صفحات الرأي

مراجعة تاريخية للطائفية: من ميشيل شيحا إلى مهدي عامل

 


وهيب معلوف

فيما نشهد حراكاً اجتماعياً عبر تظاهرات تدعو الى «إسقاط النظام الطائفي» اللبناني، تتبدّى أهمية المراجعة التاريخية للطائفية عبر نظرة موجزة الى الكتابات المتعددة عن «مشكلة الطائفية» في لبنان خلال القرن العشرين وصولاً الى اليوم. فمنذ إنشاء حكومة المتصرفية برعاية العثمانيين في 1861، ولبنان يُحكم عبر تجسيدات متعددة لنظام سياسي مبني على أساس التمثيل الطائفي النسبي، أي نظام توزَّع فيه القوة السياسية قياساً إلى الحجم الطائفي، وكما أنّ ظاهرة الطائفية هي نفسها لها تاريخها، هناك أيضاً تراث متعدد من الكتابات التاريخية عن الطائفية.

الطائفية كحالة طبيعية

في النصف الأول من القرن العشرين، نظر عدد من دعاة القومية اللبنانية الى الطائفية على أنّها «ظاهرة متأصلة في لبنان، أو تعبير طبيعيّ عن حقائق عضوية ملازمة لقلوب، عقول ونفوس الجماعات المختلفة التي عاشت في جبل لبنان وحوله، كما في المناطق التي أُدرجت لاحقاً في دولة لبنان الكبير»، بحسب تعبير الباحث ماكس فايس. وأبرز هؤلاء ميشيل شيحا الذي حاجج مدافعاً عن الطائفية اللبنانية بما هي الطريقة المثلى للاعتراف بالاختلاف الطائفي واستيعابه على حد سواء. وقد اعتنق لاحقاً عدد من الكتّاب والمثقفين اللبنانيين الطائفية، بوضوح لا لبس فيه، دفاعاً عن الخصوصية الثقافية للبنان. وأبرز مثال عن هؤلاء هو كمال يوسف الحاج، الذي كتب في مطلع الستينيات، زاعماً أنّ الاختلاف الطائفي وحمايته في النظام السياسي للدولة هما منفعتان ضروريتان. ورأى الحاج أنّ العملاء الأجانب يستميتون في سبيل تفكيك النظام الطائفي، وأنّ المستفيد الأول من خطوة كهذه سيكون الصهيونية الدولية ودولة إسرائيل.

الطائفية والتدخل الأجنبي

في مواجهه النظرة إلى الطائفية كحالة طبيعية للشعب اللبناني، رأى آخرون الطائفية من منظور معاكس، وتحديداً في كونها نتيجة لسياسة أجنبية معتمدة مبنية على أساس «فرّق تسُد». وقد حاجج عدد من المؤرخين والمثقفين القوميين العرب بأنّ الطائفية ليس لها أي أساس في الواقع التاريخي، باعتبار أنّ الجماعات المتعددة عاشت بتناغم مستمر، إلا حين خلخلها التدخل الأجنبي وأثارها، وصولاً الى اندلاع موجات غير اعتيادية من العنف والعداوة في ما بينها.

وانطلاقاً من منظور ماركسي، تصدى مهدي عامل للسردية الوطنية السائدة عن الطائفية بما هي ظاهرة طبيعية، مشيراً إلى أنّ الطائفة ليست شيئاً طبيعياً، بل «علاقة سياسية محددة تحديداً تاريخياً محدداً بحركة الصراع الطبقي، في شروط البنية الاجتماعية الكولونيالية اللبنانية»، كما انتقد عامل «دور الدولة في تأمين وجود الطوائف في مؤسسات، أو كمؤسسات، هي بالتحديد، مؤسسات دولة (…) لا تقوم إلا بارتباطها التبعي بالدولة، من حيث أنّها، بقيام الدولة، تقوم».

الطائفية كظاهرة اجتماعية

غالباً ما قوربت مشكلة الطائفية، خلال النصف الأول من القرن العشرين، عبر دراسة أسس الطائفية اللبنانية استناداً الى افتراضات «ثقافوية» عن طبيعة المجتمع اللبناني، إلا أنّه، ابتداءً من أواخر الأربعينيات وصولاً الى خمسينيات القرن العشرين وستينياته، بدأ الباحثون والمثقفون بدراسة الطائفية بما هي ظاهرة اجتماعية. ويشير ماكس فايس الى أنّ فايز صايغ كان من أوائل الكتّاب الذين قاربوا الطائفية على هذا النحو، وتحديداً من خلال علاقتها بالمجتمع والثقافة اللبنانييّن. لم يهتم صايغ بسرد الأحداث التاريخية المسهمة في الإطار الحالي للطائفية اللبنانية، بل شدد على «أهمية التفكير في واقع الطائفية والإلمام بتجلياتها (الاجتماعية)». من هنا، كان همه الأكبر التشديد على واقع أنّ الطائفية تقيم في «الحياة الشعبية» وفي «النفسية الشعبية»، وأنّ هذه الأخيرة هي «المقر الرئيسي» للطائفية و«خطرها الأعظم»، على حد سواء. ويتابع صايغ أنّه لولا هذا البعد الشعبي، «لما كانت المؤسسات المرتكزة على الطائفية قد نشأت في المقام الأول». لذلك، يرى صايغ أنّ الطائفية تقيم في المؤسسات التي «هي مرآة للمجتمع، والمعبّرة عن رغبات فئاته، والمجسّدة للمصالح المختلفة التي تؤدّي دوراً في حياته».

