مقالات تناولت الموقف الروسي من الثورة السورية
خيارات أميركية محدودة لمواجهة “الهلال الروسي”/جورج سمعان
أعلنت الإدارة الأميركية أنها تدرس خيارات جديدة لممارسة مزيد من الضغوط على الرئيس بشار الأسد. اعترفت صراحة بفشل استراتيجيتها السابقة. لكنها «تبشر» بأن جديدها هو احتواء ما هو سيئ وتفادي السيناريوات الكارثية مثل تفكك سورية أو سيطرة «القاعدة» على جزء «محوري» من البلاد! وهي نتيجة طبيعية لتأخرها وعدم مبادرتها في الوقت المناسب. ولن ينفعها تذكير روسيا باتفاقهما على إقامة «هيئة الحكم الانتقالية». اعتمدت عليها طويلاً لتسليمها بأن المفتاح بيدها. راهنت على استنزافها وإيران معاً في الساحة السورية، ومعهما قوى التطرف الإسلامي. لكن ما حصل أن هذه المواجهة المذهبية باتت تهدد المنطقة بأكملها، خصوصاً لبنان والعراق الذي كان أساس تسعير هذا الصراع بإسقاط إدارة الرئيس جورج بوش نظام صدام حسين، وتفكيكها كل مفاصل الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية، وفتحها الطريق أمام تولي الأحزاب والقوى الشيعية السلطة بعد إقصائها عقوداً… وهو ما أتاح تعاظم دور إيران وتعزيز حضورها قوة إقليمية كبرى. ولا شك في أن أي تدخل عسكري أميركي في سورية سيصب مزيداً من الزيت على نار الصراع المذهبي في المنطقة كلها.
الخيارات محدودة أمام الرئيس باراك أوباما. وليس بينها بالطبع العمل العسكري… إلا إذا كان سينقلب على جوهر السياسة التي اتبعها منذ دخوله البيت الأبيض وعنوانها الانسحاب من الحروب بعد الخروج من العراق والاستعداد للانسحاب من أفغانستان. سلم مقاليد الحلول والتسويات إلى قوى إقليمية كبرى، أو أشركها في هذه الحلول. وفتح الباب أمام قوى صعّدت لهجة التحدي، كما فعلت روسيا التي سلم لها بالدور الكبير، متجاهلاً أصوات كثيرين من مجموعة «أصدقاء سورية»، أوروبيين وعرباً. الخيارات محدودة إذا كان عليه أن يختار بين السيئ والأسوأ! لكنها متاحة إذا قرر رفع التحديات في المنطقة كلها.
آثر الرئيس أوباما الانكفاء والانسحاب. هذا ما فعله سلفه بوش الابن عندما قرر في بداية ولايته الأولى الانعزال والانصراف إلى الداخل، لكنه وجد نفسه فجأة منساقاً وراء حروب لم تتوقف تداعياتها إلى اليوم، بعد «غزوتي نيويورك وواشنطن». وهو اتبع سياسة الانكفاء فترك للآخرين فرصة الاندفاع. هكذا، تقدمت إيران في الشرق الأوسط. وهذه روسيا تمسك بسورية، وكانت ردت على «الثورة البرتقالية» في أوكرانيا وقبلها في جورجيا. وهذا ما فعلته فرنسا التي عانت طويلاً من تداعي مصالحها في أفريقيا أمام الاندفاع الأميركي سابقاً و «الهجوم» الاقتصادي الصيني على القارة السمراء. فلم تتأخر في التحرك نحو ليبيا لإزاحة معمر القذافي وضمان حضورها في هذا البلد. كما لم تتأخر في الاندفاع نحو مالي ثم أفريقيا الوسطى، دفاعاً عن مصالح قديمة جديدة. وكانت أبدت استعدادها وحدها، من دون سائر شركائها الأوروبيين، لمشاركة القوات الأميركية توجيه ضربات إلى النظام السوري بعد استخدامه السلاح الكيماوي في غوطة دمشق الخريف الماضي.
