مرحلة التفاوض على النظام السوري
عمر قدور *
من وجهة نظر الكثيرين من متابعي الشأن السوري أتت خطوة طرد السفراء السوريين من عواصم عالمية فاعلةٍ متأخرةً عن المتوقع، بل تأخرت كثيراً عن خطوة من الطبيعة ذاتها سبقت إليها دول مجلس التعاون الخليجي، ويقلل من القيمة الفعلية لهذه الخطوة أن البعثات الديبلوماسية السورية لم تكن أصلاً قنوات اتصال سياسية مع النظام الذي تحتكر دائرة صغرى منه سبل التفاوض والقرار السياسي. على أن وضع طرد السفراء في إطار اللفتة الرمزية، أو تصوير ذلك على أنه رد فعل أخلاقي على مجزرة الحولة، ينبغي ألا يغيّب الحسابات الدولية أو السياق المتكامل الذي أتت من ضمنه هذه الخطوة. إذ من الواضح أن هذا الإجراء معدّ سلفاً للرد على الموقف الروسي، المتوقع أيضاً، أثناء مداولات مجلس الأمن حول مجزرة الحولة، وإذا بدا المجتمع الدولي عاجزاً إزاء الممانعة الروسية في المجلس فإن ذلك لا يمنعه من متابعة عقوباته «الهادئة» للنظام، ويخطئ من يعتقد بعدم جدواها ضمن المدى الذي يريده أصحابها، لا ضمن صفة الاستعجال المتأتية من العنف الممنهج للنظام.
ولعل تجاهل الرئيس السوري للحدث في خطابه أمام مجلس الشعب، تحت مسمى عدم الاكتراث بالخارج، يؤشّر إلى المستوى غير المسبوق من العزلة التي لم يعد ينفع معها إرسال إشارات سياسية إلى الأطراف الفاعلة دولياً. قد يعيننا الخطاب الرئاسي على فهم ما آلت إليه الظروف المحدقة بالنظام، فهو إذ يُعرض عن الخارج كلياً يؤشّر أيضاً إلى تراجع ثقته بالدعم المطلق من حلفائه الدوليين. المؤامرة، كما صوّرها الرئيس السوري، لم تعد تندرج ضمن صراع جيواستراتيجي أشمل، ويبدو أن الحديث عن محاور دولية تؤطر معركة النظام قد شارف على نهايته، فلم تعد الإشارات الآتية من الحلفاء مطمئنة كما كانت من قبل، ربما باستثناء الحليف الإيراني الذي يعاني بدوره مأزق الحصار.
لم تنجح تهديدات النظام الصريحة أو المبطنة بإشعال حرب إقليمية، ولم تستدرج القوى الدولية إلى التفاوض معه خشية منها، وعلى رغم الإقرار بقدرته على تنفيذ التهديد إلا أن ذلك صار أدعى إلى التخلص نهائياً منه، ولن يكون مستبعداً أن «رسالة طرابلس» قد أتت بعكس المرتجى منها وساهمت في استعجال التحرك الدولي. حتى الإقرار باحتمالات وقوع حرب أهلية واسعة النطاق في سورية بات مقروناً بنسبها إلى بقاء النظام، أي أن الأخير فقد نهائياً ميزته التقليدية كعامل استقرار داخلي أو كركيزة من عوامل التوازن الإقليمي، ومن المحتمل جداً أن القوى التي خبرت جيداً مكامن قوته صارت أكثر استعداداً لمواجهة تداعيات سقوطه، بما في ذلك تحييد بعض القوى الإقليمية الحليفة التي لم تعد تستبعد خيار السقوط.
