معركة سورية: مؤشرات تنذر بحرب طويلة.. مريرة.. وواسعة
د. بشير موسى نافع
اليوم، تكون الثورة السورية قد أنهت 27 شهراً من الدم والدمار والشجاعة والصبر. خرج السوريون، كما خرج أشقاؤهم في تونس ومصر واليمن وليبيا، إلى شوارع مدنهم، مطالبين بالحرية والكرامة ونهاية حكم الاستبداد والقمع الأمني، وخرجوا في حركة شعبية سلمية يحسدون عليها. خلال هذا الزمن المديد، ولأن النظام اختار منذ اليوم الأول مواجهة شعبه بوحشية فاشية، انتقلت الثورة، تدريجياً وبتلقائية الرد على الموت وانتهاك الكرامة والحرمات، إلى حمل السلاح. مثلت الثورة في سورية في البداية، وكما الثورة في مصر وتونس، تجلياً لأزمة نظام حكم غير قابل للإصلاح ولا الاستماع لمطالب الشعب وإدراك حقائق المتغيرات الكبرى في المناخ العربي السياسي والاجتماعي. ولكن أزمة الداخل السوري انتقلت منذ العام الثاني للثورة إلى أزمة إقليمية، ومن ثم إلى أزمة دولية. هذه بعض المؤشرات على أن المعركة في سورية وعليها توشك أن تتحول إلى حرب أكثر مرارة وقسوة وألماً مما شهدته سورية خلال الـ 27 شهراً الماضية، وهو الكثير، وأوسع نطاقاً من الحدود السورية.
أولاً: بنيت حسابات التدخلات الإقليمية والدولية في مرحلتها الأولى، على أن النظام قادر على حسم المواجهة مع شعبه بسهولة وخلال زمن قصير، أو على أن ثورة الشعب قادرة على إطاحة النظام خلال شهور، بعد أن انتشرت فعاليات الثورة في كافة أنحاء سورية تقريباً. لا إيران وروسيا، من جهة، ولا تركيا وقطر والسعودية، من جهة أخرى، تصورت أن تطول الأزمة السورية كل هذا الزمن، ولا أن تنتقل إلى مستوى التعقيد الذي أصبحت عليه. ثمة حدود لدرجة القمع الذي يمكن أن يتعهده نظام دولة حديثة في مواجهة شعبه، حتى عندما يقرر مواجهة الشعب بالحديد والنار. ولكن النظام السوري ذهب، كما هو واضح، إلى مواجهة بلا حدود ولا سقف، ومهما كان حجم الخسائر في صفوف الشعب وفي صفوف قواته وفي مدن بلاده وبلداته؛ وبغض النظر عما يمكن أن يعنيه مثل هذا القمع والدمار الهمجيين لأسس شرعيته. من جهة أخرى، ولأن قلة كانوا يعرفون حقيقة بنية النظام وبنية أجهزته وجيشه، تبين أن حسابات الانشقاقات في صفوف الجيش لم تتحقق، نظراً لفعالية العصبية الطائفية، التي حافظت على التماسك النسبي لطبقة ضباط الجيش.
من جهة، أصبح واضحاً أن المسألة السورية ستطول إلى زمن أبعد بكثير من تقديرات كافة الاطراف المبكرة، وغرقت مؤسسات حكم ودولة، وشخصيات وقيادات سورية في الجريمة ضد الشعب بصورة غير مسبوقة. ومن جهة أخرى، تعمق تدخل الأطراف الإقليمية والدولية، وأصبح من الصعب عليها التراجع عن مواقفها. بذلك، لم تعد سورية، من وجهة نظر أطراف الأزمة، مجرد أزمة حكم وسياسة، بل مسألة مصير.