بات واضحاً أن الخلاف بين الوفدين السوريين في جنيف على جدول أعمال المفاوضات هو انعكاس للخلاف بين الراعيين الكبيرين، الولايات المتحدة وروسيا على هذا الجدول. لم تكن واشنطن في حاجة إلى تجربة لتكتشف أن النظام في دمشق يماطل. لم يقاطع المؤتمر الدولي في جنيف، لكنه لم يقدم ولن يقدم شيئاً. ما يريده هو شراء مزيد من الوقت. رضخ لسيف القوة وسلم بتدمير سلاحه الكيماوي. لكنه حول الجدول الزمني لتسليمه وتدميره ورقة بيده لعلها تمده بالبقاء. تخلى عن 11 في المئة من ترسانته حتى اليوم. وقد لا يكفي الرئيس أوباما تحميل موسكو المسؤولية عن ضمان التزام دمشق الاتفاق الذي يجبرها بتسليم أسلحتها النووية. فهل يستعيد هذه الورقة من الرئيس بشار الأسد ويعود إلى التلويح باستخدام القوة بعدما وضع الأزمة السورية في قمة أولويات الأمن القومي الأميركي؟
كانت الإدارة الأميركية تراهن على استنزاف روسيا وإيران في أزمة سورية، بل تلاقت مصلحة الأطراف الثلاثة على وجوب مواجهة قوى التشدد والتطرف التي تدفقت إلى هذا البلد، وهو ما كبل أيدي بعض «أصدقاء» المعارضة في الضغط لإطاحة النظام مخافة تكرار «التجربة الليبية». هذه التجربة التي بقدر ما كانت درساً لروسيا دفعها إلى التشدد، شكلت أيضاً درساً لأميركا وبعض شريكاتها التي نالت نصيبها من الفوضى التي تعم الأراضي الليبية. وإذا كانت المخاوف تنتاب واشنطن من انتشار مجموعات «القاعدة» في سورية، فإن موسكو لن تكون هي الأخرى بمنأى من هذه الأخطار إذا طال أمد الأزمة، ومثلها طهران.
ولكن، من المبكر التعويل على هذا التلاقي المرحلي. من المبكر أن تعول واشنطن على دور لإيران في تسوية مقبولة في سورية. حكومة الرئيس حسن روحاني وضعت البرنامج النووي على الطاولة مع الدول الخمس الكبرى وألمانيا، يدفعها تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، والحاجة إلى فك الحصار والعزلة وإلى الاستثمارات الخارجية والتعامل التجاري مع العالم. لكن الحوار بين هذه الحكومة والمجتمع الدولي، خصوصاً الولايات المتحدة، لا يزال في بداياته. وعلى الذين يتوقعون دوراً إيجابياً ومساهمة من طهران في تسوية ملفات كثيرة، من لبنان إلى العراق واليمن والبحرين وغيرها، أن ينتظروا. تعتبر الجمهورية الإسلامية أنها قدمت ما يكفي في ملفها النووي وليس عليها أن تقدم المزيد في ملفات المنطقة على حساب دورها وما ترى إليه مصالح حيوية للمحافظة على هذا الدور وحمايته. وستظل على مواقفها هذه ما دامت تتلاقى ومواقف روسيا والصين حيال أزمة سورية وغيرها. لذلك، لا تطمئن أميركا وشركاؤها كفاية إلى إعلان الرئيس روحاني في الذكرى الـ35 للثورة، الحرصَ على «العلاقات مع الدول الإقليمية، خصوصاً المجاورة». وإلى تأكيده البحث عن «الأمن والاستقرار في المنطقة وضرورة التعاون لمواجهة الإرهاب في سورية والعراق وأفغانستان». لا يطمئنون لأنهم يسمعون أصواتاً أخرى لأجنحة في طهران لا تزال ترفع أجندات مختلفة وشعارات تصعيدية. تماماً كما كان يحصل في السنوات والعقود الماضية، وما كانوا يسمونه «ازدواجية الخطاب». فهل يستجيب أصحاب هذه الأصوات لنداء الرئيس روحاني إلى وحدة «الأجنحة» وعدم البقاء «أسرى الماضي»؟
مستقبل الأزمة السورية لا يتعلق طبعاً بالخيارات الجديدة التي قد تلجأ إليها الولايات المتحدة فحسب، بل ثمة عناصر وقوى أخرى. وقد قالت روسيا إنها ماضية في سياستها ولا تبدي أي استعداد للتراجع أو سماع أصوات المعارضة السورية. ومثلما قايضت الغرب لسنوات في المواجهة مع إيران، ستتمسك بالنظام السوري حتى آخر رمق، خصوصاً إذا نضج الحوار الأميركي – الإيراني وأثمر. وهي ماضية في بناء ما يمكن تسميته «هلالاً روسياً» يضم إلى الجمهورية الإسلامية سورية وربما مصر. لقد رحب الرئيس فلاديمير بوتين بوزير الدفاع الفريق عبدالفتاح السيسي. وأيده وشد أزره في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وهو ما أثار حفيظة واشنطن، وما سيدفعها قريباً إلى إعادة النظر ليس في مقاربتها للأزمة السورية فحسب، بل إلى إعادة حساباتها والخسائر التي منيت وستمنى بها نتيجة انكفائها عن قضايا المنطقة.
