مستقبل العدالة الانتقالية في سوريا/ عاصم أمين
باتت الدعوة إلى العدالة الانتقالية كمنهج لمعالجة قضايا وانتهاكات الماضي، حاجة ملحة في سوريا ،خصوصا بعد ظهور بوادر لإيجاد حلول سياسية في الأفق الدولي على المدى القريب لوقف النزاع المسلح والعنف التي تدور رحاها في سوريا، تأتي هذه الحاجة إلى التاريخ و الإرث الكبير من الانتهاكات والتجاوزات الواسعة النطاق لحقوق الإنسان الدولي،والقانون الإنساني الدولية،والقانون الجنائي الدولي، وارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية ممنهجة ونزوح الآلاف من العائلات والاعتقالات التعسفية الانتقائية والاختفاء ألقسري والقتل خارج القضاء واستخدام الأسلحة المحرمة بحق السوريين كشعب ومدنيين، نتيجة الصراع الدائر والنزاع المسلح بين المعارضة والنظام منذ أكثر من عامين، لذا أصبحت العدالة الانتقالية غاية قصوى.
إقرار العدالة الانتقالية في سوريا:
يستحيل الانتقال إلى حالة الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي والعيش المشترك في سوريا، ومحال القفز من فوق هذا الركام الهائل من الانتهاكات لحقوق الإنسان والجرائم، وبناء دولة ديمقراطية أو نوع من العيش المشترك أو عقد دستور جديد- وعفى الله عما مضى – دون إحقاق الحق.
تأتي إقرارالعدالة الانتقالية في سوريا لنشر ثقافة المسائلة والمحاسبة والعقاب للمسئولين عن الانتهاكات الجسيمة بحق الإنسان و كاستجابة ومطلب إنساني وقانوني لإنصاف الضحايا والمتضررين وجبر الضرر والانتقال إلى مرحلة بناء المصالحة الوطنية والسلم الأهلي وعلى أساسهما يمكن بناء حكم ديمقراطي جديد.
أن نوعية هكذا عدالة هي ليست دائمة وإنما مؤقتة تبعا لظروف المجتمعات التي تتعرض لتحولات وتطورات عسكرية وسياسية وتتفاقم فيها الانتهاكات لحقوق الإنسان الدولي،والقانون الإنساني الدولي،والقانون الجنائي الدولي.ولا يوجد صيغة موحدة للمجتمعات للتعامل مع أرث ماضي متحطم، مشروخ، كل شيء فيه منتهك ومباح.
لكن معظم آليات وأساليب العدالة الانتقالية تؤمن بوجود حقوق للإنسان لابد من الحفاظ عليها والدفاع عنها واستعادتها ضمن الإمكان وفق آليات معينة.
الهدف من العدالة الانتقالية في سوريا:
هو إيجاد أو خلق نوع من العدالة للضحايا والمتضررين من سجن وتعذيب واغتصاب وموت ونزوح وخسارة في الممتلكات من السوريين، ومحاسبة أو معاقبة المسئولين من طرفي النزاع في الثورة وتقديمهم إلى محاكمات عادلة،والاعتراف بوقوع تلك الانتهاكات بحق الضحايا وتعزيز السلام الاجتماعي و المصالحة الوطنية السورية وتوثيق الماضي الأليم ،وإيجاد سجل تاريخي للمجتمع السوري المتنوع بمكوناته، بهدف معالجة معظم الانقسامات داخله ودمل الجروح،بالإضافة إلى إعادة الاعتبار والسيادة للقانون السوري الغائب وتمتينه لمنع تكرار ووقوع الانتهاكات مرة أخرى، ولضمان تحقيق قيم الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها وتأهيل مؤسسات المجتمع المدني للعمل عليها .وذلك بهدف بناء دولة سورية حديثة ديمقراطية مدنية تعددية تضمن لكل المواطنين الحق الإنساني فيها.