ثانياً، لعبت الإمدادات الخارجية لكلا الطرفين دوراً رئيسياً في إطالة أمد هذه المعركة وإضفاء مزيد من التعقيد على الوضع السوري، بالرغم من التفاوت الكبير في مقدرات طرفي المعركة. قدمت إيران، وقدم حزب الله، وقدمت روسيا، إمدادات تسليحية للنظام، وحافظت على مخزونه من الذخيرة، ووفرت مساعدات مالية وتقنية وأمنية، ومظلة سياسية إقليمية ودولية، منذ الشهور الأولى للثورة. وفي المقابل، ترددت تركيا والدول العربية المتعاطفة مع الشعب والثورة في تقديم العون المالي والتسليحي الضروري، ولم تبدأ بتوفير دعم جزئي إلا في ربيع 2012، بعد أن حسمت موقفها من مسألة بقاء النظام واستمراره. ولكن، وبالرغم من محدودية المساعدات التي تقدم لقوى المعارضة والثوار السوريين، لعب هذا الدعم دوراً هاماً في المحافظة على جذوة الأمل لدى الشعب والثوار. باستمرار المعركة، لم يعد جيش النظام قادراً على القتال في جبهات الحرب المتعددة بأي قدر من الكفاءة. ومنذ بداية هذا العام، أصبحت مهمة قوات الجيش محصورة في الدفاع عن مئات المواقع والمعسكرات المتواجد فيها عبر البلاد، وأضحت بالتالي أكثر عرضة لخسارة هذه المواقع كلما واجه هجمات ملموسة من الثوار.
درجة الإنهاك العالية لقوات الجيش وعجزها المتكرر عن الحفاظ على مواقعها، سيما في المحافظات غير المركزية، دفعت النظام وحلفاءه إلى زج قوات حزب الله في قلب المعركة. ما بدأ بتدخل غير مباشر، أو تدخلات محدودة في حي السيدة زينب وبعض القرى الشيعية الحدودية، تحول إلى انخراط واسع النطاق، وبأعداد كبيرة، نسبياً، في حرب النظام على شعبه، كما شهدت منطقة القصير، وريف دمشق، وبعض مناطق محافظة حلب. المشكلة في تدخل حزب الله، والدعم الإيراني غير المحدود، والعراقي الخفي والظاهر، على السواء، أنه أخذ طابعاً طائفياً. حاولت إيران وحاول حزب الله، بالطبع، ولم يزالوا، دحض الاتهامات الطائفية، وتوجيه الاتهامات لأميركا والعدو الصهيوني والتكفيريين، وغيرهم. ولكن الشواهد لا تشير إلى أن خطاب إيران والحزب نجح في إقناع كثيرين.؛ بل يبدو أن لا إيران ولا الحزب بات حريصاً على الإقناع. عندما تشارك قوات حزب الله في الهجوم على القصير بهذه الصورة الدموية والسافرة، ولأسباب واهية إلى حد كبير، وعندما تتواتر تقارير تجنيد الشبان الشيعة في العراق والخليج وباكستان وأفغانستان؛ وعندما تخاض المعارك وتنظم الاحتفالات تحت شعارات طائفية صارخة، يصعب بالفعل دحض الاتهامات بالطائفية. منذ أخذت الثورة السورية في التحول إلى ثورة مسلحة في نهايات 2011 وبداية 2012، برزت عناصر عربية وسورية التحقت بصفوف الثورة لأسباب طائفية. ولكن هؤلاء كانوا، ولم يزالوا، على هامش الثورة وخارج دائرة القرار؛ هؤلاء ليسوا قادة تركيا أو قطر أو مرسي أو الإخوان المسلمين، هؤلاء، بكلمة أخرى، عامة القوم، لا سراتهم. أما في الجانب الآخر، فاتهامات اتباع مقاربة طائفية تطال قيادة دولة رئيسية في المنطقة، وقيادة حزب كان إلى زمن قريب محل التفاف عربي شعبي، سني وشيعي، على السواء.
ولأن سورية هي سورية، وأن حدثها يتردد صداه في الجوار كله، فإن شرر النار الطائفية في حمص وحلب وحماة وريف دمشق يوشك أن يطال لبنان والعراق، وربما دول الخليج أيضاً. في كل من لبنان والعراق، ثمة نار طائفية تحت الرماد، وانقسام سياسي حول الموقف من سورية يكاد يتطابق مع الانقسام الطائفي. وهنا يكمن خطر كبير.
