مرح البقاعي تروي حكاية ليلى السوريّة.. والذئب الأمني
البقاعي تقول: سوريا الجديدة هي لمن صنع ثورتها وفتح صدره عارياً للرصاص.. وبس!
حوار بهية مارديني
ما رأيك بما يحدث في سوريا؟
مرح ـ ما يحدث في سوريا منذ تاريخ 15 آذار 2011، هو ثورة شعبية حقيقية اندلعت إثر احتجاجات انتظمت في مدينة درعا بسبب انتهاكات مروّعة لحقوق الإنسان طالت أطفالاً تمّ الاعتداء على طفولتهم وزجّهم في السجن وتعذيبهم بهمجية غير مسبوقة لمجرد أنهم مارسوا طفولتهم وسجّلوا ببراءة على الجدران في شوارع مدينة درعا شعارات ردّدها ثوار مصر وتونس وتناقلها العالم عبر شاشات الفضائيات.
ما يحدث هو نزيز تقرّح سياسي عمره ما يربو على العقود الخمسة في سوريا منذ أن استولى حزب البعث على السلطة عام 1963 في انقلاب عسكري شرّع وأجاز حكم الحزب الواحد والزعيم العسكري الواحد، ونتيجةً حكم الأسرة الواحدة. منذ ذلك التاريخ غُيّبت الحريات ورزحت البلاد تحت وطأة قانون الطوارئ واحتكر حزب البعث الفضاء السياسي السوري، حيث نص ّالدستور السوري في المادة 8على أن “حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع”.
هذا التفريغ السياسي جاء موازياُ لعمليات “تهجير” منظّمة للأدمغة السورية التي زُجّت في الملفات الأمنية المبكّرة تحت مسمّى الخوارج على منظومة الرعيل “الأحادي” القابض على السلطة، وكذا إجهاض دوري مبرمج لتيارات الفكر التنويري الحرّ، وسلخ موتور لمقدرات الاقتصادات البرجوازية؛ وكان قد نُفّذ ذلك، مُجْتمِعاً، بأدوات وتوجيهات رسمية، تفاوتت مفاعيلها بين إخماد حراك الرموز الفكرية، أو تركيعها، أو دفعها ـ قانطة ـ للخروج من البلد. لقد كانت تلك الرموز/الصفوة، والتي تشكّلت من حوامل المجتمع السوري الثلاثة: الثقافي والسياسي والاقتصادي، كانت عقل الحراك السوسيولوجي في سوريا ما قبل النظام الأحادي، في مناخ تمتّع في حينها بقدر من التنوير الثقافي، والحريات السياسية، والاقتصاد الحيوي في ظل نظام للسوق شبه مفتوح وتداول لرؤوس الأموال بصورة معلنة ومقوننة، وبشفافية ومساءلة عاليتين. غادرت تلك القوى والفعاليات الفكرية والسياسية والاقتصادية ـ مكرهةً ـ سوريا، وانتشرت في العالم، مُخلِية الساحة لما تطور بصورة مطردة، وعبر عقدين من الزمن، إلى طبقة من الأليجاركية القابضة، مالياً وأمنياً، على زمام العباد قبل البلاد.
كيف الخروج من هذه الأزمة برأيك؟
مرح- هناك مرحلتان للأزمة في سوريا، المفصل منهما هو يوم الخامس عشر من آذار. سوريا والسوريون ما قبل هذا التاريخ هما مغايران تماماً لما بعده، والعودة إلى ماوراء هذا التاريخ مستحيلة.