آليات العدالة الانتقالية التي لابد من إجرائها في سوريا:
من الصعوبة بمكان تنفيذ معظم آليات العدالة الانتقالية في سوريا بشكل متزامن، كون كل آلية تحتاج إلى مدة معينة تبعا لإجراءاتها ونمط عملها رغم أن كل الآليات في النهاية تفضي إلى الهدف نفسه (إحقاق الحق).وتجارب الشعوب والدول التي عانت لسنوات من النزاع المسلح الداخلي والحرب مثل (ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ودول أوربة الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ودول أمريكا الجنوبية وسيراليون وغانا وجنوب أفريقيا التي عانت من ويلات الحرب والتمييز العنصري وبعض دول جنوب شرق آسيا والعراق …..) خير دليل على صعوبة تطبيق آليات العدالة الانتقالية بشكل متزامن، كما أن تاريخ العدالة الانتقالية تطور مع كل مرحلة وتجربة نزاع،واخذ بالاعتبار خصوصية كل بلد أو مجتمع المختلف تاريخيا وتكوينيا عن الآخر، ويلح بضرورة إجراءات سريعة لبعض الآليات التي تهدف إلى طمأنة الشعب، وضرورة إيجاد تحولات وإجراءات حقيقية، ومصداقية في العمل للمرحلة الديمقراطية القادمة.
ومن هذه الآليات الدعاوي الجنائية، وتتمثل بمحاكمة كبار المسئولين المتورطين في جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة من الطرفين وتشمل أصحاب القرار في القيادة و الأمراء من ضباط الجيش وجهاز الاستخبارات والشرطة والأمن ضمن محاكمات وطنية سورية خاصة تنشأ لذلك والحكم وفق القانون السوري والاستفادة من القانون الجنائي الدولي ،وبإشراف المنظمات الحقوقية الدولية والعربية والأمم المتحدة كي لا تتحول إلى محاكمات انتقامية-التجربة العراقية وكوسوفو للمقاضاة الفردية خير مثال لآلية هكذا محاكمات .
ومن آليات العدالة الانتقالية السريعة أيضا جبر الضرر، وذلك بتنفيذ برامج إعادة الحقوق والتعويضات لضحايا سياسات النظام وحزبه وأجهزته القمعية، قبل الثورة وأثنائها ،وتشمل التعويض المعنوي و المالي – الإجراءات الألمانية فيما يتعلق بالتعويضات بعد الحرب وكذلك تجربة المغرب العربي – واستعادة الممتلكات – مثال حين طالبت الحكومة التشيكية بإرجاع كافة الملكيات التي تم مصادرتها من أراضي وعقارات بين أعوام 1984-1990م خلال الفترة الشيوعية إلى المالكين الأصليين – وتأهيل المتضررين المدنيين والمقاتلين جسديا ونفسياً وتخليد الذكرى لضحايا الحرب والمجازر من خلال بناء نصب تذكارية وأيام عطل رسمية لهم وإطلاق أسمائهم على المدارس والمراكز والأبنية المدنية والحكومية وتدريس هذا التاريخ المريض في المناهج المدرسية لترسيخ حقبة تاريخية مؤلمة في الذاكرة السورية القادمة إلى الحياة، وتمتين سيادة القانون لمنع تكرارها ، ولتكون رموزا للمصالحة الوطنية، وتأسيسا لسلم أهلي، و تعبيرا عن انتهاء فترة الحكم المتسط وإحلال الحكم الديمقراطي، وهي مهمة الحكومة الانتقالية في سوريا قبل الوصول إلى إجراء أية انتخابات برلمانية أو حكومية ويمكن الاستفادة من تجارب الشعوب التي لها باع في إجراءات العدالة الانتقالية.