ثالثاً، ونظراً لأن تفاقم الوضع السوري لم يجد صدى سريعاً وملموساً في عواصم القرار الدولي، شهدت الأزمة السورية خلال العامين الماضيين محاولتين إقليميتين رئيسيتين للتوصل إلى حل، تمثلت الأولى في سلسلة من اللقاءات التركية الإيرانية خلال 2011 2012، ثم المبادرة المصرية في أغسطس/ آب 2012، التي عرفت بمبادرة اللقاء الرباعي. ولكن كلا المحاولتين أخفقت، حتى الآن، ليس في التوصل إلى الحل المنشود وحسب، بل وفي وضع حد لمعاناة الشعب السوري كذلك. وهذا ما جعل كثيرين يعلقون آمالاً ما على فكرة جنيف الثانية، التي ولدت من توافق أميركي روسي جزئي في الشهر الماضي. ولكن الواضح أن التوافق على الفكرة لم يصاحبه توافق، لا على تفاصيل الحل ولا على خطوطه العامة، لا على الإطار الإجرائي للمؤتمر ولا الأطراف المفترض أن تشارك في أعماله، ولا على توقيت عقده ولا مداه الزمني. ثمة خلاف على المشاركة الإيرانية، وخلاف آخر حول الدور الأوروبي؛ خلاف محتدم على دور الأسد في المرحلة الانتقالية، وخلاف لا يقل احتداماً حول ما يعنيه وفد نظام دمشق ووفد قوى المعارضة. ليس من المؤكد بعد أن المؤتمر سيعقد، وإن عقد، فليس من المؤكد أنه سيصل إلى اتفاق، وإن وصل إلى اتفاق، فليس من المؤكد أن باستطاعة أحد فرض هذا الاتفاق.
كان المفترض أن يعقد المؤتمر في 20 حزيران/يونيو، ويبدو الآن أن هناك اتفاقاً على استحالة انعقاده في هذا التاريخ، وأن الأفضل تأجيله إلى الشهر المقبل، يوليو/ تموز. ولكن حتى هذا لا يبدو متيقناً. ولأن كافة الأطراف أخذت في تعليق آمال ما على المؤتمر، فقد بدأ النظام وحلفاؤه الإقليميون هجمات عسكرية وحشية في أكثر من جبهة قتال في محاولة لتغيير خارطة القوى على الأرض. وبدأت، من جهة أخرى، اتصالات حثيثة بين الدول العربية وغير العربية المؤيدة للثورة لتعزيز المقدرات العسكرية للثوار، ومساعدتهم على الحفاظ على مواقعهم أو إحراز بعض التقدم. بكلمة أخرى، وبدلاً من أن تعمل روسيا والولايات المتحدة على تطبيق المواد الأولى من اتفاق جنيف 1، القاضي بوقف لإطلاق النار، أصبح الاتفاق على عقد جنيف 2 دافعاً لتصعيد غير مسبوق في القتال والعنف ومعاناة الشعب السوري.
ما الذي يعنيه هذا كله، في النهاية؟ كان لجوء النظام إلى مواجهة الشعب بوسائل القمع والعنف المسلح، والدعم السياسي والعسكري الذي تلقاه النظام من حلفائه الإقليميين والدوليين، السبب الرئيسي في إطالة أمد الأزمة في سورية وتحولها إلى ما يشبه الحرب الأهلية. سورية هي الآن أطول حلقات حركة الثورة العربية وامتحانها الأكبر. ولكن ازدحام القوى المتدخلة في الساحة السورية، والتعددية الفائقة في جسم المعارضة السورية المسلحة، واكتساب المعركة بعداً طائفياً، يجعل الحلقة السورية أكثر تعقيداً وأطول زمناً. وهذا، ربما، ما يبدو أن الأطراف المختلفة للصراع وطنت نفسها عليه. ولكن ما لا يبدو أنه أخذ في الحسبان أن تعقيدات الأزمة وزمنها المديد قد يؤدي في النهاية إلى انفجارها في مناطق قلق ورمال سياسية متحركة مجاورة، سيما العراق ولبنان. اعتبرت سورية، منذ ولادة النظام الإقليمي بعد الحرب العالمية الأولى، مفتاحاً رئيسياً للمشرق العربي الإسلامي. والخشية اليوم، أن تعيد سورية توكيد سمتها الجيو سياسية الأصيلة، وتشعل المشرق كله، من البصرة إلى بيروت.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي