مفاجأة زمن العرب الجديد!
ميشيل كيلو
لو انك سألت أي رجل سلطة عربي قبل عام عن الأوضاع في بلاده، لأكد أنها على خير ما يرام، فالشعب نائم أو غافل عن ما يجري حوله وله، وشبه ميت، وأجهزة الأمن في كل مكان، وليس بوسع ذبابة أن تطير في الشارع أو غراب أن ينعق على غصن جاف دون إذن منه، وإلا هلكا.
ولو سألته عن أحوال الشعب، لأدار نظره في قصره المنيف وأجابك: أحواله جيدة، ألا ترى ذلك بأم عينك؟ الناس بخير، وهم أحرار وسعداء ولا يطلبون شيئا غير البقاء طوع بناني وتحت إمرتي. كأنني سمعتك تقول الشعب، أو كأنني سمعت هذه الكلمة من قبل، قبل زمن بعيد، فهل أنت من الذين يؤمنون أنه ما زال هناك شعب، وأن له إرادة وحقوقا، وأن على حاكمه، الذي هو سيده ومولاه، تلبية مطالبه والاستجابة لنوازعه وتقلبات مزاجه؟ أنا، ليس لدي في بلادي شيء اسمه الشعب، وبالتالي لا أعرف أية إرادة مستقلة أو منفصلة عن إرادتي، خاصة كانت أم عامة.
بسؤاله عن أحوال نظامه، كان رجل السلطة إياه سيجيبك: هو رقم صعب وقوة قاهرة تستطيع تطويع إرادة الكبار ولي ذراعهم، فلا خوف عليها من أحد، والخوف كل الخوف منها على من يعاديها أو يتحداها أو يخرج عن خطها أو يهدد ولو من بعيد مصالحها.
أخيرا، إن أنت سألته عن حقوق الإنسان لأبلغك أن حقوقه في نظامه كاملة غير منقوصة، وأنه يعيش في كنف أعظم قانون هو إرادة سيده الخيّرة، وأنه يستطيع هو نفسه، كإنسان أعلى، أن يفعل ما يشاء دون أن يقيد حريته أي قيد أو يكون مجبرا على مراعاة أي شيء.
هذا الحوار الكاريكاتيري لا أعتقد أنه كان يمكن أن يحدث بحرفيته في أي مكان، لكنني أؤمن اشد الإيمان أنه كان يمكن أن يكون على لسان كل حاكم عربي: من المحيط إلى الخليج، وأن الأجوبة المفترضة فيه كانت ستسمع بالتأكيد، وإن بصيغة غير حرفية ربما، لو قيض لأحد أن يحاور الحكام العرب بصراحة حول الموضوعات التي سبق ذكرها. ومن يراجع أحاديث صحافية رسمية سيجده مذكورا بالتأكيد، لأن الحاكم العربي كان وما زال يعتقد بالفعل أن أتباعه بخير وسعداء، وأن نظامه قوي وأجهزة أمنه حرة، وفقراء بلاده يعيشون في سبات ونبات ويخلفون صبيانا وبنات، كما يقول إخوتنا في أرض الكنانة حين يسخرون من ظروف حياتهم أو يتمنون السعادة لأحد !.
هذه الصورة الرسمية، التي كنا نظن إلى ما قبل أشهر قليلة أنها تنطبق على حالنا نحن بنات وأبناء شعوبنا، التي بدت وكأنها دخلت بالقول والفعل في نوم شتوي طويل، تبين أنها خاطئة من ألفها إلى يائها، فالشعب الخانع كان على ما بينت الأحداث يترصد حركات وسكنات حكامه بروح ناقمة واعية وصلت خلال الأحداث الأخيرة إلى حد الاستهانة بالموت، الفردي والجماعي، إن كان الموت يحرره من طغاته. تلك كانت، في رأيي، أعظم وأهم مفاجآت زمن العرب الجديد.
لقد فاجأ الشعب قتلته وطغاته بأنه موجود ولى طريقته الخاصة، وكان هؤلاء يعتقدون أنه اختفى أو انقرض أو زال من الوجود، وأنهم يستطيعون تجاهله تماما أو معاملته كجثة هامدة، أو كتلة غائمة لا روح فيها ولا إرادة لها، بشهادة تقارير أجهزة مخابراتهم، التي تنقل إليهم لحظة بلحظة تفاصيل وافية تؤكد صحة ما يقولونه، وهو أن الشعب مات وشبع موتا، وأن حقبة الاستبداد العربي الرابض على قلب المواطنين حققت هذا الإنجاز، الذي يعتبر فريدا في تاريخ العالم، حيث لم يسبق لغير نظمنا أن شطبت الشعب إلى هذا الحد من خانة الموجودات الحية، وكانت العادة في كل مكان أن يشطب الشعب حكامه، فانعكست الآية عندنا وتحققت معجزة زوال الشعب وبقاء سلاطينه وحدهم باعتبارهم حكاما وشعبا في آن معا.
