مذكرات الثورة: الزبداني
فارس المدينة بين سلميتها وعسكرتها
رزان زيتونة
حاله كحال معظم النشطاء الذين باغتهم واقع ارتفاع وتيرة عسكرة الثورة، كان فارس يوقعني في حيرة من أمري، ما بين إظهار لهفة وتأييد للجيش الحر، وما بين انحيازه الذي استمر شهوراً طويلة، لسلمية الثورة.
في لحظات، تبدو الكفة وقد رجحت لديه، خاصة عند الحديث عن محاولة إجتياح مدينته الزبداني في ريف دمشق مؤخراً، ونجاح شباب الجيش الحر بصد الهجوم.
فارس ممثل تنسيقية “ثورة الزبداني وما حولها” في لجان التنسيق المحلية”، خريج كلية الإعلام والصحافة. كان من بين الأوائل ممن نزلوا إلى الشارع في مدينته، “في الوقت الذي كانت فيه الطبقة المثقفة أو ذات التحصيل العلمي، لا تزال بعيدة عن الانخراط في الثورة في منطقتي للأسف” كما يقول.
ونتيجة مشاركته الفاعلة منذ البداية، وقيامه بالتصوير والنشر والحشد للمظاهرات، أصبح من اشد المطلوبين، ما أدى إلى غيابه عن منزله لمدة أربعة أشهر ونصف تجنباً للإعتقال، من غير أن يغيب عن النشاط والتظاهر بطبيعة الحال.
اليوم يقول فارس أنه يستطيع النوم في منزله، “لأن هناك من يقف في الخطوط الأمامية ويحمي المدينة”.
تخطر في ذهني لدى قوله هذا، عشرات العائلات التي اضطرت للنزوح من منازلها في الغوطتين الشرقية والغربية، حيث يتواجد الجيش الحر ويخوض معارك عنيفة مع النظام. لكني لا أقاطع استرساله…
”بدأ العمل العسكري في الزبداني من خلال أشخاص يملكون السلاح أصلاً كونهم يعيشون في منطقة ريفية حدودية، بعضهم يعمل في التهريب، تهريب المواد الغذائية والكهربائيات، وهؤلاء لديهم قضايا مع الدولة”.
في البداية، يقول فارس، تخوف الأهالي من انضمام هذه الشريحة إلى الحراك، خاصةً أن مهنة التهريب فرضت عليهم التعامل مع أجهزة الأمن وفتح قنوات مع هذه الأجهزة من خلال عمليات التهريب التي تتم عبر دفع الرشاوى.
“في فترة لاحقة ومع زيادة شراسة الحملات الأمنية والعسكرية التي يشنها النظام على المدينة وارتفاع عدد المعتقلين إلى ما يزيد عن 500 معتقل فضلاً عن عمليات التنكيل المستمرة واستهداف كرامة الأهالي، إنضم لأولئك بعض النشطاء الذين كان لديهم الإستعداد لحمل السلاح والدفاع عن المدنيين، وهم في معظمهم ممن لا يحملون شهادات علمية. وهكذا بدأت تلك المجموعات المنظمة بالظهور وأصبحت أمراً واقعاً”.
لم يخل الأمر من كثير من السلبيات في البداية. داخل صفوف المسلحين كان هناك من ارتكب الخيانات وتسبب في الإيقاع بالعديد من الناشطين والمسلحين على حد سواء. لكن الأمور بدأت بالإنضباط بعد ذلك على حد وصف فارس.
في أول شهر سبتمبر 2011، إستخدم السلاح للمرة الأولى للدفاع عن المتظاهرين، حين بادرت دورية أمنية لإطلاق النار على مظاهرة سلمية، فرد شباب الجيش الحر بالمثل، ما أدى إلى اندحار الدورية وإكمال المظاهرة، وبطبيعة الحال، الإحساس بنشوة “النصر”.
هذا الواقع، شجع من لديه استعداد لحمل السلاح للإنضمام إلى الجيش الحر، وشجع الجنود المتعاطفين مع الثورة على الإنشقاق باعتبار أصبحت هناك إمكانية لاحتضانهم وتأمين نوع من الحماية لهم.
