقد قضيت السنوات الاولى من طفولتي فيها لكن مجال حركتي خلال يومي كان محدودا باللعب في وسط دار واسع (حوش باللهجة الديرية اصبح فيما بعد لسعته مرآبا للسيارات) والتلصص على رواد مقهى جمعة* من نافذة صغيرة للتهوية في الجدار الذي يفصلنا عنها، نافذة تجعلني قادرا على النظر ومراقبة تصرفات روادها وسماع اصواتهم وأحاديثهم غير الواضحة أو المفهومة بسبب المسافة والضجيج والازدحام، دير الزور مشهورة بكثرة المقاهي وقد درج القول الديري:”بين كل قهوة وقهوة بي قهوة”، دون ان اعدم فرصة الخروج الى الشارع لجلب شيء من دكان** مجاورة قبل ان انتظم في حلقة “الخوجة فطمة خانم” لحفظ القرآن الكريم والتي لم يعلق في ذهني من عالمها إلا قدر الماء وقد وضعت فيه نتف من مصاحف تالفة لنشربه بدعوى انه ينمي الفهم.
عندما عدت اليها بعد غياب دام خمس عشرة سنة كاملة قضيتها في مدينة القامشلي التابعة لمحافظة الحسكة، وكنت وقتها في العشرين من عمري، أحسست بغربة عميقة وقطيعة شاملة مع تقاليدها وثقافتها الاجتماعية*** وأساليب اهلها في التعبير عن انفسهم وتقديمها للآخرين. فرغم الطابع القبلي الواضح للمدينة والتأكيد على عامل القرابة المرتبطة بالحماية فان العلاقة الحميمة، على الضد من ذلك، هي بين ابناء الخالات، وغالبا ما تكون الكراهية والقطيعة سائدة بين ابناء العمومة، وكانت تلك المفارقة اول ما صدمني في مدينتي القديمة – الجديدة، حيث كان في استقبالنا والترحيب بنا ومساعدتنا على ايجاد منزل مناسب للسكن ابناء الخالات والأخوال، وبقيت علاقتنا شبه مقطوعة مع ابناء العمومة. فقرابة العمومة ترتب تنافسية مضمرة تستدعيها التراتبية المفترضة بين ابناء الفخذ والتزامات مادية تجاههم، وهذا غير موجود في علاقات ابناء البطن- الخؤولة، وهذا مع عقلية بدوية معيارها التعامل الذاتي جدا وأولويتها الفرد ذاته ثم الاقرب فالاقرب من أهله، يثير الحقد والكراهية والمداهنة ايضا. وقد لاحظت ظاهرة شائعة في المدينة ترتبط بهذا المناخ تمثلت في اختيار شبه ثابت لسورة يوسف تقرأ في المآتم، مباشرة او عبر جهاز تسجيل، وهي سورة تتحدث عن الغيرة والكراهية والغدر والتآمر بين الاخوة.
وكانت المفارقة الثانية التي عمقت القطيعة بيني وبين مدينتي اكتشافي لنمط شخصية الفرد الديري بسماتها وأبعادها( الأنانية، التظاهر، النفاق، الغيبة، التعالي الأجوف، المبالغة في حالات الفرح والحزن على حد سواء، الحدية، غياب موقف وسط، مزج الرأي بالقيمة الذاتية للشخص، ما يرتب اعتبار النقد اهانة، ضيق صدر ما يحوّل أي نقاش الى مشادة قد تتحول الى ضارب ومضروب****). أما ثالثة الاثافي فمفارقة العداء الصريح والاحتقار الواضح لسكان الريف بالرغم من القرابة والامتداد القبلي، اللافت ان عداوة النازحين الجدد من الريف لسكان الريف أشد وأقسى، واعتماد المدينة عليهم في عيشها، ومصدر دخل قطاع كبير من ابنائها حيث يقومون بدور الوسيط التجاري فيجلبون احتياجات الريف من ادوات زراعية ورعوية من حلب ويصدرون معظم انتاج الريف الذي يباع في المدينة من مشتقات الحليب (جبن ولبنة وسمن) والحبوب بأنواعها الى حلب. كانت مفارقة صادمة لشخص نشأ وترعرع في مدينة( القامشلي) شديدة الاختلاط والتنوع:عرب( بدو وفلاحون ووافدون للعمل من كل المحافظات) وكرد وآشوريون وسريان وأرمن، وأديان(اسلام ومسيحية ويزيدية) فعرف معنى التعدد وتعايش ولمس ايجابياته وسلبياته، وتفهم حق الاختلاف وتقبله.
بقيت في ديرالزور فترة قصيرة( بحدود الخمس سنوات) وغير متواصلة، فقد كنت اقضي الشتاء في الريف كمعلم وكيل وفي الصيف في دمشق لتقديم الامتحانات في كلية الآداب قسم الفلسفة، قبل ان اغادرها عام 1977 الى لبنان للالتحاق بمنظمة التحرير الفلسطينية، حيث قضيت فيها سبع عشرة سنة، وعدت عام 1995 الى المدينة لأجدها كما كانت ان لم تكن قد ازدادت جمودا الى جانب التشتت والتشرذم بفعل نشوء بؤر اسلامية حركية( حزب تحرير وسلفية علمية/نظرية وجهادية) بعد ان كانت النشاطات الاسلامية مقتصرة على المشيخية والصوفية، الى جانب أشباه احزاب قومية ويسارية قديمة.
لم يطرأ عليها تغير إلا في الظاهر، تلمست ذلك من تواصلي مع مجموعات مسيسة وأخرى غير مسيسة، فقد زرت الاستاذ داوود شحادة (رحمه الله) امين فرع حزب الاتحاد الاشتراكي العربي( اضيفت صفة الديمقراطي الى الاسم في ما بعد دون اعادة نظر في الفكر والسياسة والعلاقات التنظيمية) الذي كان قد خرج لتوه من السجن بعد ان قضى فيه ثلاث سنوات ونصف السنة، وبعد حديث عن الشؤون الخاصة والعامة سألني عن سكني، وقال انه سيزورني مع الاستاذ زكي خرابة( عضو قيادة الفرع في الحزب نفسه) ولما زاراني بعد ايام تحدثنا في الشأن العام، فطلب مني – شحادة- ان اجمع له شبابا من المهتمين بالشأن العام ممن اعرفهم كي يجري معهم حوارا في السياسة في ضوء سياسة الحزب الجديدة في الانفتاح على الرأي الآخر وقبول التعدد والاختلاف، فلم اعلق على الموضوع، لكني لم الب رغبته. التقينا بعد ايام مصادفة في الشارع فعلق على عدم قيامي بما طلبه مني بالقول:” لا خبر لا جفية لا حامض حلو لا شربة”(مقطع من اغنية عراقية لفاضل عواد) فقلت له يا أبو سليمان طلبك غير منطقي كيف تريدني ان اجمع لك شبابا وأنا لا اعرف ما عندك وما الذي سوف تطرحه عليهم( كنت انتظمت في هذا الحزب لفترة قصيرة في فترة سابقة 1971-1973). فرد هذا حقك اذهب الى مكتب ابو قصي(زكي خرابة) ستجد عنده اصدارات الحزب. ذهبت الى مكتب ابو قصي(محام) وأخذت نسخة من جريدة الحزب ودراسة كتبها الدكتور جمال الاتاسي(أمين عام الحزب منذ تأسيسه عام 1964) حول توجهات الحزب الجديدة، وقرأتها وكتبت ملاحظاتي عليها وعدت الى مكتب ابو قصي وقلت له هذا رأيي في مواقف حزبكم وأنا على استعداد للحوار حولها فأخذها على ان نرتب لقاء للحوار لكنه لم يعاود الاتصال. يبدو ان ملاحظاتي لم ترق لهم فالغوا الحوار ونسوا انفتاح حزبهم على النقد الذي حدثاني عنه.
لم يكن هذا اختباري الوحيد لمعرفة ما احدثته الايام في اهل مدينتي، فقد كان لي جولات وجولات مع اصدقاء ومعارف من فترة اقامتي السابقة في المدينة(1971-1977) اعضاء في حزب البعث العربي الثوري( جماعة العرفي بتعبير اهل الدير) ومع اكثر من تجمع اسلامي صغير، سألني اسلامي، بعد ان عرف اني كنت في منظمة التحرير، ما هو تقييمك لياسر عرفات فقلت له سياسي واقعي يحاول استرجاع بعض الحق الفلسطيني ويثبت حقوق الشعب الفلسطيني في البقية كي يبقي استعادته متاحة للأجيال القادمة، فرد لكننا لو عرضنا سياسته على الاسلام لوجدناها غير مقبولة، فقلت له الذي تتحدث عنه كان عضوا في جماعة الاخوان المسلمين قبل ان تلدك امك، وليس من حق احد ان يحكم على الآخر في ضوء قراءته لكتاب او اكثر في الفقه، فالحياة اعقد من هذا التبسيط. فاستاء مني مع انه ليس مختصا بالدراسات الاسلامية(كان مدرس رياضيات) وان مصدر ثقافته الاسلامية دروس استاذ لغة عربية سلفي التوجه، حيث تأكدت من وجود حالة تصلب “برسونة”، كما يقولون في علم النفس، بلوك صلد، وعجز عن التفاعل والتواصل مع الآخر، واعتماد سياسة كل شيء او لا شيء، ورفض أي حل وسط او توافق او تقاطع حول قضية مهما كانت ثانوية او عابرة: اما ان تقبل رأيي كما هو كاملا او تتحول الى خصم.. عدو … الخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* – كان المقهى في الشارع العام امام سينما الفردوس سابقا، والزهراء لاحقا، وقد اصبحت الآن مطعما للفروج والكباب.
**- كان دكان ابو فيصل في الجهة الثانية من الشارع العام وكنت اذهب لجلب بعض ما تطلبه والدتي، وكان امام الدكان صندوق فيه جوز كنت اساله وأنا اعبث بالجوز “بشقد الجوز عمو” وفيما هو يرد اخطف جوزة او اثنتين وأهرب، لم يكن يهتم للأمر، كان يتركني اذهب دون ان يتبعني او يقوم برد فعل. وذات يوم نفد الكاز (القاز باللهجة الديرية)من البيت فحملتني والدتي قنينة وأرسلتني اليه كي املأها، كانت الدكاكين آنذاك تبيع كاز بالقنينة، ولما ملأ لي القنينة لم يأخذ ثمنها، أحببت بعد ان عدنا الى المدينة ان اسأله هل كانت نيته احراجي ردا على سرقت الجوز ام انه اشفق على اسرة ليس لديها كاز؟.
***- حصل ومررت ببيت ابن عم والدي فإذا اصوات صراخ وأولاد الحي متجمهرين امام الباب فسألت ما الأمر فقالوا لي:”ولاد الملا متكاونين” أي “اولاد الملا يتشاجرون” فأكملت طريقي، وعندما عدت الى البيت حدثت والدي بما رأيت فصادف ان قابل احد المتشاجرين، وهو الاكبر، فوبخه على الأمر، فسأله من قال لك؟ فأجابه كان علي في حيكم ورأى ما حصل فرد “ليش ما فزعلي” أي لماذا لم يشارك في المشاجرة الى جانبي.
****- كان اول نقاش لي في المدينة مع طالب في الثانوية الفرع العلمي، في ثانوية امية، وعضو في الحزب الشيوعي السوري اسمه عبد المجيد مرزوق حول موقف الاحزاب الشيوعية من الحراك السياسي والاجتماعي في الدول العربية، وما ان قلت له ان الأحزاب الشيوعية قد وقفت ضد تأميم قناة السويس حتى شتمني ونعتني بالاخوانجي وركلني على ساقي.
المدن