في الأسبوع الأول الذي تلا الاحتجاجات التي تبدّت بشائرها في مظاهرتين، أولاهما كانت بالقرب من الجامع الأموي، وكانت أشبه بتجمع عفوي لمجموعة من صغار التجار والشباب الذين انتصروا لصديق لهم كانت قوى الأمن قد انهالت عليه بالضرب المبرّح في الطريق العام، أما المظاهرة الثانية فنظمها عدد من المثقفين أمام وزارة الداخلية مطالبين بالإفراج عن الأطفال الذين اعتقلوا في درعا، وكذا عن المعتقلين السياسيين. المظاهرة الأولى تمّ إخمادها باحتيال و”لفلفة” من وزير الداخلية الذي ظهر على المتظاهرين مهدّداً بأنه سيسمي ما يشهده “مظاهرة” ملوّحا بالنار والثبور وعظائم الأمور.! أما المظاهرة الثانية فقد ووجِهت بالقمع المفرط وتمّ اعتقال عدد من النشطاء.
في هذا الوقت المبكّر من الاحتجاجات السلمية كان الإصلاح مطلباً والحوار ممكناً. إلا أن الذهنية الأمنية التي تحكم النظام السوري من قاعدته إلى رأسه ارتأت، بصلف وعنجهية المستبدّ، اللجوء إلى القمع والاعتقال والتنكيل وتوجيه البنادق إلى صدور العزل وإرسال الدبابات والمدرعات لحصار المدن ومنع سبل الحياة عن الأهالي المدنيين والقتل وإخفاء جثث الشهداء في المقابر الجماعية واختطاف الجرحى من المشافي وسحل القتلى في الشوارع، هذا وصولاً إلى الحادثة التي روّعت العالم وهي استشهاد الطفل حمزة الخطيب برصاصتين من أسلحة قوى الأمن أثناء اعتقاله بعد تعذيبه بأبشع الصور التي لا تشبه إلا نهج الفاشيين وتستحضر طرائق التعذيب النازي الذي تعلم فنونه الأمن السوري من آخر ضابط نازي كان يأويه النظام في فندق ميريديان دمشق، وهو أحد مساعدي هيتلر واسمه ألويز بريني، الذي توفي في دمشق في العام 1996.
لقد فقد النظام السوري شرعيته إثر أول نقطة دماء سالت على الأرض على يد قوات الأمن وعصاباتها المسلحة ، وبعد أن كان مطلب الشارع هو الإصلاح أصبح الشعب لا يقبل بأقل من إسقاط النظام، وغدا هذا الشعار هتافاً موحَّداً وواحداً في المدن السورية كافة.
الخروج من الأزمة لا يتم إلا عبر إيقاف فوري لعمليات الإبادة الجماعية التي تمارسها أدوات النظام ضدّ الشعب السوري الأعزل، وكذا سحب كل عناصر الأمن وشبيحته من المدن، وتفكيك الأجهزة الأمنية والمخابراتية وتحميلها مسؤولية الجرائم التي حدثت وإحالة المسؤولين فيها إلى قضاء عادل. أما على المستوى السياسي فأعتقد أن النظام يتهاوى ولا مكان للإصلاح بين جنباته لأن المشكلة في هذا النظام تكمن في بنيته الأمنية القابضة على مفاصل الحياة منذ أربعين عاماً، وليست المشكلة في هيكليّته. هنا أصبح التغيير الجذري مُلِحّاً في ظل غياب أي حل عاجل وناجع للأزمة.
ما الأخطاء التي ارتكبها النظام برأيك؟
مرح ـ يكون السؤال أسهل بكثير يا سيدة بهية إذا جاء بصيغة: ما هي الأخطاء التي لم يرتكبها النظام! النظام السوري هو محصلة ممارسات استبدادية تنقّلت من اغتصاب السلطة بقوة السلاح، إلى بث روح الفئوية والطائفية والفرقة بين مكونات الشعب الواحد، إلى التفريغ الممنهج للطاقات والكفاءات المستقلة والوطنية ودفعها خارج البلد، إلى تسطيح العملية التربوية والتعليمية لأجيال برمتها وتقزيم المناهج الدراسية لتحمل في مضامينها أفكار حزب البعث الحاكم ولتنحصر في استظهار أقوال حافظ الأسد، حيث كانت مادة التربية القومية، التي من أحد مقرراتها الدراسية كتاب “أقوال الأسد”، مادة مرسّبة يتوقف على النجاح فيها مستقبل الطالب العلمي والحياتي أيضا. ولا أنسى أن البعثات الدراسية في الجامعة كانت من حق المتفوّقين ـ وكنت واحدة منهم ـ ولكن تمّ استقصائي لمصلحة طلاب كانوا من أعضاء اتحاد الطلبة من الحزبيين الذين كتبوا تقريراً كيدياً ضدي قالوا فيه أني: برجوازية لا مبالية!
