معاني الحرية في الانتفاضة السورية
أكرم البني
يعد مفهوم الحرية من المفاهيم التي يصعب الإحاطة بها، لما لها من تعيينات ودلالات تختلف وتتطور وتزداد غنى باختلاف شروط حياة الإنسان وتنوع ما يكابده.
وإذ يصح القول إن الثورات العربية ورياح التغيير التي تهب على المنطقة قد بدلت وجه التاريخ العربي، فإنها شكلت أيضا نقطة انعطاف في معاني الحرية ودلالاتها، ما كان لها أن تظهر لولا التجربة العيانية الملموسة.
فتعرفنا وجوهها كنقيض للاستبداد والكبت والقهر، وكمبدأ يؤسس لعلاقة صحية بين الفرد والمجتمع وبين الفرد والسلطة، أو حافزا يبعث دور البشر ويمكنهم من التطور والتقدم في مواجهة صور التخلف والفساد أو بصفتها البوابة الصحية لتحديد الهوية والانتماء ولتعميم صور التسامح ونبذ العنف والتعصب والحقد.
ونضيف أن الانتفاضة السورية، وفي ضوء تميز نشأتها وخصوصية معاناتها، حققت فتحا جديدا في دلالات الحرية ومعانيها، إن لجهة فهم الحوافز العميقة لتفجر الاحتجاجات الشعبية أو لجهة تفسير أسباب مدها بعزم الديمومة والاستمرار.
أولا: الحرية بما هي صنو كرامة الإنسان، فلم يكن من قبيل الصدفة أن ترتبط شرارة الحراك الشعبي في سوريا بالرد على معاملة مهينة اعتاد على ممارساتها رجال السلطة ضد أبناء الشعب، كان ضحيتها أحد العاملين في سوق الحريقة التجاري وسط دمشق، وليست صدفة أن يكون أول شعار نادى به المحتجون وصدح بعفوية في سماء العاصمة، هو “الشعب السوري ما بينذل”، أي لا يذل، في إشارة واضحة للكرامة ورفض هذا الإنكار المزمن للذات الإنسانية والاستهانة بحقوقها وفضائلها.
لقد دأب أهل الحكم وطيلة عقود على استخدام الإذلال المعمم والإهانات الجمعية والفردية كواحدة من الوسائل المجربة لتأبيد السيطرة وتحويل المواطن إلى عبد ذليل ومقهور، دون الاهتمام بوضعه أو تقدير سنه وجنسه أو مكانته الاجتماعية أو الاقتصادية أو العلمية، وعرفت البلاد ما يشبه العمل الدؤوب وعبر أساليب متنوعة لامتهان الكرامة واحتقار المواطنين والاستهزاء بحقوقهم، والغرض تحطيم الروح المعنوية وجعل المجتمع خانعا عاجزا عن أي فعل يهدد أركان النظام الحاكم وأسباب استقراره.
وقد صدق عبد الرحمن الكواكبي حين أشار منذ أكثر من قرن إلى وسائط المستبد في تعزيز تسلطه بأن “الاستبداد يكره الناس على النفاق والتذلل والخنوع ومراغمة الحس وإماتة النفس”!
واليوم يطالب الناس بالحرية كي لا يذلوا، ولينهوا تاريخا من القهر والتهميش والازدراء، ولأنهم يعرفون بخبرتهم أن من لم يعش حرا ويتنسم هواء الديمقراطية لن يكرم ولن تحترم إنسانيته وشخصيته وتقدر فضائله وحقوقه، فلا معنى للحياة البشرية من دون كرامة، ولا معنى للكرامة من غير حرية!
ثانيا: الحرية بما هي كسر لجدار الخوف وتحرر من آفة الرعب المعششة في النفوس، فحتى اللحظة هناك من لا يزال يتفاجأ بالشجاعة التي يبديها الشعب السوري، وهو يصر على الخروج إلى الشوارع عاري الصدر ليواجه نظام أطبق على الصدور ومنح نفسه كامل الحق في التدخل في مختلف تفاصيل الحياة، وليتحدى ببسالة وإيثار منقطع النظر أجهزة قمعية خلقت صورة لنفسها بأنها جبارة لا تهزم، وبأنها لا تتورع عن ارتكاب كل أنواع القهر والإرهاب لتكريس شعور العجز في قلب كل مواطن وإشاعة إحساس باللاجدوى، وأيضا لتشكيك الإنسان بإنسانيته وبقدراته وبأنه لا مصير له سوى الاستسلام لما هو قائم كقدر لا فكاك منه!