بينت الأحداث أن الشعب بقي ما كان عليه دوما: روح التاريخ والواقع وقاطرتهما ومحركهما، وأكدت أن قوته ما زالت عاتية ولا تقاوم، وأنه يختزن طاقات وقدرات لم تزدها المظالم إلا تبلورا ورهافة وتكورا على الذات، وأنها بدل أن تقتلها شحنتها بغضب لا يشبهه شيء غير غضب الطبيعة العاصف المدمر، الذي يقوض الجبال ويهد الأسوار ويأخذ كل شيء في طريقه، حتى أنه لتصدق فيه كلمات شاعر اليمن العظيم عبد الله البردوني، حين يقول في قصيدة تنتقد انقلابا عسكريا تجلبب برداء الشعب:
لا يركب الشعب إلى فجره
دبابة لا يمتطي قاذفة الشعب
يأتي عاصفا هادرا وجارفا كالموجة الجارفة
أخرج الشعب المظلوم المكلوم طاقاته الروحية الهائلة، التي تبين أنها لم تستهلك كما توهم الحكام، وإنما كانت تصقل وتتراكم وترتقي إلى مستوى التحديات الخارقة التي تعرض لها في وجوده وحريته وكرامته، وبدأ يرد عليها بقوة خارقة لا تقف في وجهها أي شيء، وواظب على تمرده حتى عندما أخذت دماؤه تتدفق من جميع مسامات روحه، وواصل سيره نحو الحرية مرفوع الرأس ثابت الجنان، بينما دموع الألم تنسكب من عينيه وابتسامة الحرية على شفتيه، لأنه يرى خلاصه في نهاية طريق الجلجلة الذي قرر السير عليه: طريق الموت والعذاب.
هذه المفاجأة هي أعظم ما نعيشه في حاضرنا وستعيشه الأجيال الجديدة في مستقبلها، وهي العامل الذي سيغير كل شيء من الآن فصاعدا، لأنه سيجعل من المحال استمرار الاستبداد أو الرضوخ له، وسيغير العلاقات بين فوق وتحت، لصالح من هم تحت هذه المرة، سواء بقي هذا الحاكم أو ذاك في كرسيه أو لم يبق. كما أنه هو الذي يضع منذ الآن حدا لعصر اشتط وتمادى وظلم وبطش، تعملقت رموزه إلى أن تألهت، لكنه يعيدها اليوم إلى حجمها الحقيقي، ويفضح أمرها ويثبت بدمائه أن من كان يقال إنهم عباقرة الزمن العربي الرسمي لم يكونوا غير تافهين قساة وجهلة، وأن العمالقة ليسوا في الحقيقة غير أقزام نفختهم إلى درجة الانفجار آلة دعائية تخصصت في الكذب ولم تعد تتقن شيئا سواه، وأن الزمن الجديد لن يكنس هؤلاء عن وجه السياسة ومن عالمها فقط، وإنما سيحول دون ظهور من يماثلهم في الغباء والغرور والإجرام، لأنه سيكون عصر حرية وشعوب وإرادات جامعة، عصرا يكون الإنسان فيه موضوع السياسة الوحيد، ومنطلقها وغايتها، ولن يكون لها بالتالي أي هدف أسمى من تنمية حريته وترقية وجوده.
كشفت عودة الشعب إلى التاريخ حقائق الواقع العربي وهويته، فإذا بنا أمام حكام هم مجرد لصوص وكذابين ومجرمين، وإلا كيف نفسر واقعة أنه لم يوجد رسمي مصري أو تونسي واحد لم يسرق المال العام، ويمارس الكذب، ويرتكب الجرائم؟ ومن أين حصل هؤلاء على الثروات التي يملكها كل واحد منهم، لو لم يهبوا الغاز بأسعار بخسة إلى العدو الإسرائيلي ويبيعوا أرض الهرم وتوشكا وساحل مرسي مطروح؟
ومن يستطيع الدفاع عن رئيس وصل إلى السلطة ضابطا عاديا وخرج منها بمليارات الدولارات، في حين تحول أبناؤه وأقرباؤه إلى أصحاب ملايين، مع أن أيا منهم لم يمارس أي عمل غير استغلال النفوذ وابتزاز الشعب؟ ثم تجد من يعيب على الثورة خير ما فيها: حلف المتعلم مع الفقير، صاحب العقل مع طالب العدالة، فكأن التاريخ الحديث لم يصنعه هذا الحلف، أو كأن من انخرطوا فيه لم يكونوا هم من صنع الحرية: أفضل ثروة تملكها البشرية اليوم روحيا وماديا !.
لا حاجة إلى القول: إن وجه المفاجأة الآخر هو أنه سيكون من الصعب بعد اليوم شطب الشعب من معادلات السياسة والشأن العام، وأن من سيقوم بمحاولة كهذه سيلاقي مصير من يلقى بهم اليوم إلى مزبلة التاريخ من مستبدي العرب.
لا حاجة إلى القول أيضا: إن مفاجأة الشعب ليست مجرد حدث، بل هي بداية تاريخ ستحمله بنية إنسانية وعقلية مغايرة لكل ما عرفناه خلال عصرنا الظالم الحالي، لذلك، لن تقتصر على الإطاحة بأشخاص، وإنما ستطيح أيضا بزمن وعقلية ورؤية للعالم، لتفتح أمامنا أبواب مستقبل سيكون من صنعنا، سنجعله، كمجتمعات وكأفراد، لنا ولمن سيخلفنا من أجيال قد لا تصدق ما سيروى لها حول فظاعة ما كنا فيه، لكنها ستعيش وسط شعب حر، اجترع مفاجأة معجزة، عندما خرج من رماده واندفع طالبا الحياة: له ولجميع بني الإنسان!
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي