مشهد من بلدي/ افتخار محفوض
مشهد من بلدي، هل اختزلته طفولة الحرب؟!
هناك عند جسر فيكتوريا، نهض عمر وعلي من حلمهما مستعجلين، خائفين من نعاس النهار ومن اسوداد الشمس وراء الأقحوان. من نافورة ثكلى ترمي عطشها ينبوعاً ليغرفا بيديهما الغضتين على عتبة حلم.
عند ذاك الجسر، لم أكن بحاجة إلى أن أختلق حججاً ومبررات، لأدخل إلى عالمهما الضيق، الرحب، لألعب لعبهما، لأسبح في لجة فضائهما. لكنني كنت بحاجة إلى أن أحمل خوفهما إلى هذا العالم الأصم، هذا العالم الذي اغتال سريرهما، فباتا على رصيف ينهش أجمل فراشات عمرهما. يحرق لعبهما. يعبث بأحلامهما. نأت السيدة باربي والسيد ميكي ماوس عن احتمال الشروع بعقد محكمة علنية تجرّم الجاني.
حين تراهم تعرف أنه لم يكن هناك أرجوحات، لم توجد أقلام أو كراسات كتب وألوان، لم يكن هناك موسيقى وغناء مَرِح وصيحات صبيان، لم يكن هناك مقل يلمع بها الفرح ولا ابتسامة تشف عن لؤلؤ، بل بقايا أسنان تأكلتها سنوات الحرب القليلة ونخرها السوس وقلة الطعام والغذاء.
اقتربا مني عند جسر فيكتوريا، المنطقة الفاصلة بين امتداد شارع المتحف الوطني وشارع الثورة. تحت الكتلة الحجرية الأسمنتية كانت تنضب حياة وفرح وصوت طفولي شقيٌّ يصرخ ويضحك: “خالة، خالة، تعي شوفينا كيف عم نسبح!”.
لم يكن في إمكاني أن أبخل بوقتي المخنوق بين مئة راكب وراكب على جسر فيكتوريا. هناك حيث كان وقت خروج عامة الناس من وظائفهم، وكان عليَّ أن أجهد كما بقية الناس لأجد ميكروباصاً يقلّني إلى منزلي. لم يكن هذان الشقيان ليعبأا بكل ذاك الازدحام الذي يدب كالنمل ويفصل المارة وصخب السيارات وأنين ضجيجها عن تلك الفسحة التي تكوّنت من رواسب الأمطار وكوّنت شطراً من الفرح في زاوية لم يعبأ بها أحد سواهما.
كان وجهاهما يشرحان بقسوة عجز أقدارهما. يحملان مرآة زمنهما العجوز لتعكس أقداماً نحيلة يكسوها الوحل والغبار بفعل وقع خطواتهما الصغيرة على بركة الماء ترسم قدراً من أقدارهما الصغيرة.
يعود الشريط ويكر من جديد: “خالة خالة، صوّرتينا؟ صوّرينا”. يتوقف الزمن. تتوقف الصورة عند ابتسامتين ونظرتين تخلعان البؤس وتمتهنان الفرح. كصرخة طفل لحظة الولادة، منتظراً يداً تلمّه لتنفض عنه بؤس هذا الكون.
هل كانا يتعمدان توريطي بعالمٍ كنت كلما نظرت إليهما رأيته أرحب من فضاء وأينع من زهرة عباد الشمس.
سمرة جسديهما توحي بأنهما أبناء النهر (نهر الفرات) لذلك أراهما هنا على ضفتي تلك البقعة من الدهشة يبحثان عن خلاصهما.
يغتسلان من كل أوساخ هذه الحرب. يرممان بجسديهما الغضّين واقعاً مدمراً عبثياً، ليدخلاني في حوار بريء كطفولتهما. شقيّ كضحكتهما.
– من أين أنتما؟!
– من دير الزور.
– ماذا تفعلان هنا؟
– جئنا نسبح. ألا تحبّين السباحة؟!
– مبلى (بلا تفكير أحببت الغوص في كوامن فرح غير آمن لهما).
– ولكن أين أهلكما؟!
بأيديهما الصغيرة التي تحرِّض هذا الكون، أشارا إلى ساحة المرجة.
– هناك خالة. هناك. إننا نقيم هناك! كرّراها كأنهما بذلك يؤكدان لي بحسرة وبخوف بريء: لا فراش لنا. لا منزل يؤوينا.
هي الحرب إذاً تُقتَل فيها الطفولة فقط. تُهزَم فيها ظهور غضة.
وددت لو سألاني كم تبلغ المسافة بين فضائنا نحن، وفضاء أطفال آخرين يملكون حاضرهم؟ لكنتُ أجبتهما: ضحكتكما فقط تعبر هذه المسافات وتملأها.
إنهم يخافونكم أيها الأطفال. يخافون أحلامكم. يخافونكم لأنكم تقبضون على مستقبلهم.