ويخلص صايغ إلى أنّ ظاهرة الطائفية اللبنانية هي بمثابة «لعنة» لنموذج الدولة الحديثة، إذ إنّه عبر تدخل القادة الروحيين في شؤون الدولة، «تسدّد الطائفية ضربتها النهائية ضد بنية الدولة المدنية»، وتصبح «هنا الدولة عرضة لسلطات ومصالح لا تسعى (في نهاية المطاف) إلى خير المجتمع».

ومتناولاً الطائفية من الوجهة التاريخية، رأى أنيس صايغ في كتابه «لبنان الطائفي» أنّ «الطائفية في لبنان مشكلة اجتماعية خاصة به»، موافقاً مع أخيه فايز على وجوب علاجها، واصفاً إياها بـ«الداء المزمن» للبنان.

مع حلول نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، كان المثقفون اللبنانيون قد طوّروا «لغة سوسيولوجية ونظرية متقدمة لوصف الأمراض الطائفية وتشخيصها»، بحسب تعبير فايس. ومن أبرز هؤلاء ناصيف نصار، الذي دعا الى تحليل الطائفية بما هي «ظاهرة اجتماعية كلية». كتب نصار بأنّ رواد النهضة العربية ورجالها قد هيأوا «الأفكار والوسائل اللازمة للبدء بعملية التجديد المجتمعي الشامل»، إلا أنّ الجيل اللاحق من المثقفين والدولة اللبنانية (والمجتمع الذي تمثله) عجزوا «عن التحرك في سبيل خلق إنسان جديد ومجتمع جديد». في تحليله الثاقب، رأى نصار «أنّ الطائفية كانت وسيلة ونتيجة في الوقت نفسه». فالطائفية «كانت وسيلة استعملها الإقطاعيون والعثمانيون والغربيون لإثارة الفتنة، وتعميق التقسيم بين اللبنانيين، وتأمين مصالحهم المختلفة». وكانت أيضاً نتيجة، «لأنّ تحوّلها من النطاق الضيق لكلّ طائفة الى نطاق الإدارة الموحدة للبلاد عامة لم يكن حتمياً، ولا ممكناً الى حد ما، لولا اتفاق الدول المستعمرة والفئات المستغلة داخل البلاد». بكلام آخر، فإنّ تواطؤاً بين قوى داخلية وخارجية أدى الى تثبيت الشكل الطائفي للسياسة والحياة الجماعية ضماناً لإدامة سلطة هذه القوى ونفوذها في البلاد.

وإذ يميز نصار بين «الطائفية الدينية» و«الطائفية السياسية الإدارية»، يشدد على الخطأ المنهجي لبعض المفكرين الذين يبدو لهم «أنّ الطائفية في لبنان ظاهرة سطحية وإن كانت عامة، وأنّ المشكلات الحقيقية التي يعيشها لبنان اليوم إنما هي مشكلات اقتصادية بالدرجة الأولى، اجتماعية بالدرجة الثانية»، وللبعض الآخر منهم الذين يرون «أنّ القومية هي المشكلة الكبرى التي تتقدم المشكلات جميعاً، وأنّ الطائفية ليست سوى جزء منها».

بين هذين الموقفين، يطرح نصار «موقفاً ثالثاً» يقول «بأنّ الطائفية ليست ظاهرة سطحية أو جزئية، بل هي ظاهرة اجتماعية كليّة تؤلف نظاماً كاملاً، له أساساته وأركانه ودعائمه في جميع قطاعات المجتمع اللبناني». ويخلص نصار الى أنّ «الطائفة التي ينتمي اليها اللبناني تمثّل الإطار الذي يشعر من خلاله بوجوده السياسي». انطلاقاً من هذا التحليل، يطرح نصار دليلاً «لتطوير الدولة اللبنانية من الداخل، أي للانتقال من الولاء الطائفي الى الولاء الوطني» عبر إصلاحات قانونية وسياسية ودستورية ملموسة مثل «تحرير الوظيفة من القيود الطائفية» و«تحرير الأحوال الشخصية من الأنظمة الطائفية، أو على الأقل، إيجاد شرعة للزواج المدني الى جانب التشريعات الطائفية». ويختم نصار بسؤال يمس جوهر الموضوع: «هذا كلّه لا يحتاج الى أعجوبة. فمنطق التاريخ يكفي، وهو يقول بأنّ التغيير حاصل لا محالة، لكن من يقود الدولة في هذا الاتجاه؟».

