معجزة سوريا
أحمد أبورتيمة
من بين الثورات العديدة التي تخوضها الشعوب العربية الحرة ضد أنظمتها الاستبدادية فإن لثورة الشعب السوري المجاهد ميزات خاصةً ترشحها لتكون ربما الثورة النموذجية في العالم العربي..
إذا قارنا بين الثورتين المصرية والسورية على اعتبار أن الأشياء تعرف بأضدادها أو بمقابلاتها فإن الثورة المصرية مع أنها ثورة رائعة وتاريخية إلا أنها لم تنطلق من نقطة الصفر بل كانت زيادةً كميةً في منسوب الاحتجاجات الشعبية التي كانت قد بدأت قبل سنوات، ولم يكن كسر حاجز الخوف من قبل الشعب المصري وليد هذه الثورة إنما كان كسره سابقاً لها، كما أن الثورة المصرية كانت مستندةً إلى شيء من هوامش الحرية والحياة النقابية والسياسية والمعارضة القوية ومؤسسات المجتمع المدني.
لكن الواقع في سوريا كان خالياً من أي من هذه العناصر، فالبلاد واقعة تحت حكم جبري شمولي قضى على كل صوت معارض، وقتل الحياة السياسية والنقابية والمدنية، وحكم الناس بقبضة حديدية لم تكن تسمح لهم حتى بالكلام، ولم يكن أحد يجرؤ على انتقاد النظام ولو همساً بعد أن زرع الرعب في كل شارع وبيت.
من هنا جاءت الثورة السورية مفاجئةً للجميع خاصةً العارفين بحجم الرعب المتمكن من نفوس الشعب السوري في ظل الحكم الجبري الحديدي، حتى بدا للناظرين أن أرض سوريا هي أرض موات قد أجدبت فيها الحياة وألف شعبها حياة الذل والصغار ومن بقي فيه شيء من حرية وكرامة خرج مهاجراً إلى المنفى. ولم يكن متصَوَّراً أن يأتي اليوم الذي يستطيع فيه جيل من الشباب ولد ونشأ في أجواء الخوف أن يكسر هذا الجدار المنيع الذي طالما أحكم النظام بناءه..لكن هذا ما كان فقد جاء وعد ربي وجعل جدار الخوف دكاءَ وانبعث صوت الحياة من بين أطلال الموت، وولدت إرادة الحرية من رحم العبودية، وتجلت الأسرار العميقة لسورة البقرة وما فيها من تكرار لقصص الحياة من بعد الموت، وعلمنا أن الله قادر على إحياء القرى وهي خاوية على عروشها وأن الحياة أقوى من الموت دائماً مهما طال الزمان وعم الخراب..
ما يحدث في سوريا هو بحق معجزة الحياة بعد الموت “إن الذي أحياها لمحيي الموتى”، وهو يؤكد بأن الحرية عميقة في فطرة الشعوب لا تقتلها سنوات الظلم والاضطهاد وأن كل ما صنعه الطغيان من أدوات لإرهاب الناس وقتل إرادة الحرية في نفوسهم إنما هو كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى، وأن إلقاء عصا موسى كفيل بأن يلقف كل هذه الحبال والعصي التي كان يخيل للناس طوال عقود مضت أنها تسعى وأنها تملك لهم الضر والنفع وتملك الموت والحياة والنشور..
من كان يرى شوارع سوريا حتى قبل أربعة أشهر من الآن لا يكاد يصدق ما تراه عيناه من مشهد مئات الألوف إن لم تكن الملايين المنبعثة من تحت الركام وهي تنزل إلى الشارع وتتحدى الرصاص والموت وتهتف بالحرية وسقوط الاستبداد..
ما الذي أخرج هؤلاء من بيوتهم وما الذي أحيا فيهم إرادة التحرر من بعد سنوات الاستعباد وكيف منحوا كل هذا القدر من الشجاعة حتى يتصدوا بصدورهم العارية لآلة القتل والتدمير دون أن ترهبهم أو تزرع الرعب في قلوبهم..
إن درس سوريا بالغ الدلالة بأن ما يبدو من صمت وسكون تضطر الشعوب إليه حين يشتد الظلم والظلام هو مظهر خادع يغتر به الظالمون فيظنون أنهم يحكمون شعوباً ميتةً لا حراك فيها، وأن الأيام قد صفت لهم إلى الأبد، لكن سنة الله تأخذهم بغتةً، ويتبين بأن ما كان يبدو سكوناً وموتاً ما هو إلا قشرة رقيقة تخفي وراءها مخزوناً عميقاً من عشق الحرية، وقوة الروح الكامنة المتربصة للانتفاض..
درس سوريا هو أن النفخة الإلهية عميقة في الإنسان لا تقتلها كل سنوات القهر والكبت والطغيان، وأن البشر لا يمكن أن يحكموا بالحديد والنار، ومهما طالت السنون فإنه لا بد أن يأتي اليوم الذي تتجلى فيه هذه النفخة فيتمرد الإنسان على قيود الاستعباد والاستبداد ويصرخ هاتفاً للحرية..
“والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”
ايلاف