مرض البداهة…/ رستم محمود
مع تفاقم الوضع السياسي في العراق، وتصاعد التداول الثقافي/السياسي، يبدو الجدال حادا للغاية، بين النُخبة القومية العربية والكردية حول المستقبل السياسي للكرد العراقيين. نقاش أقرب ما يكون للندب الميلودرامي. لكل طرف لغته ومنطقه وثوابته ومخيلته و»أوهامه».
يبدأ اللغط من تسمية الفعل نفسه، فحينما يسمي القوميون العرب الميول الكردية للانفصام عن الجسد العراقي ب»الانفصال الكردي»، فأنهم ينطلقون من مرجعية ذهنية تعتبر العراق كياناً تاريخياً متصالحاً مع ذاته، تحيا فيه المجتمعات الداخلية بألفة ووئام، كياناً عاش فترات مديدة من التفاعل الحيوي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وأن الذين يسعون للانفصام عن هذه الطبيعة البديهية للكيان العراقي، أنما هم خارج السياق الطبيعي لحركة التاريخ، التي تسعى نحو بناء حياة أفضل لمجموع السكان ضمن هذا الكيان.
طبعاً الجانب الأعظم من كل ذلك لا يستقيم أبدا، فالعراق بحدوده المرسومة راهناً، ليس كياناً بالغ التاريخية. فهو كيان سياسي اصطناعي، مثله مثل جميع الكيانات السياسية في العالم، حيث يستحيل أن تتطابق الحدود الاجتماعية/الثقافية والأثنية والدينية لسكان كيان ما مع الحدود السياسية للكيان نفسه. دوما، وفي أي كيان كان، ثمة من المكونات المجتمعية المؤلفة له، من يراه كيانا فائضا يجب تقسيمه، وثمة بالمقابل من يراه كيانا ناقصا يجب إكماله. لكن العراق كيان بالغ الاصطناعية، مثله مثل كل الكيانات التي تأسست في منطقتنا، حسب رغبات ومصالح وخطط الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.
فوق هذا، فإن المجموعات الأهلية المكونة لهذا الكيان الاصطناعي، لم تحيا معا بأي شكل من الوئام المديد، كان ثمة أشكال ظاهرة ومستترة من الاحتراب الاجتماعي، طوال عمر الكيان العراقي. خاض السُنة حرباً طويلة ضد الشيعة في ظلال الراية البعثية، وامتهن العرب إلغاء الكرد بذريعة منع الانفصال، ولغى الكرد الحضور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للمكونات الأصلية في المناطق التي يشكلون فيها غالبية سكانية، كالتركمان والآشوريين السريان الكلدان، وأخيرا لم يقصر الشيعة في قمع وإلغاء الحضور السُني بدعوى محاربة الإرهاب والتطرف، أو بدعوى «اجتثاث البعث».
من هنا، يبدو تخيل العراق ككيان تاريخي عميق، وتصوير مجتمعه ككتلة بشرية متآلفة ومتصالحة مع بعضها البعض، وكأنه مفتاح لتحفيز العنف وشد العصبيات. فهو يصطنع فضاء غير حقيقي، ويعتبره بداهة وأصلا، وبذلك يغدو كل من لا يقبل ولا يرضى بالعراق كفكرة «الطبيعية»، وكأنه طرف ميال للاطبيعي واللابديهي، ووجب ضبطه وإلغاؤه وتعنيفه.
ليس المنطق الكردي المقابل أقل غرقاً في وهم البداهات المتخيلة. فقاعدة «حق تقرير المصير» للجماعات الأهلية والشعوب، لا تعني بالضرورة وجود حدود وعتبات واضحة لتخوم الجماعات وأحقيتها وصبغة هويتها على بقعة جغرافية دون أخرى. فكردستان التي تحتل مكانة البداهة في الوجدان والمخيلة الكردية، ليست بالمقابل سوى مزيج من الأيديولوجيا القومية والإرادوية السياسية لتياراته المنظمة. فالحقيقة المطلقة لوجود الشعب الكردي، لا تعني بأي شكل وجود صفاء قومي مطلق لهم في المناطق التي يودون صبغها بهويتهم الأثنية القومية. فجغرافيتهم كانت مثل غيرها من الجغرافيات في هذه البقعة القلقة من صخرة العالم. جغرافيا متبدلة ومتحولة ومحتوية على طيف واسع وأصيل من الجماعات الأهلية الدينية والمذهبية والأثنية والقومية، تبدلت وتغيرت الحدود فيما بينها طوال قرون كثيرة من المماحكات والنزاعات. أما الحدود الراهنة للامتداد السكاني الكردي، فكانت بجزء كبير منها على حساب قوميات وجماعات أهلية تاريخية، عاشت على الموقع الترابي نفسه، (الآشوريون السريان جنوباً، والأرمن شمالاً) ساعدهم في ذلك انضواؤهم في الإسلام السُني الذي سيطر عموما على باقي الجماعات في جغرافيتهم.
السردية القومية الكردية أيضاً، والتي اتشحت بالكثير الكثير من البكائية والمظلومية، التي تخيلت وجود مؤامرة إقليمية/دولية لكبح جماح الحقوق والتطلعات الكردية، والتي تحتل بدورها مكانة «الطبيعية« و«البداهة« في الذهنية الشعبية. هذه السردية تتطلب الكثير من المراجعة والوعي لطبيعة الآليات والديناميكيات التي رتبت شكل العلاقات السياسية والاقتصادية بين الكيانات الحديثة والقوى الدولية في منطقتنا.
ليس من شيء بديهي سوى حق البشر بأن يخلقوا ظروفاً أفضل لحياتهم، وأن لا يكون هذا الأفضل على حساب بشر آخرين، يلزمنا من أجل ذلك الكثير من التفكير المعرفي والقليل القليل من الأيديولوجيا، يلزمنا نحن الذين نغرف بحوراً من البداهات المتضادة.
المستقبل