دراسات نقدية

شهدت فترة ما بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية بروز دراسات جديدة لظاهرة الطائفية، دمجت التحليل النقدي لأصول الطائفية ومسار تطورها التاريخي، آخذةً بالاعتبار المسالك الثقافية، الخطابية والمؤسساتية التي أنتجت الطائفية وتستمر في إعادة إنتاجها الى يومنا هذا. ويرى ماكس فايس أنّ هذه الدراسات النقدية «سعت إلى إيجاد أرضية وسطية في المشهد التأريخي للطائفية (…) عبر تحديد العوامل المادية والثقافية التي أسهمت في إدامة النظم الطائفية والمجتمع الطائفي». ومن أبرز المساهمين في هذا «التيار النقدي» أسامة مقدسي، الذي يُظهر على نحو مقنع، عبر دراسة للعنف الطائفي بين الموارنة والدروز في جبل لبنان في منتصف القرن التاسع عشر، كيف أنّ الطائفية نبعت من تقاطع الإصلاحات العثمانية (المعروفة بـ«التنظيمات») والتدخل الأوروبي في المنطقة في القرن التاسع عشر. ففي القرن المذكور، «جرت»، بحسب مقدسي، «إعادة ابتكار جبل لبنان بحسب طوائفه، بمعنى أنّ هوية طائفية عامة وسياسية حلّت محل سياسات الوجاهة غير الطائفية التي كانت السمة المميزة لمجتمع ما قبل الإصلاح». لذلك يشدد مقدسي على عدم جدية معاملة الطائفية «كنزوع قبليّ، وكتديّن بدائيّ معادٍ للحداثة»، مشيراً الى أنّه لا بد من الاعتراف «بأنّ الطائفية جزء حيوي من حداثتنا المعقدة»، لكن مقدسي لا يزعم أنّ «الطائفية جيدة لأنّها حديثة»، بل يرى أنّ تأثيرها «كان في محصلته سلبياً»، إذ إنّها «تعوق أيّ معنى لمواطنية علمانية لبنانية» جامعة، و«منعت ـــــ ولا تزال تمنع ـــــ تبلور مفهوم وطني شامل قادر على توحيد اللبنانيين».

وانطلاقاً من منظور مختلف، يرفض فواز طرابلسي أيضاً التوهم القائل بأنّ النظام الطائفي يمثّل انتكاسة الى حالة بدائية، إذ يرى أنّ النظام الطائفي ليس «آفة خلقية ولا هو تخلّف حضاري ولا أيديولوجيا مفوتة من زمن الإقطاع. إنّه يحمل نظاماً من الخدمات والمنافع المادية التي تمثّل وسائل استتباع رئيسية لجماهير واسعة من اللبنانيين للمذهب والزعيم والحزب».

ليس النظام الطائفي في لبنان أقدم نظام حكم عربي فحسب، بل لعله أيضاً أكثرها قوة ورسوخاً، وخصوصاً على المستوى الاجتماعي. ذلك أنّه قام، على امتداد عقود من الحرب والسلم، بابتلاع أية مساحة عامة قد تمثّل إطاراً لتلاقي المصالح والتطلعات المشتركة بين اللبنانيين، على تنوّع انتماءاتهم الاجتماعية والطائفية والمناطقية، لكن بالرغم من كلّ ذلك، فإنّ الطائفية في لبنان، متى نظر إليها في سياقها التاريخي، ليست غريزة ولا حتمية، بل هي، كما يشير أسامة مقدسي، «تعبّر عن ترجمة وتحوير لفكرة جديدة للمساواة ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر في مجتمع متعدد الطوائف وخاضع لضغوط خارجية ويفتقر على جميع المستويات الى رؤية قادرة على تخيل مستقبل أفضل». في زمن نشهد فيه سقوط أسوأ الأنظمة التسلطية العربية، هل سينجح الشباب من مطلقي حملة «إسقاط النظام الطائفي» في بلورة «رؤية قادرة على تخيل مستقبل أفضل» وخطة للعمل التراكمي، لقيادة التحرك نحو هدفه المنشود، أم أنّنا سنبقى مستسلمين لـ«التسلّطية الطائفية» المهيمنة علينا والمولّدة لواحدة من أكثر البنى الاجتماعية العربية تخلفاً؟

* باحث لبناني

المراجع:

– أسامة مقدسي، «من الطائفية الى الوطنية اللبنانية»، مجلة الآداب، 11/12/2001، ص 49 ـــــ 53.

– أسامة مقدسي، «فهم الطائفية»، مجلة الآداب، 3/4/2007، ص 55 ـــــ 59 .

– ناصيف نصار، نحو مجتمع جديد، الطبعة الخامسة، بيروت، دار الطليعة، 1995

– فواز طرابلسي، «الشعب يريد تطبيق الدستور!»، السفير، 9/3/2011 .

– Weiss, M., ‘The Historiography of Sectarianism in Lebanon’, History Compass, 7/1 (2009): 141-154.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى