معارضٌ بين معارضتين: أزمة طويلة بلا حلّ
أقرت خطة الموفد الدولي كوفي أنان تساوياً بين النظام السوري ومعارضيه. اتهمتهما بارتكاب العنف، وحضّتهما على الحوار. كلاهما لم يعد قادراً على إلغاء الآخر، ما دامت وقائع الأرض وقرارا مجلس الأمن تدفعهما إلى تسوية تحت سقف الخطة. النظام واحدٌ، لكن المعارضة كثرٌ
نقولا ناصيف
في الأزمة السورية معارضتا الداخل والخارج. بينهما معارضون اضطهدهم النظام سنوات طويلة، إلا أنهم لم ينتظموا في صفوف أي من الطرفين، ولم يتأخروا في الانضمام إلى المواجهة مع الرئيس بشّار الأسد، في الشارع كما من منابر يطلون بها كمثقفين وخبراء من خارج بلادهم. بينهم مقيمون في أكثر من عاصمة أوروبية، لم يفقدوا الاتصال بفريقي المعارضة. تُستمزج آراؤهم في ما يحدث. أحجموا عن الانخراط في المعارضتين، وفضّلوا أن لا يُعدّوا معارضين بل «جزءاً من الثورة»؛ لأن مَن يخوض معركة إسقاط النظام «هو الثورة وليست المعارضة». يحتفظون بفسحة مراجعة مسار معركة إسقاط النظام والذهاب إلى سوريا جديدة.
لهؤلاء مراجعة لسنة مضت من انفجار الأزمة السورية. لم يفقدوا الأمل في نجاح «الانتفاضة» على النظام. بيد أنهم يرون الأمر سيستغرق وقتاً طويلاً.
عندما يتحدّث هؤلاء عن مراجعتهم، يُوردون ملاحظات من بينها:
1 ــ مَن يُسقط النظام اليوم ليست المعارضة، بل الشعب الذي يقود هذه الحملة و«يقود الثورة». وهو الذي يملك المبادرة عندما يكتشف أنه هدف دائم لإطلاق النار والقتل، ولكنه يثابر على المواجهة، وهو مغزى اقتحام الجيش المدن أكثر من مرة. يهاجمها ويسيطر عليها، ثم يغادرها، ثم يدخلها بالقوة مجدّداً، كدرعا وإدلب والرستن وحماه. وفي كل مرة تتضاعف التظاهرات وحركة الاحتجاجات وينزل الناس إلى الشوارع: «في وسعنا تحمّل سقوط 50 قتيلاً يومياً من أجل استمرار التظاهرات، ونستطيع الصمود على هذا النحو سنة أخرى».
يشيرون بذلك إلى طبقة من الشباب دون الثلاثين من أعمارهم «لا انتماء سياسياً لهم، ولكنهم محرّكون للشارع ويتوزّعون في الداخل على لجان التنسيق والهيئة العامة للثورة وسواهما». هؤلاء «يمثلون الجيل الرابع من معارضة النظام الذي نجح على مرّ العقود المنصرمة في ضرب الأجيال الثلاثة الأولى وعطّل أدوارها، وهو يواجه اليوم الجيل الرابع ولن يتردّد في مواجهته، في وقت يقول فيه ممثلو هذا الجيل إنهم مستمرون في الصدام إلى أن يصلوا إلى الجيل التاسع إذا اقتضى الأمر».
2 ــ ليس من السهل الاعتقاد بأن التوصّل إلى تسوية داخلية ممكن في الوقت الحاضر. أزمة سوريا طويلة، وقد تستغرق عشر سنوات تحت وطأة المواجهة بين النظام ومعارضيه، والصراع الدولي في سوريا وليس على سوريا فقط، يقول هؤلاء الذين يضيفون أن أحداً من الأفرقاء السوريين لا يملك مفتاح التسوية الداخلية في أحسن الأحوال. لا يملكه النظام بالتأكيد. إلا أن فريقاً واحداً قد يتمكّن من التأثير الفعلي في التسوية الداخلية، هو ذاك الذي يسعه وقف 70 في المئة من التظاهرات وحركات الاحتجاج مرة أو اثنتين في أيام الدعوة إلى التظاهر في أيام الأسبوع. الفريق القادر على القول للناس أن لا ينزلوا إلى الشارع، وحده القادر على فتح الباب أمام تسوية سياسية.
3 ــ في اعتقاد المعارضين الذين يقفون في الوسط بين معارضي الداخل والخارج أن النظام سقط فعلاً منذ آذار 2011، ولن يسع الرئيس بعد اليوم حكم سوريا كما كان، ولن تعود سوريا إلى ما كانت عليه قبل سنة. يُحمّلون الأسد مسؤولية رئيسية في ما حدث، يرون أنه فوّت فرصاً مهمة لإجراء إصلاحات وتنظيف السلطة من حوله قبل أن تنفجر البلاد، ولكنه لم يفعل. لم يعد اليوم قادراً على قيادة الحلّ السياسي. بالتأكيد يصر الأسد على إجراء انتخابات مجلس الشعب في 7 أيار، وهو سيجريها من دون أن يضع سوريا على طريق التسوية: «لكن أحداً لا يمكنه القبول باستبدال الأسد بأمير قطر. السعودية التي قالت بتسليح المعارضة رفعت نبرتها وصوتها عالياً كي تقول فقط إنها مَن يحاور عن المعارضة السورية لا قطر أو تركيا».
