معركة الحسم في سورية/ برهان غليون
تفجرت بمناسبة الربيع العربي جميع أزمات المنطقة، وتفتحت كل جروحها. وانكشفت جميع النزاعات التاريخية الدفينة، وظهرت، بمناسبتها، مختلف الاختلالات في التوازنات الدولية والإقليمية والوطنية والمحلية التي زعزعت، عقوداً طويلة، استقرارها. ولأسباب تاريخية وجيوسياسية وسياسية، ومذهبية أيضاً، التقت، في وقت واحد، جميع هذه المواجهات دفعة واحدة على الأرض السورية، ويكاد يصبح حسم الحرب في سورية مدخلاً لحسم جميع المعارك الدائرة في المشرق العربي، وغير العربي، منذ قرون وفي كل الميادين.
هكذا لم تعد المواجهة في سورية تعني الصراع على طبيعة السلطة وتغيير نظام الحكم بين شعب منتفض ونظام أكثر من جائر، وإنما حرب استراتيجية متعددة الأبعاد، محلية وأقوامية وسياسية ووطنية وإقليمية ودولية، تفتح فيها، وبمناسبتها، دفعة واحدة كل حسابات المنطقة المعلقة وحروبها. فهي، بشكل واضح، حرب إعادة ترتيب المعادلة الدولية، بعد التهميش القاسي لروسيا ما بعد السوفييتية، واستبعادها من أي حسابات دولية في منطقة جيوسياسية مركزية حساسة. وحرب تقويض التوازنات الإقليمية، مع انفجار ألغام ثلاثة، لا تزال منذ عقود من دون حل: المشكلة الإيرانية، مشكلة الحصار وتصدير الثورة وتعديل الخرائط الجيوسياسية وتأكيد الهيمنة الإقليمية. والمشكلة الإسرائيلية التي تمثل إخصاءً لأي مشروع دولة في المنطقة، وتقويضا لها من الداخل، مهما كان حجمها وتاريخها، بما يستدعيه “أمنها” وبقاؤها من فرض الأمر الواقع بالقوة، ورفض القانون، وإطاحة أي مفهوم للعدالة والحق والأخلاق الإنسانية في العلاقات الإقليمية. والمشكلة الكردية المشتعلة منذ بدايات القرن الماضي، تخبو فترة لتعود أكثر التهابا في فترة ثانية، وهي مشكلة شعب حرم من حق تقرير مصيره، بسبب تناقض السياسات الاستعمارية،
وتضارب المصالح الدولية والإقليمية. وهي، بالإضافة إلى ذلك، ثورة شعب جرد من حقوقه، وأخضع لعملية تنكيل وإذلال مستمر عقوداً، لإخضاعه على نظام لم يعتمد منذ ولادته، منذ ما يقارب نصف قرن، سياسة أخرى سوى تشتيته وتمزيقه، وتقويض أي أمل له في الحرية والاستقلال والازدهار. وحرب تصفية الحساب بين التيارات الإسلامية والتيارات العلمانية التي أجهضت قدرة الشعوب على مواجهة نظم القهر والاستبداد عقوداً أربعة ماضية، ولا تزال تحبط أي استراتيجية وطنية للتغيير. وهي معركة الأقليات والأغلبيات التي تعلو في الشرق الأوسط، منذ القرن التاسع عشر، والمسألة الشرقية. وأخيراً، معركة الصراعات الإسلامية التاريخية بين المذاهب السنية والشيعية.
وعلى حسم معركة إسقاط نظام الديكتاتورية والخيانة وانتصار مبادئ ثورة الحرية والكرامة، يتوقف اليوم حسم حروب عديدة تزعزع بعضها، منذ قرون، استقرار المنطقة، وتغذي صراعاتها، أو على الأقل وضع الإطار الملائم لحلها. ومن ينجح في ذلك سيشارك في وضع الأجندة التاريخية للمنطقة في الحقبة المقبلة.
هذا التقاطع على الأرض السورية، وبمناسبة ثورة شعبها، بين حروب عديدة ومتعددة الأغراض والرهانات، هو الذي يفسر ما شهدته، وما ستشهده، هذه الحرب، أو الحروب المتداخلة على مثال “العروسة الروسية”، من ضراوة ودمار ووحشية غير مسبوقة في تاريخ الصراعات السياسية في العصر الحديث، وهو ما يفسر أيضاً، تعقدها وطول أجلها وانعدام القدرة منذ أكثر من أربع سنوات على الحسم، أو التقدم ولو خطوات قليلة، نحو الخروج بحل أو بتسوية.
