مزحات “رئاسية”/ عمر قدور
عندما تشحّ الزيارات السياسية ذات الوزن الدبلوماسي الفعلي، تُبرز وسائل الإعلام السورية وحليفاتها أخبار الوفود النقابية أو “الشعبية” التي تطرق باب الرئاسة، حدث هذا في كل أوقات الضيق التي مرّ بها النظام وفُرضت عليه فيها عزلة دولية. وبما بات يشبه الفلكلور تكاد تكون الوفود الآتية ذاتها التي أتت في الضائقة الفائتة، ومن دول الجوار نفسها التي يحق لها الاعتزاز بقدرة بعض مواطنيها على اتخاذ خطّ سياسي مختلف عن الخط الرسمي المؤيد للخناق الدولي، وثمة بالتأكيد تلك الوفود القادمة من خلف المحيطات ترسلها أنظمة مشابهة في عزلتها. هذا الفلكلور ليس سورياً خالصاً، ففي أرشيف نظام صدام إثر احتلال الكويت، وفي أرشيف القذافي إثر تعرّضه للغارات الأمريكية، ما يفوقه من حيث الكمّ ومن حيث القدرة على تقديم الاستضافة الكريمة.
مهمة تلك الوفود لا تقتصر في الواقع على الإيهام بفكّ العزلة، فهي تكاد تكون النافذة المفضّلة لبثّ الرسائل، بخاصة عندما تشحّ أو تنعدم اللقاءات مع وسائل الإعلام العالمية المعروفة. إذ ليس من اللائق أن يتبرّع موقع الرئاسة بالتعبير عن رؤيته من تلقاء نفسه ومن دون مناسبة، وحتى ليس من اللائق عموماً أن يتوجه إلى الداخل مباشرة فيظهر أمام أعوانه كمن يكلم نفسه. من الأفضل إذاً أن تنقل تلك الوفود مجريات اللقاءات خارج القنوات الرسمية، وأن يظهر حدّ من التباسط الذي يتيحه لقاء الحلفاء، وأن تتولّى الوفود بنفسها شرح تهافت العزلة الدولية وعدم تأثيرها إطلاقاً بدلالة أن مضيفها بدا في أتم صحة؛ لا يعكّر صفوه شيء، بل هو مَن بادر إلى طمأنتها وهدّأ من مخاوفها وهواجسها وكانت الابتسامة لا تفارق وجهه وهو يرمي النكات والطرائف ذات اليمين وذات الشمال.
السخرية والمزاح ركنان أساسيان من هذه اللقاءات، لا لأنهما يكشفان فقط عن لامبالاة المضيف إزاء الضغوط التي يتعرّض لها، ولكن لأن المجتمعين متفقون أصلاً على النهج السياسي، وسيكون من المملّ حقاً أن يُسمع كلُّ طرف الآخرَ ما يعرفه ويحفظه غيباً. لذا هي فرصة مناسبة أيضاً للتندّر، حتى أن بعض النكات تحرف الانتباه فعلاً عن الاجتماع (النكتة بحدّ ذاتها) لصالح نكتة ما جرى إلقاؤها فيه. هكذا على سبيل المثال شاعت نكتة الأسد عن استحقاقه جائزة نوبل للسلام بدل منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
غير أن الطرفة الأهم هي تلك التي نقلها نقابيون أردنيون وفحواها: “الجربا هو بديل عن بشار الأسد.. لا أقبل بذلك إطلاقاً. لو كان البديل ميشيل كيلو مثلاً لاختلف الأمر ولقبلت، أما الجربا فلا”. السخرية كما نُقلت تتمحور أساساً حول فكرة البديل، أيّ بديل على الإطلاق، بعكس ما يوحي به ظاهر الألفاظ من المفاضلة بين احتمالين واستبعاد أحدهما تماماً، وإلا لما دخلت العبارة في حيّز السخرية. مع ذلك، لا بد من القول إنها سخرية مسمومة، ولم تأتِ المفاضلة بين الشخصين اللذين ينتميان إلى نفس الكتلة والتوجّه السياسيين عفو الخاطر، بل ثمة قصد طائفي صريح يُراد به النيل من أحدهما. ومن المرجح أن يكون المقصد الطائفي الوحيد الجدي ضمن العبارة، فهو يؤكد على نهج النظام الذي يستحيل أن يقبل في المرتبة الأولى أي بديل، وفي النهاية يستحيل أن يقبل بديلاً من “الأكثرية” السنية المتهمة، بحسب النظام وحلفائه، بالتطرف والإرهاب.
بالطبع لا يحتمل ميشيل كيلو عبء “المزحة”، وهو قد تولّى الرد عليها، أما مَن أوصلها من أعضاء الوفد إلى وسائل الإعلام فيدرك المهمة المناطة به ويؤديها على أتم وجه، حيث تتضاءل هنا احتمالات العفوية أو السذاجة. لا نعلم كم ضحك وقهقه أفراد الوفد حينما سمعوا هذه العبارة، ولا مدى الحبور الذي ساد الجلسة إثرها، وإن كنا نرجّح أن يكون للنكتة وقع استثنائي بعد أصوات القذائف والقصف التي سمعوها وهم في طريقهم إلى القصر؛ تلك ميزة استثنائية أخرى أن تُقتل الضحية وأن تتحوّل إلى مصدر للضحك.
لكن، وعلى رغم وفرتها في مثل هذه المواسم، فإن الوفود الزائرة ليست غبّ الطلب دائماً، وقد تطرأ أحداث لا يحتمل التعليق عليها التأجيلَ حتى قدومها، هنا لا بد لخفة الظل أن تكشف عن نفسها بلا وسيط كأن يُنشر نعي رسمي يشيد بمانديلا، ويصف حياته بأنها مصدر إلهام للمقاتلين من أجل الحرية ودرس للطغاة!
المدن