لقد نقل هذا النظام سوريا العظيمة عقوداً زمنية إلى الوراء، وهو لم يكتف بالاستبداد والقمع والنهب، بل انتهى به الأمر إلى تحويل سوريا ما بعد الثورة إلى جمهورية مآتم تشيّع كل يوم عشرات من أحرارها.
ما رأيك برواية جماعات مسلحة؟
مرح ـ تذكّرني هذه البدعة الإعلامية السورية برواية “ليلى والذئب”.. حيث ليلى (الشعب) في هذه الحال، أرادت أن تنتهج الطريق القصير (المطالبة السلمية) للوصول إلى هدفها (الحرية)، بينما الذئب (النظام) يحاول تغيير وجهه القبيح وإخفاء أنيابه وأظافره القاتلة (الفرقة الرابعة وشبيحتها) ويحاول أن يحرف ليلى عن طريقها لتذهب في طريق طويل وشائك (القتل اليومي المتعمد) حتى يتمكّن منها في النهاية وينقضّ عليها انقضاض الوحش الكاسر (طبعاً هذه ليست النهاية المتوقعة في حالة الذئب المستأسد وليلى السورية)!
ما رأيك أيضا في مؤتمرات المعارضة مؤخراً؟
إن انعقاد مؤتمريّ أنطاليا وبروكسل، وإن لم يضمّا جميع أطياف المجتمع السوري في الخارج، يبقى مؤشرا إيجابياً، ورسالة إعلامية إلى المجتمع الدولي أن هناك حراكا سياسيا سوري في الخارج هو رديف ومؤازر للثورة في الداخل. انعقاد هذه المؤتمرات وتمكّن مجموعة من المعارضين السوريين الموجودين في الخارج – وهم موجودون في الخارج لأنهم ممنوعون أن يكونوا في الداخل السوري، ومعظمهم قد نفي نفيا قسريا ًـ وقدرتهم على الاجتماع في مكان واحد والتحاور هو مؤشر إيجابي لجهة الحضورالسياسي السوري، لأن هناك تخوّفاً مستمراً من المجتمع الدولي يُعزى إلى عدم وجود هيئات سياسية سورية على الأرض يمكن أن تملأ الفراغ الذي سيحدثه سقوط النظام في سوريا. ويبقى دور هذه المؤتمرات ينحصر في دعم الداخل وإيصال رسالة الثوار إعلامياً وحقوقياً إلى العالم.
ما الذي تطلبين من المعارضة وما رسالتك للمعارضين في هذه اللحظة الحرجة؟
مرح ـ أنا لا أطالب إلا بالعمل الوطني الشفيف والنزيه والمتواصل من أجل الضغط على النظام السوري من جهة، ودعم مطالب الثوار من جهة أخرى. لادور لمعارضة الخارج سوى أن تكون ظهيراً للداخل السوري الثوري. ونحن نشهد اليوم إلى جانب كل عمل ميداني في سوريا عملاً تنظيمياُ يتم بين القائمين على المظاهرات. وإن الأسابيع الأخيرة شهدت تأسيس تنسيقيات الثورة السورية في المدن كافة، والتي تتشكّل من مجموعات شباب الثورة الذين قاموا في كل مدينة بانتخاب قياداتهم السياسية والميدانية، وكذا شخصياتهم الإعلامية، لتكون رديفاً سياسياً في مرحلة انتقال سوريا إلى النظام الديمقراطي المدني المنشود. سوريا الجديدة هي لمن صنع ثورتها وفتح صدره عارياً للرصاص.. وبس!
ايلاف