مستنقع أحلام الثورة السورية
علي الأمين السويد
قبل الخامس عشر من آذار 2011، وعلى امتداد عقود طويلة تنضدت أفكار السوريين بكافة أطيافهم الثقافية و الفكرية وفق اتجاهات سياسية تتفق جميعها على الابتعاد عن خط انتقاد النظام السوري من قريب أو بعيد. وفي مرحلة من المراحل، صار تجنب انتقاد أصدقاء النظام السورية أولوية جديدة أضيفت إلى لائحة المحرمات التي أضحى من الجنون اقترافها.
و بالرغم من أن السوريين انقطعوا عن انتقاد النظام الأسدي و نقد الواقع السياسي و المعاشي حتى بين أقربائهم إلا أن هذا الإرهاب الفكري و السياسي المنقطع النظير من قبل النظام السوري لم ينجح في النفاذ إلى عقلهم الباطن لحسن الحظ و للأسف معاً.
وحسن الحظ في الأمر أنه وبالرغم من هذا الضغط الهائل من قبل النظام الأسدي بإتجاه سحق الحياة السياسية وجعلها من خانة الترف المشروط إلا أن السوريين صاروا يقضون وقتا لا بأس به في خلواتهم يقلِّبون أمور حياتهم السياسية، فتراهم يتخيلون أنهم في موقع القرار تارة، أو أنهم نجحوا في انقلاب على بشار الأسد تارة أخرى، و من ثم يبدؤون برسم سياسة جديدة فتراهم قطعوا العلاقات الدبلوماسية مع هذه الدولة أو تلك، أو أنهم عقدوا اتفاقية مع هذه المجموعة الاقتصادية أو انسحبوا من معاهدة أو حتى أعلنوا الحرب على اسرائيل و ربما حرروا القدس و جلبوا معهم منبر المسجد الاقصى المصنوع في دمشق ونصبوه في الاقصى.
أما حسن الحظ في هذه الخيالات وربما أحلام اليقظة فهو أنها حقيقة حافظت على جذوة الفكر السياسي عند السوريين من التلاشي و الاختفاء نهائيا من أجنداتهم ليس إلا.
و سوء الحظ في الامر والمؤسف هو أن كل السوريين على اختلاف مشاربهم صار لديهم أحلامهم الخاصة في التغيير السياسي مرده أنهم فكروا في ذلك كلٌ على طريقته. كيف ذلك؟
جاء الخامس عشر من آذار وانتفض الشعب السوري العظيم في وجه الطغيان، وبدأت الثورة تتمدد حتى شملت كامل الفئة غير المثقفة قبل ضمها لبعض المثقفين السوريين.
كان الخروج عن الصمت بمثابة ثورة بحد ذاته وبقيت هذه الثورة في إطار الخروج عن الصمت و تشجيع الخروج عنه مدة طويلة حتى باتت بشائر النصر المنتظر تلوح للسوريين في الأفق القريب سراباً كانت أم حقيقة ،. لكن تلك البشائر صارت تشق طريقها إلى الواقع محملة بأشكال و تسميات صارت كالنجوم عددا.
هذا الفتح المبين في اقتراب النصر وليس النصر المؤزر جعل الثوار و غير الثوار يفتحون الباب لتطبيق ماكانوا يحلمون به من تغيير سياسي أيام الكبت و القهر. و هنا المأساة بعينها. فكل من كان يفكر و يحلم في سياسة كانت حبيسة عقله الباطني أطلق لها العنان الآن، وصار يضغط بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة، المشروعة وغير المشروعة بإتجاه تطبيقها وفرضها على الآخر بإعتبار أنها الانسب و الأفضل حسب مبادئ من فكر بها.
فمن السوريين من غاص بالطوباوية فحلم بالتغيير على الطريقة الغاندية للتحرر من الأسد و اعتبر أن النموذج الغربي في الحياة المجتمعية و السياسية هو الإسلوب الامثل هذا إن كان للتحرر من الاسد أو بالنسبة للحياة ما بعد الآسد، علماً آن الأسد لم يسقط بعد.
