مطابقات سورية/ أحمد عمر
في القصص الكبرى والصغرى؛ نجد طباقاً في الأحداث والمصائر. في أحسن القصص، والتي تسربت إلى رائعة البؤساء لفكتور هوغو، فهي طبعة فرنسية منها، وكذلك إلى رواية الكونت دي مونت كريستو لألكسندر دوماس، وهي طبعة ثالثة منها، عدّها غبرييل غارسيا ماركيز، أجمل قصة في العالم، وكان يحسد كاتبها. واقتبست عنها عشرات الأفلام، أشهرها فلم “شاو شانك ريدمشن”.. وعلامات الطباق الحكائي، وتضاد البدايات والنهايات في قصة يوسف عليه السلام كثيرة: جُب عرش، محنة منّحة، ذلّ عزّ، أمن خوف، مُلك رقّ، فُرَّقة وشتات، اجتماعٍ وانضمام، سُرور حُزن، رَخاء جدب، ضيق سعة..
فأين الطباق في قصة الأسد السورية؟ قد لا يتاح لنا أن نرى مصفوفة الطباقات كلها، فأزمان طباق المآلات أطول من أعمارنا القصيرة، خذ مثلاً:
“لا صوت فوق صوت المعركة”، كان شعاراً لحقبة الأسد الأب، وكان يعني أن البلد يقاوم، أحياناً كان يمانع، وهي درجة أدنى من المقاومة التي احتكرها حليفه في لبنان، والحق أنه كان يمانع عدواً وحيداً، هو الشعب السوري، ويمانع تحقيق أهداف الحزب الثلاثة في الوحدة والحرية والاشتراكية، بل إن ممانعة الشعب كانت حرفته الوحيدة، وربما يحتفل النظام قريباً بعيد الجلاء الثاني.
النظام في الشعارات، هو قلعة الصمود والتصدي، وقلب العروبة النابض كالراصور. وهو بلد الاستقرار والأمن، وأهدافه: وحدة حرية اشتراكية، ويقاوم عدواً واحداً، هو إسرائيل، وقضيته المركزية فلسطين، وقد تخلى الرئيس الابن عنها في خطاب حديث، وكان يعني فعلياً منع المعركة، وتأجيلها إلى ما لانهاية، إلى حين تحقيق معادلة التوازن الاستراتيجي، وهو اسم سياسي للمهدي المنتظر، أو لغودو، أو يشبههما. والمرحلة دائماً حرجة، يجب تأجيل كل شيء الى حين الانتهاء من المعركة. النقد البنّاء هو المسموح به، ومعناه الحديث عن الإنجازات، والمعجزات، ومديح النظام، مثلاً أهزوجة “لا لي ولا لي لا لي أنا سوري يا نيالي”، نقد بنّاء، مغنّى وملحّن، يمكن الرقص عليه. الرقص مقاومة أيضاً، أو ترويح عن النفس في الخندق، أو في الفندق: بين الفندق والخندق جناس.
والحق أنه لم تطلق طلقة واحدة على العدو، الذي يمارس التزلج على ثلوج الجولان، الذي حولته إسرائيل إلى فردوس. مرّة واحدة فقط، أُطلقتْ طلقة من جندي سوري إبان حملة الرصاص المصهور، فإما أن الجندي كان ساخطاً وصاحب نخوة، أو أنه احتج على حصته من الطعام والجوع، أو أن بندقيته ملّت واحتجّت، وأن الرصاصة بلغ بها الحنق وضاقت بها زنزانتها، فصاحت، ولا شك أن صاحب البندقية البطل، اختفى في ظروف غامضة.