صحيح أن الولايات المتحدة تواجه تحديات من قوى صاعدة تنافسها على قيادة العالم ومناطق النفوذ، وعلى رأسها دول «البريكس». وصحيح أيضاً أن الحروب أنهكتها وزعزعت اقتصادها، وأن متاعبها السياسية الداخلية تصرفها عن متابعة قضايا حيوية في الخارج. لكن الصحيح أيضاً أن روسيا التي تحاول استعادة دورها «السوفياتي» ليست تلك القوة الكونية التي تتيح لها الصمود في السباق. فلا مؤسستها العسكرية ولا اقتصادها يوفران لها سلاح الصمود الكافي، بل إن بعض ما حققته في السنوات الأخيرة عائد إلى إخفاقها في حلبة المواجهة وعدم قدرتها على مواصلة الحرب الباردة. هي قادرة بلا شك على حماية فضائها وجوارها المباشرين، من أوكرانيا إلى جورجيا وبعض الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى. وهي تدرك أن أميركا وأوروبا ليستا المنافس الوحيد، بل الصين أيضاً التي يقلقها تقدمها إلى آسيا الوسطى. ولا حاجة إلى الحديث عما فقدت في أوروبا الشرقية وأفريقيا والشرق الأوسط. وينسحب الوضع على إيران أيضاً التي لم تجد في النهاية سبيلاً لفك الحصار، سوى الجلوس إلى الطاولة مع الكبار لمعالجة آفاق ملفها النووي.
الخيارات التي تناقشها الإدارة محدودة. وأفصح عن بعضها مسؤولون في واشنطن، وبينها تدريب عناصر في المعارضة المعتدلة وتقديم مزيد من السلاح لها لتقوية عودها في مواجهة قوات النظام وحلفائها، خصوصاً أن هذه تجهد لتحقيق تقدم على الأرض، خصوصاً في جبهة القلمون. ولكن، يبقى الأهم من هذه الخيارات القاصرة أن تعيد واشنطن الحرارة إلى سياسة التنسيق والتحالف مع بعض الشركاء في أوروبا والمنطقة. خسرت مصر، وتكاد تركيا تخرج من الصورة لانشغال حكومتها في معارك داخلية بعدما سقطت نموذجاً للإسلام الحديث راهن عليه الغرب طويلاً. والواقع أن الرئيس أوباما خطا خطوة على هذه الطريق بتفاهم استراتيجي مع الرئيس فرنسوا هولاند. وسيعزز التفاهم مع الأردن في لقائه الملك عبدالله الثاني، ويستعد لزيارة المملكة العربية السعودية التي لديها الكثير لتقوله.
الواضح في سعي الإدارة الأميركية إلى درس خيارات جديدة أنها ليست مستعدة حتى الآن لإبرام صفقة مع روسيا، أو بالأحرى ليست مستعدة لأن تقدم إليها أي تنازل. وخير مثال على ذلك أيضاً ما يجري في أوكرانيا حيث تتصدر أوروبا المواجهة بدعم أميركي واضح. ويمكن أن تعتمد واشنطن خياراً مماثلاً في سورية والمنطقة بالتنسيق مع شركائها الذين أدارت لهم ظهرها طويلاً. ويمكنها أن تعيد النظر في موقفها من الوضع الجديد في مصر، بدل الإصرار على ما لم تتعوده في سياساتها التي لم تغلب مرة المواقف الأخلاقية على المصالح. الرئيس أوباما أمام تحدٍّ كبير لمواجهة «الهلال الروسي»! فهل ينجح في كسر الطوق بكسر النظام في دمشق؟ هل «يخرج» كما فعل سلفه بوش أم إن الوضع الدولي والإقليمي يختلف تماماً ولا يسمح بحروب جديدة؟
الحرب الباردة في ذروتها/ موناليزا فريحة
لم تعمّر طويلا ديبلوماسية اللياقات بين جون كيري وسيرغي لافروف. التقاء المصالح الموقت بين بلديهما سرعان ما انهار. تراشق الاتهامات بين الرجلين بدا أكثر وقعاً من انهيار جنيف 2 نفسه الذي لم يكن احد يتوقع معجزة أصلاً.
كان الاستياء الاميركي المتزايد من موسكو واضحا جدا في اتهام الرئيس باراك أوباما اياها بتجويع الشعب السوري. هنا وهناك في “الكابيتول هيل” ترتفع الاصوات التي تحذر من انتهاك روسيا معاهدة خفض الاسلحة الاستراتيجية، ومن تقويضها النفوذ الاميركي في الشرق الاوسط.
أوضح أن سياسة أوباما لاعادة اطلاق العلاقات مع موسكو قبل خمس سنوات قد فشلت. حتى إن مهندس هذه السياسة السفير الاميركي في موسكو مايكل ماكفاول يعود الى بلاده قبل انتهاء ولايته بسنتين. منذ عودة بوتين الى الكرملين عام 2012، إتسعت الفجوة بين الجانبين، وفاقمها تفاقما خصوصا حظر روسيا تبني مواطنيها اميركيين ايتاما، ردا على قانون ماغنيتسكي، وطردها الوكالة الاميركية للتنمية الدولية، ومنحها ادوارد سنودن، اللجوء السياسي وتقييدها حقوق المثليين اضافة طبعا الى دعمها الرئيس بشار الاسد.
في الجانبين، يتزايد التصلب المتبادل في اوساط الرأي العام. “البهجة الماكرة” في التغطية الاعلامية الاميركية للالعاب الاولمبية الشتوية، على حد تعبير الروس، تعكس جانبا من هذا التشدد. وفي روسيا، يترجم تزايد العداء الروسي الشعبي لاميركا نبرة أكثر حدة في السياسة الخارجية.
وعلى مستويات أخرى، تبدو الحرب الباردة في ذروتها بين الاميركيين والروس من أوكرانيا الى سوريا، مروراً بمصر وايران وصولاً الى القطب الشمالي. منذ بدء الالعاب الاولمبية، لم يتزحزح بوتين من سوتشي الا لمشاكسة واشنطن. في مقر الرئاسة خارج موسكو،استقبل وزير الدفاع المصري عبدالفتاح السيسي ونصبه رئيساً مع صفقة سلاح تخفف اعتماد جيشه على أميركا، في ذروة الفتور بين واشنطن والقاهرة،حليفتها التقليدية. وليس اتفاق”نفط مقابل بضائع” التي تتفاوض موسكو عليه مع ايران، الا ورقة أخرى تلوح بها لواشنطن مهددة بتقويض جهودها لإبقاء الضغط الاقتصادي على الجمهورية الاسلامية. وعلى قمة العالم، يتنافس الروس والاميركيون على ثروات القطب الشمالي.
في سوريا، انهارت الشركة الموقتة بين الجانبين، وصار الافق مفتوحاً على مزيد من العنف. يعتقد الروس أن رجلهم ينتصر، وأنّ ليس ثمة ما يضطرهم الى الضغط عليه للتفاوض. ثمة ما يوحي بأن واشنطن تنوي استعادة التفويض الذي منحته لروسيا لحل الازمة. صارت على ما يبدو أكثر اقتناعاً بوجوب تغيير موازين القوى على الارض مدخلا للتفاوض. ولكن كيف؟ أوباما صرح بأنه يدرس سبلا جديدة للضغط على الاسد… عسى الا تكون مثلا اقفال موقع الرئاسة السورية على “انستاغرام”!
النهار
الثورة الاوكرانية.. هنا/ ساطع نور الدين
كييف مهددة بالبراميل المتفجرة، بالغارات الجوية، بالصواريخ الروسية نفسها التي تضرب مدن سوريا وقراها.. لكن ثورتها الشعبية التي انتصرت امس، لن تنكسر، لن تتراجع مرة اخرى امام الكرملين. كتب الاوكرانيون صفحة جديدة من تاريخ بلادهم. فتحوا الافق لقيامة روسيا الحقيقية. غيروا وجه العالم، اكثر بكثير مما فعل العرب في ربيعهم الذي طال اكثر بكثير مما كان متوقعا.
من الان فصاعدا اصبحت اوكرانيا عرضة لخطر روسي داهم، يمكن ان يتخذ شكل غزو او احتلال مباشر، كما يمكن ان يقتصر على اغتيالات وتفجيرات وعمليات حصار خانق. لن تتورع القيادة الروسية الحالية عن الاقدام على اي خطوة عسكرية او امنية لكي تستولي مجددا على درة التاج السوفياتي الضائع، التي كان فقدانها في تسعينات القرن الماضي من ابرز علامات انهيار المعسكر الاشتراكي، وانحدار الكرملين، وانحطاط الروس بخيارهم الخضوع لحكم فاشي لا يليق بماضيهم المجيد.