ومنا من يريد فرض أحلامه الدينية السابقة على الواقع السوري، فكثير منا عشق شخصية أسامة بن لادن وانبهر بصلابة موقفه و رباطة جأشه ،بغض النظر عن أفعاله، مقارنة مع الحكام العرب الذين اجتمعوا مرة في شرم الشيخ و جعلوا جورج دبليو بوش يقود القطار و هم كلهم خلفه جالسين نظرات الاعجاب بوجودهم خلف بوش تقول: يا لسوء حظكم لعدم إتاحة الفرصة لكم كما أتيحت لنا. كانوا كركاب يفتخرون بسائقهم افتخار الصبية بأبيهم.
هذا الإنبهار العقلي ببن لادن وبفكرة الدولة الإسلامية العتيدة تحول إلى مشروع سياسي يعتقدون أنه يمكن فرضه فرضاً في سوريا ما بعد الأسد، فصار يُعمل و كأن المشروع قاب قوين أو أدنى من التحقيق، علماً آن الزسد لم يسقط بعد.
ومنا من حلم بدولة معتدلة،أو دولة متطرفة، أو دولة صناعية، أودولة سياحية، أودولة تجارية، أو دولة فضائية والجميع صار يريد أن يعمل عملاً على أرض واقع الثورة يفضي في النهاية إلى تطبيق ما حلم به و عمل من أجله. و الكل صار في سباق من أجل تحقيق أحلامهم و آمالهم، والكل أضحى منخرطاً في فرض أجنداته التي تتفق جميعا في شيء واحد أن من يبتدعها هو رئيسها.
و للتذكيرفقط نقول بأن من انخرط في الثورة هم كثير من غير المثقفين وقليل من المتعلمين الذين قلنا أنهم حلموا يوماً، بسبب من الاسباب، في انتاج بلد بطريقة رومانسية جاء اليوم الذي يترجم أحلامه إلى واقع مما جعل سوريا تغرق في محيط من التسميات الثورية و غير الثورية التي تعنون تشكيلاته، و ترسم حكومات انتقالية، مدنية و عسكرية، و مشتركة بكافة النسب بين المسلح و غير المسلح، وبين المدنيين و المنشقين، وبين الداخل و الخارج وهلم جرا.
لقد غرقنا بالتسميات لكثرتها و تنوع مدلولاتها مثل حكومة الظل، حكومة انتقالية، حكومة مؤقتة، حكومة تصربف أعمال، أمناء الثورة، اتحاد المجالس، جبهة ثوار سوريا، المجالس العسكرية، قيادة المجالس العسكرية للجيش الحر، الجيش الحر، المجلس الاعلى للمجالس العسكرية المشتركة، اتحاد لا أدري ماذا. لقد غرقنا و أغرقنا العالم من حولنا في محيط من الضبابية حول جديتنا و حول حقيقة امكانيتنا لأن نكون بناة حقيقيون لا عبثيون أو مهرجون راق لهم الجو فملئوا الدنيا صخباً. و لا تذكرني هذه التسميات إلا بإسم الجماهرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى.
والكل برأيه هو المصيب والآخر إما عميل للنظام الأسدي، أو عميل لدولة من الدول، أو غبي أخرق. و الكل يدعي القوة و الشفافية وتمثيل الداخل بينما الآخر متهم بأنه منفصل عن الداخل و تحيط به ملايين إشارات الاإستفهام.
ما أسعد النظام الأسدي بنا اليوم!
فها نحن نساعده على هزيمتنا من حيث أننا نحلم بهزيمته و هزيمة الاخرين منا لننصِّب من أنفسنا جبابرة على الآخرين ولنجعل منا أنظمة دكتاتورية لا تختلف عمن نقاتله طلباً للحرية.
إن المطلوب منا اليوم، و أكثر من كل يوم، هو نبذ كل هذه الأحلام الداعية لايجاد نظم سياسية مؤسسة على افكار أحادية ذات مقومات سرعان ما تزول لهلاميتها وصبيانيتها، وتلمس الواقع من جديد والسير بخطى واثقة بعيدة عن التسابق من أجل قنص سلطة من المفروض أن العقلاء يهربون منها في ظل النظام الديمقراطي الذي نسعى إليه بعد سقوط هذا الطاغية.