“العمل المسلح أصبح أمراً واقعاً، والحراك السلمي لا يستطيع السيطرة عليه. هؤلاء حملوا السلاح بداية للدفاع عن أنفسهم ثم للدفاع عنا عندما ازدادت أعدادهم” يقول فارس.
وكانت النقطة الفاصلة يوم بدء إضراب الكرامة حيث وعد المسلحون أصحاب المحال التجارية بحماية ممتلكاتهم من بطش الأمن أثناء محاولة فك الإضراب، وهذا ماحصل.
قبيل إقتحام المدينة، يقول فارس أن الشباب كانوا يتوقعونه ويستعدون له منذ نحو أسبوعين. فقاموا بتحصينها بالحواجز الترابية من مداخلها الأربعة، وزرعوا القنابل على طريق مرور الآليات العسكرية، ويصف فارس قلة العتاد لدى شباب الجيش الحر، حيث إعتمدوا على مواد أولية وبدائية جداً، والأهم أنها تتوافر في محيطهم، لصناعة تلك القنابل وبالتالي إستخدام سلاح ذو تصنيع محلي في وجه آلة القمع الهمجية.
“هناك من بقي خمسة أيام على خط النار في درجة حرارة ثمانية تحت الصفر، لدرجة أنه إذا أراد الضغط على الزناد خانه إصبعه المتجمد”.
صمد الجيش الحر في المعركة وكبّد جيش الأسد خسائر فادحة كما يقول أهل المدينة، مما دفع جيش النظام إلى الإنسحاب. وكان ذلك بمثابة دفعة كبيرة لمعنويات الجيش الحر وتعلق الناس به.
“لا يوجد أي دعم للتسليح، مررت بمسلحين لم يكن لدى أحدهم إلا أربع رصاصات ينوي الدفاع بها عن حارته ثم الهرب أو الموت. لكنه جيش محتضن من قبل الأهالي، وهي منطقتهم يعرفونها شبراً شبراً، فضلاً عن أنهم يدافعون عن قضية وطن وكرامة، ولديهم إيمان وعقيدة. بينما جيش النظام يتآكله الخوف، يدافعون عن شخص، وكثير منهم متعاطفون مع الثورة حتى أن بعضهم كانوا يمتنعون عن التصويب على المدينة” يقول فارس.
ويتابع “أدرك أن جيش النظام غير عاجز إذا أراد عن اقتحام المدينة، بكل ما يملك من وسائل القوة والوحشية، وأدرك أيضاً التعقيدات المحتملة لحمل السلاح على المدى البعيد، لكن هذا أصبح أمراً واقعاً يجب التعامل معه وليس تجاهله”.
وهو يرى أن الطريقة التي “نقدم” بها الجيش الحر، لها دور كبير في التأثير على أدائه الحقيقي على أرض الواقع، من حيث تعزيز صورة الإنضباط وتجنب الممارسات السلبية، “فبقدر ما نقدم صورة إيجابية عن الجيش الحر وما يجب أن يكون عليه، بقدر ما ينعكس ذلك في سلوك أفراده، فضلاً عن النشاط المدني الموازي”.
لم أسأل فارس عن طبيعة “النشاط المدني الموازي” المطلوب، كلنا يعرف أن ارتفاع حدة العنف الهمجي الممارس من قبل النظام، بات يطغى على جميع الأصوات الأخرى. كما أن رأيه بالمجلس المحلي الذي تشكل مؤخراً في مدينة الزبداني لم يكن إيجابياً لأسباب عديدة. منها أنه صنيعة أفراد وليس نتاج عمل مشترك على حد قوله.