انتفضت اوكرانيا مرة ثالثة او رابعة في اقل من عقدين. لكنها نالت هذه المرة حريتها واستقلالها. لن تظل مستعمرة روسية يتحكم ضباط الامن وشركاؤهم بسياستها واقتصادها وموارد طاقتها وتجارتها وصلاتها مع الخارج. ولن تتحول الى بيئة لا تنتج سوى تيارات من اقصى اليمين المتطرف، او حركات نسائية خرقاء ليس لها أثر الا في الشوارع المليئة بالكاميرات الفضولية. شعب الخمسين مليون في الدولة الصناعية المتقدمة والمتمردة على إرث السوفيات، لن يسلم أمره بعد اليوم لاجهزة الكرملين وهيمنتها. هو الان يضع حدا فاصلا لتلك التجربة الروسية التي كادت تبدو في بعض العواصم والامكنة انها تجديد للحرب الباردة بين الشرق والغرب.. مع ان الاوكرانيين يعرفون قبل سواهم ان روسيا وقيادتها الحالية هي صنيعة الغرب ووكيلته، كما هي شريكة اسرائيل وحليفتها، (لمراجعة النداءات التي وجهتها الجالية اليهودية الاوكرانية في اليومين الماضيين الى الحكومة الاسرائيلية لحمايتها من الثوار، والنصيحة التي وجهها حاخام اوكرانيا الى يهود كييف لمغادرتها بل ومغادرة اوكرانيا كلها).
اسقطت الثورة الوصاية الروسية على اوكرانيا، وهزت مكانة روسيا ليس فقط في محيطها السوفياتي السابق، بل في العالم بأسره الذي سبق ان منح الكرملين الكثير من الفرص لاحتواء تلك الازمة وقدم الكثير من النصائح الى القيادة الروسية لاستيعاب غضب الاوكرانيين، (ورشوتهم مؤخرا بخفض اسعار الغاز مثلا..) لكنه على الارجح يشعر الان انه لا يستطيع ان يمضي قدما مع الفريق الحاكم في موسكو الذي يفتقر الى الحد الادنى من الخبرة والحنكة.. ويفترض ان تساهل الغرب وتسامحه الناجم عن انشغاله بأزماته الداخلية هو بمثابة تفويض مطلق يبيح الزعم ان الكرملين يخوض باسم الروس حرب اعادة بناء روسيا الحديثة.
كسرت الثورة الاوكرانية هيبة روسيا المزعومة، والمبنية على تلك الفرضية التي ليس لها أساس. لن يتأخر الروس في اكتشاف تلك الخدعة المزدوجة، التي لم توفر لهم العيش في دولة عظمى مستعادة، حسبما كانت تقتضي الخطة الغربية في الفترة الماضية. ولن يقف الحاجز القومي عائقا أمام استلهام تلك التجربة الاوكرانية، والعودة بروسيا الى مسارها الطبيعي الذي لا يمكن ان يقبل بان تكون السياسة الداخلية والخارجية لروسيا مجرد مداورة او مناوبة بين مافيات امنية او مالية، لا تفتح لها ابواب الغرب الا بهذه الصفة وعلى هذه القاعدة بالذات.
حدث عالمي مهم، هو بلا شك اهم من الربيع العربي الذي عارضه الروس منذ اللحظة الاولى وما زالوا يطاردون تياراته ورموزه، ويخترقونهم بمئات من المتشددين الاسلاميين القوقاز الذين تقطعت بهم السبل الروسية، وهم اليوم يساهمون مع ” مجاهدين”مثلهم في تحويل الثورة السورية الى كارثة انسانية.. الثورة الاوكرانية يمكن ان تعيد الامور الى نصابها، وان تجبر روسيا على الانكفاء خلف حدود ازماتها الداخلية المؤجلة منذ انهيار نموذجها السوفياتي الفريد، والتي كانت مقاربتها تقتصر على الامن، كما في العهود الاشتراكية الغابرة.
لن تختصر الثورة الاوكرانية المسار المتعرج والمتعثر للربيع العربي، لكنها بالتأكيد يمكن ان تخفض تدريجيا عدد البراميل المتفجرة الروسية المنشأ التي تدمر حلب وحمص ودرعا، وغيرها من المدن والقرى السورية.. تمهيدا لوقفها نهائيا.