4 ــ يُميّز هؤلاء بين حقّ الدفاع عن النفس وعسكرة المعارضة. يُبرّرون الخيار الأول بعدما أصبح السكان مهدّدين داخل بيوتهم ومن حقهم حمل البنادق، ويرفضون الخيار الثاني الذي يقود إلى حرب أهلية: «سقط النظام ولكن الدولة لم تسقط. هناك مَن يحاول ضرب بناها التحتية. عسكرة الثورة تؤول إلى تقويض الدولة التي لا تزال إلى حدّ بعيد قائمة. وقد يكون أبرز مصدر لبقائها وقوتها هو الجيش الذي يحافظ عليها رغم أنقياده اليوم إلى أوامر النظام ووُضع وجهاً لوجه مع الشعب والمتظاهرين. الجيش منهك ويتذمّر. عندما تنهار التركيبة الباقية من النظام يعود الجيش مصدر حماية الشعب والسلطة الوطنية الجديدة».
يقود ذلك المعارضين هؤلاء إلى تسجيل مآخذ على قيام الجيش السوري الحرّ. لا هو جيش لأن لا قيادة، ولا أركان حقيقية له. قراراته مستقلة في ذاته، ولا يتبع المجلس الوطني ولا أي مرجعية أخرى: «العسكرة أضرّت بنا». تكوّن الجيش السوري الحرّ من حالات فرار، ولم يُتح له التصرّف كجيش إلا قليلاً من خلال بضعة ضبّاط في معارك عسكرية محدودة كالتي واجهتها مدينة الرستن عندما خطط هؤلاء للدفاع عنها ونظّموا صفوفهم وإن خسروا أمام الجيش. لا أثر فاعلاً للجيش السوري الحرّ الذي لا يتحدث إلا مع نفسه، ولا يُصغي إلا لنفسه.
5 ــ يمثّل الإخوان المسلمون القوة الأكثر فاعلية في المجلس الوطني كركيزة رئيسية سارعوا إلى السيطرة على المكاتب الأكثر التصاقاً بالأرض والشارع، فأمسوا المحرّك الأفعل والأبرز تأثيراً، وهم بذلك ينطلقون من واقع طَبَعَ تاريخياً نشاطهم عبر وجود تنظيم سرّي ملازم للتنظيم العلني. تقلّبت علاقتهم بالنظام بعد عام 1980. عادوه ثم تفاهموا معه، ثم حالفوا نائب الرئيس السابق عبدالحليم خدّام في جبهة الخلاص الوطني عام 2006، ثم تخلوا عنه وعنها معاً عام 2009، وعلّقوا معارضتهم للنظام على أثر الهجوم الإسرائيلي على غزة، قبل العودة إلى الصدام أخيراً. لم يكن سهلاً الاتفاق معهم على تعيين أعضاء من صفوفهم لتمثيلهم في اجتماعات كانت تعقدها المعارضة بعيداً من الأضواء، قبل الأحداث، خشية افتضاح أسمائهم في ظلّ نفاذ القانون 49 القاضي بإعدام المنتمين إلى هذا التنظيم. كان يُنظر إليهم على أنهم لا يمثلون أكثر من خمسة في المئة من السكان، باتوا اليوم يشكلون قوة نافذة داخل المعارضة وفي الشارع. يحظون بدعم تركيا على نحو حمل رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان على مفاتحة الأسد، في بداية الاضطرابات، على تأليف حكومة جديدة للإخوان المسلمين حصة الثلث فيها. فرفض رفضاً قاطعاً.
6 ــ لا يعدو المجلس الوطني كونه تجمّع معارضين لكل منهم نظرته وتحرّكه. يجمع بينهم حبّ الظهور الذي يدفع كلاً منهم في اتجاه متباين مع الآخر. أرغموا عشية المؤتمر الثاني لـ«أصدقاء سوريا» على توقيع وثيقتهم بإصرار تركي في 27 آذار، حملت اسم «وثيقة العهد»، بعد يومين من إصدار الإخوان المسلمين وثيقة «عهد وميثاق». سرعان ما تبين _ يقول هؤلاء المعارضون _ أن برنامج الإخوان المسلمين أكثر تقدّماً من برنامج المجلس الوطني، رغم أنهم جزء لا يتجزأ منه، وفي صفوف المجلس علمانيون وعقائديون. تجعل المفارقة، في أبسط الأمثلة، أن وثيقة الإخوان المسلمين أكثر احتراماً للمرأة منها وثيقة المجلس الوطني. تقول الأولى بتمتّع المرأة بحقوقها الكاملة، والثانية بالمحافظة على المكتسبات التي حصلت عليها.
ينظر هؤلاء إلى المجلس على أنه غلطة تاريخية. يُذكّر أولاً بالمجلس الوطني الليبي الذي صنعه الفرنسيون لإطاحة الرئيس معمر القذافي، قبل أن يتعرّف نصف المجلس إلى نصفه الآخر. ثم جاءت الصفة التي أضفاها المؤتمر الثاني لـ«أصدقاء سوريا» على المجلس ووصفه بممثل شرعي للشعب السوري: «مَن يملك منح هذه الصفة المنافية للسيادة الوطنية والمناقضة للشرعية المنبثقة من الداخل». مع ذلك لا يكاد يصدر موقف غربي أو عربي لا يطلب توحيد المعارضة بلا جدوى.
الأخبار