وهنالك آليات أخرى للعدالة الانتقالية بعيدة المدى، وذلك لتعقيد إجراءاتها وحاجتها لفترات زمنية طويلة (كالجان تقصي الحقائق،وإصلاح المؤسسات) بالنسبة للجان تقصي الحقيقة المراد تشكيلها في سوريا عليها أن تكون مختلطة، وطنية وعربية ودولية وبإشراف خبراء دوليين مستقلين وبمراقبة المنظمات الدولية والأمم المتحدة وبمرسوم من الحكومة الانتقالية وذات صلاحيات واسعة، ويكون تمويلها وطنيا تحسبا لأي تأثير أو أجندة مهمتها كشف الحقيقة للسوريين والعالم وتقديم سجل تاريخي للانتهاكات ضمن المعايير المؤسس لها هذا فيما يتعلق بالقضايا والانتهاكات الجسيمة والكبيرة ، وتشرف كل لجنة على الموضوع المنتهك او الجريمة المراد كشفها ابتداءً من استلام النظام وحزبه السلطة ومرورا بالثورة وحتى انتهاء النزاع بين الطرفين وتشكيل الحكومة الانتقالية.
وتتقصى هذه اللجان الانتهاكات للحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية للسوريين منذ أربعة عقود، بدءاً من جريمة توريط سوريا في حرب خاسرة مع إسرائيل 1973 م والتي كبدت السوريين الأرواح والنزوح والأموال دون أن تحقق هذه الحرب أي هدف وطني،بالإضافة إلى الإبادة الجماعية كمجزرة حماه 1982م،وجريمة حرق سجن الحسكة 1993م ناهيك عن الإعدامات والقتل خارج القضاء في سجون سوريا – كسجن تدمر مثلا -وكذلك الانتهاكات بحق المعتقلين في سجون النظام والكشف عن المتورطين عن تلك الانتهاكات والمؤسسات المسئولة عنها وكذلك الجرائم الاقتصادية كنهب المال العام وتسخير موارد البلاد في الحرب لقمع الثورة والإقصاء العرقي والقومي بحق الأقليات والمكونات الغير عربية والاستيلاء على ممتلكاتهم، كالاستيلاء على الأراضي التابعة للأكراد في الجزيرة 1974 م وإعطائها لعرب الغمر، والكشف عن الجريمة السياسية المتوحشة في (انتفاضة قامشلو) بحق الكرد 2004 ناهيك عن جرائم الحرب والإبادة واستخدام الأسلحة المحرمة أثناء الثورة منذ عامين وحتى هذه اللحظة
كل ذلك تحتاج إلى فترة زمنية للكشف عنها وتسجيلها وتوثيقها ،ويجوز أن تكون هذه اللجان وطنية فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية والفساد الإداري وبعض المسائل السياسية التي يمكن إيجاد سجل تاريخي لها.
اما آلية إصلاح المؤسسات فهي عملية طويلة مهمتها تحويل مؤسسات الشرطة والجيش والاستخبارات إلى مؤسسات نزيهة في خدمة العامة والشعب وتعمل على حفظ السلام وتمتين القانون وسيادته،وتعتمد بشكل فعلي على إصلاح القطاع الأمني والتطهير المؤسسي وتدقيق الاختيار والإشراف والتاهيل، ونزع السلاح والتسريح وإعادة الاندماج وهذه هي إجراءات الإصلاح المؤسسي التي يجب إتباعها لتعود المؤسسات إلى الشعب وتتطهر من سيادة حزب البعث والأجهزة الأمنية والفاسدين والمتورطين في ما آلت إليه سوريا.
وتلعب هنا مؤسسات المجتمع المدني دورا كبير في إنجاح خطط العدالة الانتقالية في سوريا من خلال نشر الوعي القانوني وتقديم التسهيلات لإجراءات المحاكم كما تلعب دورا كبير في توثيق الجرائم والانتهاكات،وكذلك بإمكانها الإشراف على سير العدالة الانتقالية وتقديم المساعدة والمشورة للجان تقصي الحقائق وتشجيع الضحايا لتقديم شهاداتهم والتمثيل لقضاياهم ورفع الدعاوي ضد المسئولين عن الجرائم .للانتقال بسوريا من حالة الاستبداد والشمولية الى حالة الديمقراطية والمدنية والتعددية وفق دستور يحمي ويصون حقوق الجميع
عاصم أمين: كاتب وباحث كردي سوري.
موقع الآوان