المدن
المعركة السورية في اوكرانيا!
جثث في الشوارع، قنّاصون يصطادون المدنيين، اتهامات روسية للغرب بدعم ‘الإرهاب’، الجيش يهدد باستخدام السلاح ضد ‘المتشددين والمتطرفين’، عقوبات غربية على مسؤولين… كل هذه العناوين التي قرأناها مع بدء الثورة السورية قبل ثلاث سنوات تتكرّر اليوم ولكن هذه المرة في اوكرانيا.
بكشفها للتشابهات الكبيرة بين سوريا واوكرانيا تفضح المعركة الدامية الجارية في البلدين عن مجرى الصراع المستعرّ في العالم، وتدخل شعبي البلدين في مأزق كيانيّ ووجوديّ متشابه ومأساوي.
فمقابل اتجاه القيادة الروسيّة العنيف في ظل فلاديمير بوتين وأركان حكمه لاستعادة وزنها المتراجع بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ولو استأدى ذلك الوقوف في وجه الشعوب الراغبة في الحرية والديمقراطية والتضحية بها على مذبح المصالح الروسية الاقتصادية والسياسية، نجد المواقف المخزية لأوروبا المحكومة ببراغماتية الاقتصاد، والمهتمة باستمرار امدادات الغاز الروسي لتدفئة بيوتها المترفة، دون استعداد حقيقي لدفع أكلاف الدفاع عن رغبة الأوكرانيين (أو السوريين) في التخلّص من ربقة الاستبداد المدعوم روسيّا.
كما يستدعي ذلك قراءة التشابهات المباشرة لمواقف إدارة اوباما الأمريكية من الأزمة الأوكرانية فبعد التصريحات الواضحة من هذه الادارة الموجهة للأوكرانيين من قبيل قول وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ان ‘الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يقفان مع شعب اوكرانيا’، وأن مستقبل الأوكرانيين لا يكون ‘بالاكراه’، وما تبع ذلك من لقاء كيري للمعارضة الأوكرانية في المانيا ومن ‘عقوبات’ ضد بعض المسؤولين الأوكرانيين، لا نلبث أن نستعيد التراجع والرخاوة التي خبرها السوريون مع سياسة اوباما الخارجية من خلال تصريحاته الداعية الى ‘هدنة’ والتحذير من ‘تداعيات الأزمة’!
قد يعزّي السوريين (ولا عزاء كافياً لهم بعد ما حلّ بهم) تشاركهم مع الشعب الأوكراني علائم التخاذل الأوروبي والأمريكي في نصرة قضيتهم، كما سيعزّي إسلاميّيهم تشاركهم مع المسيحيين الأوكرانيين تهم ‘الارهاب’ و’التشدد’ و’التطرّف’، بحيث يخفّ الاحتقان الناتج عن إحساسهم بالاستهداف كشعب مضطهد وكدين مستهدف من الغرب ومن النظام، فالأوكرانيون بأغلبيتهم الكبرى مسيحيون أرثوذكس مثلهم مثل الروس (رغم أنهم ينقسمون الى ثلاث كنائس تتبع إحداها بطريرك موسكو) وهو إن حماهم من تهم ‘التكفير’ و’الوهابية’ فهو لم يحمهم من التهم الأخرى التي في جعبة القيادة الروسية.
الدخول في تجريم للثورة في سوريا دخل، منذ فترة طويلة، سياقاً تهريجياً مؤسفاً، وهو ما جعل الصين، مثلاً، تتهم المعارضة السورية بتنظيم مظاهرات في إقليم شينجيانغ، ووحّد اليسار الستاليني الغربي مع يمينه الفاشي في دعم النظام السوري، ومع دخولنا المرحلة الأوكرانية السورية في التصدّي للعالم التقط السوريون بذكاء التشابهات والمفارقات وبدأوا بتوجيه نصائحهم وابداء تعاطفهم مع ‘ثوار أوكرانيا’ وتحويلها الى سخرية هجاء للعالم.
أحد ناشطي الإنترنت قال للأوكرانيين: ‘اذا أردتم اللجوء فتجنبوا الأردن ولبنان’، فيما نصح ناشط آخر الأوكرانيين بشراء مولدات كهربائية وتخزين المازوت تجهزاً لحصار مناطقهم.
أما الموقف من العالم فعبّر عنه ناشط آخر بالقول: ‘احذروا من شعور بان كي مون (الأمين العام للأمم المتحدة) بالقلق، لأنكم ستلعنون الساعة التي تظاهرتم فيها’.