أما في طباق الحقيقة، فكانت سوريا بلد الخوف والقلق، وبلد الفرح الدائم، والاحتفالات المستمرة، فالأعياد الوطنية كثيرة، ثورة الثامن من آذار، تشرين، عيد الجلاء، وقد رأينا جناس الجلاء في كل هذه الأنواع من الاحتلال؛ عيد المعلم المسكين، عيد الأم الذي صار كناية عن عيد النيروز، وتهرباً من الاعتراف بحجر من أحجار لوحة الفسيفساء، العيد الوحيد الذي لم نكن نحتفل به هو عيد ميلاد الرئيس، وطباقه موت الشعب، والسؤال الذي يطرح نفسه، و يضربها بالسياط والكبل الرباعي: لمَ لم يحتفل الرئيس بعيد ميلاده، ولم يجعله عيداً قومياً؟ والتفسير هو أن ثقافة الميلاد والاحتفال بها، وافدة وجديدة، ولا أعرف دولة عربية تحتفل بعيد ميلاد الرئيس مثل كوريا الشمالية مثلاً، سوى صدام حسين، الذي كان يقول إن المرء إذا احتفل بعيد ميلاده دعا أصحابه، وهو يدعو الشعب العراقي إلى عيد ميلاده! لكن الظن أنه في حالة الأسد، الأمر أبعد من نكران الذات، التي صارت آلهة تعبد، الأمر هو أن الآلهة ليس لها ميلاد.
لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، والطبل لا يتوقف عن الضرب احتفالاً بأحد الأعياد، ومسلسلات الكوميديا والدراما مستمرة، وطباق الحكاية أو جناسها أنّ شهريار هو الذي يروي الحكايات للشعب، حتى لا يفكر في الانتقام لشرفه المغدور، وغدت الدراما صناعة ثقيلة، وكان بابا الحارة وبقعة ضوء أسلحة نووية. لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وأكثر المعامل إنتاجاً، هي فروع الأمن: دراسات وأطروحات، ومخبرون صغار وكبار يدرسون ويجتهدون، منكبين على تحليل دم أبناء الرعية: حيادي، حيادي سلبي، حيادي إيجابي، معارض، خطر…
لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، والكر والفر ممنوعان، تشكيل الأحزاب ممنوع، اجتماع ثلاثة أشخاص ممنوع، فقد شكلت سبعة أحزاب عجاف، وقبعت في قفص الجبهة الوطنية، وحنّطت وانتهى تشكيل طبقات جيولوجيا الأحزاب في سورية.
كان التعفيش ناعماً، على شكل عمولات ورشى، ثم صار علنياً، بعد أن انعدمت العملة، وقيمتها، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، والآن لا يكفّون عن قول: خلصت، مرّتْ سبع سنوات من الحرب، والمعركة لا تنتهي.
رأينا نهاية القذافي وكان له من الألقاب ما يملأ صفحتين، ونهاية علي عبد الله صالح، أما نهاية بشار الأسد مؤجلة فلم يحن وقتها، وقد جعل النظام الضِرغامَ الروسي بازاً لِصَيدِهِ، ومعه ضرغام إيراني، حكمة الأقدمين تقول: إن الضرغام سيتصيده فيما تصيدا.
طباق هدفي البعث: وحدة وحرية، هما على التوالي: فرقة وعبودية، أما الهدف الثالث، فقد كان بنسبة مئوية، وأمسى بنسبة تامة. طباق شعار سوريا الله حاميها، نجده في حال سورية محميةً روسية وإيرانية مناصفةً. الأسد الأب باني سورية الحديثة، الابن مدمر سورية الحديثة والقديمة.
خلصت، ليست المعركة، إنما سورية، والمعركة ممتدة مثل مسلسل باب الحارة. الباب موجود في التلفزيون والجدران سقطت.
أملاك الغائبين، مطابقة تامة مع حال الفلسطينين، أما التشابه بين أسماء هذه الدول الفاضلة الثلاث؛ روسيا وسوريا وكوريا، فهو جناس ناقص. وكذلك المشاكلة بين بشار الأسد وسهيل النمر، أما الأفعال الناقصة السورية، فهي أكثر من خمسة أفعال، هي أكثر من أن تحصى.
المدن