منذ بدأ النظام باستخدام العنف المفرط الممنهج سادت الفكرة القائلة بتردد المجتمع الدولي إزاءه، ووجدت هذه الفكرة دائماً مبرراتها الأخلاقية فضلاً عن المقارنة بسرعة التحرك في الحالة الليبية، وقد يكون من المفارقة اتفاقُ النظام والقوى المناوئة له محلياً وإقليمياً على إنكار جدوى العقوبات التي فُرضت عليه. هذا التصور، المُحقّ إلى حد كبير أخلاقياً، لن يكون وجيهاً بالدرجة نفسها إن تتبعنا المسار الدولي، والذي أخذ شكل حرب استنزاف متصاعدة ضد النظام. فعامل الوقت الضاغط بكلفته البشرية على السوريين لا يبدو كذلك من جهة السيناريوات التي تروم إنهاك النظام إلى أقصى حد ممكن، في الوقت الذي تسير الترتيبات الدولية لإبطال مفاعيله الإقليمية. هذه الاعتبارات لن يضيرها التضحية بمزيد من السوريين، إن لم نقل إنها تقوى بمزيد من تورط النظام بالدم، ولا تضيرها الخسارة العامة الكلية بل على العكس قد يروق لبعض الأطراف خروج البلاد منهكة ومنشغلة لوقت طويل بمداواة خساراتها.
بخلاف ما يُنسب إليها مضت القوى الغربية في مشروع إسقاط النظام، ولم يكن ثمة تناقض في تصريحات قادتها سوى تلك الاختلافات حول ضرورة أو عدم إمكانية التدخل المباشر، مع أنها تشي أيضاً بأن خيار التدخل المباشر مطروح للتداول ولم يكن مستبعداً يوماً ما. مبكراً استبعد القادة الغربيون خيار التفاوض مع النظام، الخيار الذي تُرك أولاً لممثل الجامعة العربية ومن ثم لممثل الأمم المتحدة المشترك معها، ويمكن وصف مرحلة التدويل بأنها مرحلة التفاوض مع الروس بما أن امتثال النظام لخطة عنان غير وارد بالحسبان أصلاً. قد لا يستعجل الغرب دفع ثمن غالٍ للروس لقاء تخليهم عن النظام، فعامل الوقت ليس لمصلحة الروس، إنْ على الصعيد الأخلاقي دولياً أو على الصعيد الميداني حيث يزداد ضعف النظام باضطراد أمام التظاهرات السلمية، ويفقد السيطرة على مناطق جديدة كلما ظن أنه استعادها في مناطق أخرى.
حتى أيام قريبة خلت لم تضع القوى القادرة على الدفع، بالمعنى المباشر وبالمعنى الاستراتيجي، ثقلها في المساومة مع الروس، ولم تلجأ أيضاً إلى قدراتها في الضغط المباشر. تتعدد التأويلات حول أسباب التأخر وإن صبّت مجملها في عدم جاهزية الأطراف المعنية لعقد صفقة مرضية، إلا أن التطورات الأخيرة توحي بحلول مرحلة التفاوض على النظام، وبأن حلفاءه سيكونون مضطرين لمناقشة سيناريوات التغيير بعد استنفاد سبل المناورة والمماطلة أمامهم. إن الممانعة الروسية بخاصة لن تكون فعالة مع ارتفاع منسوب الضغط الدولي والتلميحات بالقيام بتدخل منفرد، وقد سبق للروس اختبار العزيمة الأطلسية في مناطق أكثر حيوية لهم. لذا، من المحتمل أن يبرهنوا على شيء من الحنكة فلا يغالون في الثمن المطلوب؛ هذا إذا قرروا التضحية بالنظام قبل أن يصبح عبئاً ثقيلاً عليهم.
على ذلك يمكن قراءة التشدد الأخير بأنه استباق للمفاوضات الحقيقية يتماشى مع استبعاد النظام نهائياً من دائرة التفاوض، فالروس لا يفاوضون نيابة عن النظام بل باتوا أيضاً يفاوضون عليه، وربما يدلل تشددهم على الضعف والافتقار إلى الأوراق الاستراتيجية أكثر مما يعني القوة. في كل الأحوال قد تشهد مرحلة التفاوض على النظام ذبذبات بين تصاعد وهبوط، وسيمر الوقت عصيباً على الثوار السوريين حيث ليس من المتوقع الوصول سريعاً إلى نهاية هذه المرحلة. المؤكد أن القوى الدولية الراغبة في إسقاط النظام أضحت أكثر جاهزية لهذا الهدف، أما القوى الممانعة فسيتعين عليها قريباً تقبّل سقوطه، إن لم تصبح جاهزة للمساهمة فيه.
* كاتب سوري
الحياة