“معركة السوريين للتحرر والاستقلال لن تكون سهلة، لكن تحقيق السلام والاستقرار في المشرق لا يبدأ إلا بربح معركة السلام والاستقرار في سورية”
مثل هذا الموقع المتميز والمركزي الذي احتلته سورية، ما بعد الحرب العالمية الثانية، في ترتيب التوازنات الجيوسياسية والاستراتيجية والمذهبية والدينية والقومية والوطنية، كان من المفروض أن يحمي البلاد، ويشجع جميع الأطراف، الداخلية والخارجية، على التفاهم والبحث عن تسويات ولو مؤقتة، وتجنب الدخول في الحرب بأي ثمن، لكنّ طرفين همجيين، بالمعنى الموضوعي للكلمة، أي لا يقيمان أي وزن للمصالح الوطنية وللتقاليد السياسية والأعراف الدولية التي لا تعيش من دونها الأوطان، ولا تستقر حياة دولية أو إقليمية، حالا دون ذلك. أولهما نظام الفاشية الأسدية، والثاني النظام الثيوقراطي الإيراني الذي قرر، بعد مقاطعة الغرب له، وفشل مشروع تصدير الثورة الخمينية، أن يكون المعول لتدمير كل المنظومة الإقليمية وتفجير توازناتها وزعزعة استقرارها، لفرض نفسه واستعادة هيبته، ومد نفوذه وهيمنته. دخل الطرفان المأزومان والمحاصران: الأول من شعبه، والثاني من المنظومة الدولية، في منطق انتحاري بكل معنى الكلمة، وقررا خوض معركة الفوز بالسيطرة على المشرق كله، على مبدأ إما قاتلا أو مقتولاً، ولم يتركا ولو مقدار شعرة واحدة للحوار أو النقاش. وفي هذا السياق، ينبغي أن نفهم مع
نى خسارة سورية أو التخلي عن دمشق، وقررا القتال حتى النفس الأخير وتدمير المنطقة كلها أو الظفر بالسيطرة الكاملة عليها. هكذا صار من السهل على الأسد أن يهدد بحرق البلد، ويحرقها بالفعل، وأن ييتم أطفالها، ويشرد أبناءها ويحرمهم من وطنهم، ويرمي بهم على دروب النزوح والهجرة. كما صار بإمكان متعصبي وانتقاميي طهران الإفصاح، من دون خوف، على لسان مستشار مرشد الجمهورية، أي على لسان المرشد نفسه، أن طهران استعادت صورتها الإمبراطورية التاريخية، وأن بغداد هي التي أصبحت عاصمتها الأبدية. هكذا، دخلنا في منطق جنون النصر والسيطرة وحرب الدمار الشامل، وانعدمت كل آمال التعايش، أو التوصل إلى سلام.
كانت طهران على حق في الاعتقاد أن من يسيطر على سورية، في هذا الوقت، يفتح لنفسه كل الأبواب، ويربح كل الحروب ويحسم لحسابه النزاعات القديمة والجديدة، لكنها أخطأت عندما اعتقدت أن الأطراف الأخرى، وأولها أصحاب البلاد أنفسهم، أي الشعب السوري، سوف يقبل بالتخلي عن سيادته، ويذعن لقرار تسليم بلده للأجنبي، لأي سبب كان. والآن، وضعت طهران نفسها في موقع يجعل من غير الممكن حسم الحرب من دون خروج إيران من المنطقة كلها، وإعادة بناء التوازنات من دونها وعلى حسابها.
كان منطق السياسة والاستراتيجية والعقل يقضي، بسبب خطورة الموقع الذي تحتله سورية في استقرار هذه التوازنات الجيوسياسية والدينية والمذهبية والقومية الحساسة والمعقدة، بضرورة العمل بسرعة على تجنب تفجير الأوضاع وإلهاب المشاعر والسقوط في ما سماه بشار الأسد نفسه بالفالق الذي تقف عليه سورية. لكنه كان هو نفسه السباق لدفعها إليه، بل إنه اعتبر أن التهديد بدفعه لها إلى السقوط والدمار سيكون سلاحه الأمضى لردع الشعب، وإجباره على الاستسلام نصف قرن آخر لحكم الطغيان.
وجاءت سياسة المقامرة بوجود سورية من قبل الأسد وطغمته برداً وسلاماً على حكم مهووسي العظمة والنصر وأبطال الحرس الثوري في طهران الذين وجدوا فيها الفرصة المناسبة لزحلقة كل الأطراف الأخرى وإخراجها من المعادلات الإقليمية. حتى إن طهران لم تكتف بإعلان مشروعها بإعادة بناء الإمبراطورية على أكتاف السوريين فحسب، لكنها حلمت بأن تتحول، من خلال سيطرتها على المشرق، بجد إلى قوة عالمية كبرى، وتصبح ندا للولايات المتحدة وروسيا وغيرهما، ولن تقبل بالتفاوض على مصير جيرانها إلا مع هذه الدول الكبرى. هي سيد المشرق ودولته الوحيدة المعتبرة، وعلى واشنطن أن تتفاوض معها وحدها على مصير دوله وشعوبه ومستقبلهما.
دخلت إيران، أيضاً، في مغامرة السيطرة الكلية، تماما كما فعل نظام النازية الهتلرية منذ ما يقارب قرناً، وسوف تخسرها. فسورية ليست أرضا من دون شعب، بل أثبتت أنها أرض البطولة والفداء والشهادة من دون منازع، ولا نظير، وأن أحدا لا يستطيع أن يستفرد بها ويحولها إلى أداة لخدمة مصالحه القومية على حساب مصالح القوى والأطراف الأخرى. لكن، ما حصل أن إيران الخامنئية قررت أن في وسعها، أو لديها، القوة، لتلوي ذراع كل الأطراف الأخرى، وتطهر سورية من شعبها، وتبسط سيطرتها عليها، بل تنجح في إلحاقها بها. وها هي تواجه، وسوف تواجه أكثر، العواصف التي فتحت هي نفسها أبوابها على مصراعيها.
لم تدمر طهران وطن السوريين وتقضي على مستقبل أجيال عديدة منهم فحسب، لكنها دمرت معه البيئة الإقليمية برمتها، ودفعت للهجرة والنزوح عن أوطانها وبيوتها جماعات كاملة وشردتها. لكنها لم تحصد ولن تحصد سوى الخيبة ومشاعر الحقد والكراهية التي ولدت من حروبها، وتغذت من ممارساتها اللاإنسانية، ومن تسعيرها الأحقاد والنزاعات الطائفية والمذهبية. معركة السوريين للتحرر والاستقلال لن تكون سهلة، لكن تحقيق السلام والاستقرار في المشرق لا يبدأ إلا بربح معركة السلام والاستقرار في سورية.
العربي الجديد