تحدث باراك اوباما أمس عن الترابط بين اوكرانيا وسوريا قائلاً أنهما ليستا رقعة شطرنج للحرب الباردة، وهو قول صحيح لكنعربي
ه يصف سلوك الولايات المتحدة الأمريكية لا سلوك روسيا.
غير أن أهم ما كشفت عنه أحداث أوكرانيا وسوريا فهو الرابط الإنساني العميق الذي يربط الشعوب ويوحدها ضد الاستبداد، وضد التخاذل الدولي والتلاعب بمصائر الشعوب.
اضافة الى كشفها أن الربيع العربيّ ليس إلا جزءاً من حراك شعوب العالم، وأن الثورات يمكن التلاعب بها لفترة لكنها تعود للاندلاع اذا لم تتغيّر أسباب حصولها.
القدس العربي
روسيا في مواجهة أوروبا/ بيل كيلر
ليست خطوات بوتين معزولة، بل تندرج في إطار نمط سلوكي يتعمّد منذ عامَين تقريباً إبعاد روسيا عن الغرب بليبراليته الاجتماعية والثقافية.
يظهر ذلك من خلال القوانين التي تجيز رسمياً ترهيب المثليين والمثليات، وسجن أعضاء فرقة احتجاجية تعزف موسيقى “البانك روك” بتهمة الإساءة إلى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وتشويه سمعة المنظمات المؤيّدة للديموقراطية والمدعومة من الغرب عبر اتّهامها بـ”العمالة للخارج”، واعتماد قوانين جديدة موسَّعة حول الخيانة، وفرض قيود على تبنّي أولاد من الخارج.
ما يجري أكثر تعقيداً وخطورة من مجرد استعراض بوتين عضلاته السياسية. فهو يحاول أن يتصدّى لأوروبا، وأن يعمّق الانقسام في قارة كانت مرّتين في الذاكرة الحية مهداً لحروب عالمية. يبدو واضحاً أكثر من أي وقت آخر أن بوتين لا يكتفي فقط بقَرْص الغرب من أجل استثارة قاعدته الشعبية أو بخنق المعارضة الداخلية في المهد، بل يحاول أيضاً أن يقلب مسار 25 عاماً من التاريخ.
لطالما كانت دوافع فلاديمير بوتين موضوعاً لتكهنّات الصحافيين والباحثين، ما أسفر عن ظهور العديد من النظريات المتداخلة: إنه الفتى الذي تعذّب في فناءات المنازل القاسية في لينينغراد بعد الحرب، وارتدى بذلة جهاز الاستخبارات الروسية (كي جي بي) بهدف الثأر ولم ينزعها قط. إنه سيد السياسة الواقعية التهكّمي والحذر الذي يرى العالم من منظار المؤمرات ويردّ بالمثل. إنه روح روسية معذَّبة كتلك التي تحدّث عنها دوستويفسكي في كتاباته، روح يُحزنها الإلحاد والتساهل والانحطاط الأخلاقي. إنه رجل العصر السوفياتي الذي لا يزال يخوض الحرب الباردة. إنه نرجسي بامتياز، وخير دليل على ذلك ميله إلى أن تُلتقَط له صور عاري الصدر على ظهر الحصان.
منذ بداية ولايته الرئاسية الحالية عام 2012، تنامى لدى بوتين شعورٌ بأن بوادر انفتاحه على الغرب لا تلقى التقدير اللازم، وبأن روسيا تُعامَل على أساس أنها دولة مهزومة، وليس على قدم من المساواة على الساحة العالمية. وتحوّل شعوره بالإذلال والاستياء نفوراً أيديولوجياً من دون أن يكون سوفياتي الطابع في شكل خاص، لكنه روسي حتى العمق. فشكواه من الغرب لم تعد تقتصر على مسألتَي النفوذ السياسي والتفوّق الاقتصادي، بل تنطلق في نظره من جذور روحية عميقة.
تقول ماشا غيشين التي صدرت لها سيرة لاذعة عن بوتين، وهي ناشطة تدافع عن حقوق المثليين والمثليات وكاتبة في مدوّنة Latitudes عبر الموقع الإلكتروني لهذه الصحيفة، “يريد بوتين أن يجعل من روسيا عاصمة القيم التقليدية في العالم”.