ومع ذلك، فما يصفه فارس من تعاضد الأهالي جميعهم مدنيين وعسكريين، في مهمة تسيير أمور المدينة المهددة بالإجتياح من جديد، يعكس صورة أفضل مما هي عليه في مناطق أخرى كثيرة. حتى لينطبق عليها وصف إحدى اللافتات التي رفعها فارس ورفاقه مؤخراً تحية لحلب المنتفضة “ياحلب… العز بيلبقلك”… ويا زبداني… الحرية بتلبقلك…
قاشوش حرستا.. حين غنت المدينة للحرية
توقف المتظاهرون عن مسيرهم البطيء والمنتظم على ضوء الموبايلات، في المدينة الغارقة بالظلام. بدؤوا يهتفون باشتياق واحتفاء..أبو سعيد…(تصفيق).. الله يحميك.. (تصفيق).. قبل أن يعلن “الهتَيف” من على السوزوكي التي يعتليها مع عدَة الصوت، أن أبو سعيد “على الخط” عبر الموبايل.. يلقي بالتحية لثوار حرستا.. وهؤلاء ضجوا مرة أخرى بالتصفيق والهتاف … أبو سعيد… الله يحميك..
– من هو أبو سعيد يا شباب؟
– قاشوش حرستا..أيمن دحدوح.. منشد الثورة في المدينة.. تطوع نحو عشرة شبان حولي بالإجابة.
كان يومها قد غادر منذ فترة قصيرة إلى الأردن، بعد أن أصبحت حنجرته من أشد المطلوبين في المدينة.. اقتحام اثر اقتحام، ومداهمة اثر مداهمة، ومصادرة الذكريات وترويع لتفاصيل البيت الصغيرة.
“كان لدى قوات الأمن مشكلة مع البراد في بيت أبو سعيد.. كلما داهموا منزله خلعوا باب البراد.. مرة، مرتين، ثلاثة، حتى أصبحنا نطمئن منه عن باب براد بيته في كل اقتحام قبل السؤال عن أهله وعائلته”.. يروي الناشط محمود مدلل، أبو مرشد،.. صديقه الأقرب في الثورة.. وقيادة المظاهرات والملاحقات.. والمداهمات.. والأغاني.. ومن شاركه كتابة كلمات أغنية:
”سمَع سمَع سوريا..بشار فقد الشرعية”.
حرستا ارض الثوار وفيها مرابط الفرسان
منها صناع القرار هايدي الغوطة الشرقية
الشراكة بين صوت الأول وكلمات الثاني، أنتجت أجمل هتافات حرستا والغوطة.
بسم الله وايد بايد… وقبل الخبز الحرية
نادتنا أم الشهيد.. سألتنا عن يوم العيد
قلنالا ماعاد بعيد.. بكرة جاية الحرية
يقول أبو مرشد أن قاشوش حرستا كان بسيطا وسعيدا بكل ما يحصل.. سعيدا بالتغيير، وأنه كان هو نفسه من بين من غيروا وتغيروا في الثورة.
والقاشوش اشتاق في منفاه القصير للثورة واشتاقت له.. فعاد أدراجه مؤخرا.. وماهي إلا أيام ثلاثة بعد عودته.. في الخامس من الشهر الحالي، حتى دوهم المنزل الذي يتوارى فيه مع نشطاء آخرين.. فخرج منه كما روى شهود العيان.. ثلاثة أشخاص مقيدين يتعرضون للضرب المبرح.. واثنان محملان على نقالة وقد أسبلت الأغطية على جراحهم وأعينهم المعصوبة بالأكياس البلاستيكية السوداء.
أعلن استشهاد أبو سعيد، وحدَت عليه زوجته وأطفاله الثلاثة وكل من أحبه، بناء على أوصاف شهود العيان للأشخاص الذين خرجوا على أقدامهم من المنزل، والتي لم تطابق مواصفاته، مما رجح أنه أحد الجثمانين الذين قدر لهما النجاة من جحيم الاعتقال، خاصة لنشطاء أمثال قاشوش حرستا..
هو ترجيح إذاً.. حي أو شهيد.. أو شهيد حي تحت آلة التعذيب.. تصنيف قاشوش حرستا ورفاقه في قيود الثورة السورية.
يقول أبو مرشد، أن قاشوش حرستا شخص لا ينسى.. حرستا لن تنساه. وكل من عرفه..وإن كان هنالك ما يراوغ هذا الألم الذي بات من الصعب التحايل على قسوته، فهو تلك القواشيش الشابة التي تغني للحرية على إيقاع ضحكات أبو سعيد، التي لا يزال صداها يسمع في أرجاء مدينة الزيتون، حرستا.