إن كسر جدار الخوف يعني عودة الناس إلى السياسة وبناء الثقة بالنفس وبالمقدرة على تحمل تبعات المشاركة في الشأن العام، ويعني نقض محاولات أهل الحكم تسويغ تسلطهم واستبدادهم بعدم النضج السياسي في الأوساط الشعبية وأن ممارسة الحرية في ميادين الرأي والتعبير والنشاط السياسي تشتت الكلمة وتصدع الصف إن لم تكن رجسا من أعمال الشيطان، وينسحب هذا على حق التظاهر وحق الاجتماع والنقد والاحتجاج، وتصل الأمور إلى إحصاء أنفاس الناس والتحكم بكل شاردة وواردة في سلوكهم وحتى تلقينهم ما ينبغي أن يقال وما يجب ألا يقال، كل ذلك من أجل تعميق شعورهم بالوهن والعجز وتعزيز عوامل خنوعهم للقواعد القائمة على الأمر والنهي والطاعة.
لقد دأب أهل الحكم على تغذية الإحساس لدى المجتمع بأنه قاصر أو دون سن الرشد، عاجز عن اتخاذ القرارات السليمة ويحتاج إلى راع لمصالحه ينوب عنه في إدارة شؤونه العامة، مما أشاع وعيا زائفا يخلق لدى الإنسان شعورا ملازما بالقصور والدونية وبأنه عاجز أمام نخب حاكمة مسؤولة عنه وشخصيات كاريزمية يجب أن تبقى موضع رعب وتهيب كبيرين.
المطالبة بالحرية هي رفض للشروط والظروف التي تنمي الاستعداد لتقبل الخوف ودوره في شل إرادة الإنسان وتعزيز أسس الاستبداد بكل أشكاله المفزعة، هي رفض لإعادة تكوين المواطن كمواطن سلبي لا يفكر ولا يبادر تكبله سلاسل لا تنتهي من النواهي والمحرمات، هي تحرر من ثقافة الخوف التي تتفشى في البيت والشارع والمدارس والجامعات، ودور العبادة، والمؤسسات التجارية والإعلامية، وتاليا من هواجس وكوابيس راكمتها أجهزة القمع والعقاب في كل قلب ينبض، لتنتج يأسا وإحباطا واستسلاما ليس على مستوى الفرد بل على مستوى المجتمع ككل.
ثالثا: الحرية بما هي تحرر من كل أنواع الوصاية والاستئثار المعرفي ومن الأيديولوجيات والتصورات المسبقة عن العالم وطرق تغييره بصورة مخططة وإرادوية، فالحراك الشعبي السوري ضد الوضع القائم تجلى من اللحظات الأولى برفض المنظومة الفكرية والسياسية القديمة والتمسك برؤية جديدة أكثر انعتاقا، تحدوها المعرفة النسبية وضرورة إنزال الأفكار الشمولية من عليائها وغطرستها، ورفض مختلف الأطر الجاهزة والمقولات الحتمية المدعية الحقيقة المطلقة والصلاحية في كل مكان وزمان.
إن ثورة الحرية في سوريا هي رفض صريح لهذا النمط السائد الذي يسوغ لأهل الحكم الاستيلاء على السياسة والدولة والمؤسسات والتصرف بالاقتصاد وبثروات المجتمع، هي دحض لثقافة سلطوية تدعي أنها الأعرف بما يفيد الناس وما يضرهم وأنها الأدرى بالطرق الكفيلة بتوفير حاجاتهم الأساسية من غذاء وكساء وسكن وعمل وصحة وتعليم، لتسهيل مصادرة حقوقهم وشل هيئات المجتمع وتثبيت الاستيلاء على المرافق العامة والموارد، والاستحواذ على إدارة مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
لقد ابتلى مجتمعنا بمنطق خاص في الحياة فرضه مدعو الوصاية على الناس والأوطان، حيث لم تكتف النخب السياسية الحاكمة بجانب العنف المادي ومبدأ القوة والجبروت، في حفظ سلطتها وإعادة إنتاجها بل فرضت وصايتها على المعارف والأفكار والشعارات الوطنية، لتوفير قدر من التغطية لممارساتها القمعية، واعتبار أي مبادرة بخلاف ذلك خروجا عن الطاعة أو طعنا بالمقدسات الوطنية!
الحرية كل لا يتجزأ، ولا يمكن الفصل بين حرية الإنسان وحرية الوطن، وإذ اجترحت الانتفاضة السورية مطلبها في الحرية من رحم منظومة سياسية بالغة التعقيد تحكمها شعارات مواجهة المخططات الإمبريالية والصهيونية وتحرير الأرض المحتلة، فإنها نجحت بصدقية شعاراتها الوطنية وما قدمته من تضحيات في الرد على محاولات الطعن بمشروعيتها وعلى الدعايات التي تصور ما يجري على أنه أفعال متآمرين ومندسين يرتبطون بأجندة خارجية، غرضها النيل من الموقف السوري الممانع، ونجحت تاليا في تعرية نهج النخبة الحاكمة وكشف تمظهرها الخادع بالمظهر الوطني الحريص، وإن ما رفعته من شعارات وطنية لم يكن أكثر من سلاح ديماغوجي استخدم لتحقيق مآربها في حماية ما جنته من مكاسب ومغانم ولتعزيز أسباب سلطانها وضبط الأوضاع الداخلية أكثر مما استخدم في الخنادق وساحات القتال.
والأهم أن شعار الحرية استطاع التأكيد على وطنية الاحتجاجات وأنها عابرة للقوميات والأديان والطوائف والمذاهب، فإلى جانب ما نسمعه من هتافات تؤكد على الوحدة الوطنية وعلى روح التضامن حتى الموت بين المدن والمناطق المنكوبة كانت واضحة الشعارات ضد الطائفية ولإبراز وحدة هموم البشر وإيمانهم المشترك بالحق في مستقبل واعد دون تفرقة أو تمييز، ما ساعد على إفشال المحاولات المتكررة للخطاب الإعلامي الرسمي في التخويف من شبح الفتنة المذهبية والطائفية، والعزف على وترها، وتاليا ربط استمرار السلم والاستقرار ببقاء الأحوال على ما هي عليه، والتلميح بأن مطالب الحرية والديمقراطية تحمل في مضامينها مخاطر جمة من أهمها الفوضى وتفكيك الدولة ودفع البلاد إلى أتون حرب أهلية!
الحرية تعني أيضا التحرر من وصاية قوى المعارضة السياسية التقليدية، التي عانت الأمرين من ظلم السلطة، لكن سنوات الاستبداد الطويلة أورثتها حزمة من الأمراض أربكت دورها وحدت من فاعليتها، لتبدو اليوم كما لو أنها تركض لاهثة لتلحق بنبض الشارع، إذ نقف في اللحظة الراهنة أمام كتلة شبابية كبيرة تميل نحو التحرر من أي رؤى مسبقة أو إكراه حزبي، أو من أي إلزام بمعتقدات وبرامج محددة أو بقرارات موجبة التنفيذ دون نقد أو اعتراض، نقف أمام جيل جديد ولد في ظل شروط استثنائية فرضت على العمل السياسي، لكنه نجح في الالتفاف على قواعد الصراع التقليدية وخلق مساحة اجتماعية حرة للتواصل وللتعبير عن مشاكله ملتفا على أخطبوط القمع الرهيب، ومستفيدا من خبرات الشعوب التي عاشت ظروفا مشابهة وتمكنت من خلق أشكال متنوعة في رفض الواقع القائم والدفاع عن مصالحها وحقوقها، والأهم نجاحه في تكريس حضوره وقيادة الاحتجاجات بفعل حداثته وتحرره من العقليات والتقاليد القديمة وبفعل طابع المشكلات التي تشغل باله وهي مشكلات حيوية عامة تهم الجميع وتحتل القلب منها، قضية الحرية والحقوق الفردية، أكثر مما ترتبط بالأيديولوجيات الكبرى وشعارات الهوية العريضة دينية كانت أم قومية أم اشتراكية!
لقد أثبتت التجارب التاريخية أن أسباب الثورات وثمارها لا تقتصر على الوجه السياسي ومجرد إسقاط نظام الحكم القائم، لكنها تشمل التغيير في مختلف جوانب الحياة، ومن هذه الزاوية يصح القول إن الثورة بمضامينها الفكرية والأخلاقية قد تحققت في سوريا ونجحت في إنتاج قيم جديدة لدى الناس وفي إثارة مكامن الحرية والخير والعطاء والتضحية كما في إيقاظ ضمائرهم وإعادة بناء ثقتهم بأنفسهم، وتغذية شعورهم بالانتماء الإنساني والوطني.
لقد كان أخطر ما نعيشه هو الاستبداد ومصادرة الحريات، ليس فقط لما فيه من هدر لإمكانيات مادية وجهود لبناء أجهزة القمع والقهر، وإنما أساسا لأنه أفقد الإنسان دوره الفاعل والمبدع وفرض عليه أن يعيش يومه في حالة استنفار وهو محل اشتباه دائم في وظيفته ومهنته وإقامته، في سلوكه وسيرته، وفي آرائه ومواقفه!
الاستبداد صار في الوعي الجمعي شكلا بائسا ومكروها لضبط الحياة ولرسم العلاقة بين الناس وبينهم وبين مؤسسات الدولة، وحين يرفع شباب الانتفاضة شعار الحرية فلأنهم من معانيها ودلالاتها يستمدون العزم والإرادة لإحداث تغيير جذري والانتقال من ثقافة الإكراه والعنف والنبذ الاجتماعي والاستئثار السلطوي بكل شيء إلى ثقافة الحرية والحقوق والمساواة واحترام إنسانية الإنسان، والأهم لإعلان قطيعة نهائية مع عشرات السنين من الوصاية ومن منظومة الرهاب والخوف ومن الإفراط المرير في الإهانة والإذلال والاحتقار.
الجزيرة نت