مصياف البريئة
أحمد باشا
على مسافة شبه متساوية بين حمص وحماه ثمة مدينة صغيرة، لا شخصيات ثانوية فيها ولا أبطال، الغرابة هو إرثها الوحيد لكل ابنائها الذين يتحاصصونه بشكل متساوِ، لتبدو وكأنها مدينة هاربة من مخيلة المخرج الايطالي فدريكو فيلليني، على قدر المسافة أيضاً ترقد بين زمنين: ما دمر في الثمانينات من حماه القديمة وما تبقى من حمص القديمة بعد 2011. مدينة لا تقع على أي طريق رئيسي، تضيع في فراغات مثلث تكونت رؤوسه من “حمص، حماه، طرطوس”.
“مصياف” الحائرة بين الريفية والمدنية كمعظم المدن الصغيرة في العالم تقبع تحت قسوة أخرى، التقاء السهل بالجبل، وكأن السهل قد استخدم هامات أبنائها ليطال الجبال، لكن هذه القامات تجتر التاريخ حيناً أو يجترها تماماً، لتبقى على الهامش، وترث المدينة حكايةً لا تغوي غير أبنائها.
قبل انطلاقة الثورة السورية بسنوات شهدت المدينة حراكاً بسبب سوء تصرف السلطة حينها في حل خلافات المواطنين، فكان المشهد التالي:
“حشد كبير للمواطنين في ساحة، اجتماع في داخل مبنى الحزب لمسؤولين وبعض أعيان المدينة وبعض المتضررين، بعد انتهاء الاجتماع يظهر على شرفة الحزب محافظ حماه وقائد الشرطة وبعض من المجتمعين، الشرفة التي تطل على حشود أبناء المدينة، تعلو أصوات المواطنين وتتعالى أسئلة بعضهم: ما الذي حدث معكم في الاجتماع؟ ليجيبهم أحد شبان المدينة من الشرفة: شو ألنا ساعة عم ناكل…بالاجتماع نحن والمحافظ والسيد قائد الشرطة!”.
على عكس معظم المدن السورية التي تحول “الزعران” من فقرائها إلى مناصرين للثورة، في سبيل البحث عن قيمة او معنى جديد لوجودهم، فصاروا يحمون المظاهرات ويساعدون العائلات المنكوبة، في سبيل البطولة المنشودة التي كانوا يشتهونها، أو اللحظة التي كانوا ينتظرونها دون أن يتخيلوا أبعادها، “أثر الثورة”. لكن بالنسبة لمصياف كان الامر مختلفاً فتحول معظم “زعرانها” إلى مدافعين عن النظام بحجة أنه يرعى حقوق الأقليات، ويحفظ السلم الأهلي، مع احتفاظهم بالحس الطائفي ذاته.
حكاية مصياف مع الثورة السورية ليست بالحكاية الكلاسيكية، ولا يمكن حصرها بخط سردي واضح، هي أقرب ما تكون إلى مجموعة أحداث متفرقة لا روابط سببية أو منطقية بينها، الثابت الوحيد بينها هو جنازات قتلى الجيش والأمن اليومية التي يتجه أغلبها عبر شوارع المدينة إلى الريف المصيافي.
مظاهر الثورة المتناثرة في هذه المدينة الصغيرة عبر سنتين لا يجمعها سوى الغرابة، الغرابة التي لا تخلو من الألم أو الفاجعة. أحد شهداء هذه المدينة هو إسماعيل حيدر المعروف بنشاطه الثوري، وصار والده وزيراً للمصالحة الوطنية. أحد أبناء المدينة وشى بأخيه ليدخل المعتقل للمرة الثالثة على التوالي، كما اندفع أحد أبناء المدينة أثناء خدمته الإلزامية في بداية الثورة لحمل لافتة داخل ثكنته العسكرية كتب عليها “وجهتنا الجولان فقط” ليذهب بعدها في مصير مجهول. كما رمى أحد أبناء المدينة قنبلة داخل بيت للدعارة ليموت هو وعدد من عناصر من الأمن في ظروف غامضة.
عميد معتقلي هذه المدينة من ذوي الإحتياجات الخاصة علي وطفة، على كرسيه المتحرك خلال مايزيد عن السنة داخل المعتقل يختصر الكثير. هذه المدينة التي كانت أولى الصدامات فيها داخل مقهى للإنترنت!
وفي مصياف هناك أيضاً سيارة رئيس مفرزة أمن الدولة الذي زينها بصورة كبيرة لبوتين وكتب أسفل الصورة “بوتين الأسد”، أبو هاشم جمع بعض أطفال المدينة في يوم من الأيام داخل مبنى الأمن قائلاً لهم بجدية: “عندما تريدون التظاهر، تعالوا وتظاهروا هنا وقولوا ما تشاؤون”. ليس غريباً أن يحدث ذلك في مدينة انطلقت أولى مظاهراتها من داخل مبنى حزب البعث وكان أحد هتافاتها “مكتوب على النصّية .. مصياف بدها حرية”، وكتب وقتها الممثل فارس الحلو على صفحته الشخصية في فيسبوك “إن من يتظاهر في مصياف كمن يتظاهر داخل فرع للأمن”.