قد تتساءلون، ما علاقة البيوريتانية الروسية الرجعية بالاضطرابات في شوارع كييف حيث يخوض المحتجّون الأوكرانيون الذين يتطلّعون إلى إقامة شراكة مع الاتحاد الأوروبي، مواجهة مع الرئيس فيكتور يانوكوفيتش الذي بدا مصمّماً على الانضمام إلى اتحاد بوتين “الأوراسي” المنافس للاتحاد الأوروبي؟ العلاقة أكبر مما قد يخطر في بالكم.
أصغوا إلى رئيس لجنة العلاقات الدولية في البرلمان الروسي، أليكسي بوشكوف، وهو يقول إنه إذا انضمّت أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، سيتسلّل المستشارون الأوروبيون إلى البلاد ويتسبّبون بـ”توسيع نطاق ثقافة المثلية الجنسية”. أو شاهدوا ديميتري كيسيليوف، المقدّم التلفزيوني المناهض للغرب بأسلوب استعراضي الذي عيّنه بوتين للتو رئيساً لإحدى وكالات الأنباء بعد إعادة هيكلتها. فقد عرض كيسيليوف منذ وقت قصير مقتطفات على الهواء من برنامج سويدي بعنوان Poop and Pee يُعلِّم الأطفال عن وظائف الجسم، وقال إنه يعطي مثالاً عن الفسوق الأوروبي الذي سيصيب أوكرانيا في حال انضمّت إلى الاتحاد الأوروبي (كيسيليوف هو أيضاً من قال إنه عند وفاة المثليين، يجب دفن أعضائهم الداخلية وحرقها كي لا يعود بالإمكان وهبها لآخرين).
يقول ديميتري ترينين، الباحث في مكتب موسكو في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إن هذا السلوك ليس مجرّد استرضاء للقاعدة الناخبة الشديدة الولاء، بل يحمل أيضاً طابعاً أكثر شخصية. ففي العامين الماضيين، أصبح بوتين أشدّ محافظة على المستوى الأيديولوجي، وأكثر ميلاً إلى اعتبار أوروبا منحطةً وغريبة عن العالم السلافي الشرقي المسيحي الأرثوذكسي الذي تنتمي إليه كل من روسيا وأوكرانيا.
قال لي ترينين “ما يرفضه في أوروبا هو التسامح الذي لا حدود له. يرفض العلمانية. يعتبر أن أوروبا دخلت حقبة ما بعد المسيحية. يرفض استبدال السيادة الوطنية بالمؤسسات الاتحادية، وتراجع دور الكنيسة. يرفض إعطاء الأولوية لحقوق الأشخاص على حساب مسؤولياتهم تجاه الآخرين وتجاه الدولة”.
من أجل إدراك حجم ما يقوم به بوتين، من المفيد أن نستذكر التاريخ قليلاً.
في تموز 1989، ألقى الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشيوف خطاباً في ستراسبورغ رأى فيه كثرٌ خطوة مهمّة نحو التراجع عن الحرب الباردة. كان موضوع الخطاب أن روسيا باتت تعتبر أنها تتقاسم “منزلاً أوروبياً مشتركاً” مع خصومها الغربيين. وقال غورباتشيوف إنه يجب أن يحل الاحترام المتبادل والتبادل التجاري مكان المواجهة والردع في أساس العلاقات مع الغرب. واقترح إعادة هيكلية الكتل العسكرية في إطار منظمات سياسية. وهكذا كان من شأن “الأمبراطورية الشريرة”، كما سمّاها الرئيس ريغان، أن تصبح الجار الصالح.
كتب جيم هوغلاند، كبير المراسلين الأجانب في صحيفة “واشنطن بوست” آنذاك “يبدو أن الشتاء الطويل للنزاع العالمي المتمحور حول انقسام أوروبا، يشارف على نهايته”. كانت هذه النظرة رائجة.
عندما انهار الاتحاد السوفياتي بعد بضع سنوات، كانت أوكرانيا الجمهورية الأكبر بين الجمهوريات الـ14 التي تحرّرت من الوصاية الروسية. وفيما كان الأوكرانيون يستمتعون باستقلالهم، أراد كثرٌ بينهم السير على خطى روسيا بحسب المسار الذي أعلن عنه غورباتشيوف.
يقول رومان جبورلوك، المدير السابق لـ”معهد الأبحاث الأوكراني” في جامعة هارفرد “رُفِع شعار، نحو أوروبا مع روسيا، من الواضح أن هذه الفكرة لم تعد مطروحة الآن، وأظن أن بوتين قرّر إعادة بناء الأمبراطورية”.
بعد نحو 25 عاماً عن كلام غورباتشيوف عن “منزل أوروبي مشترك”، يبدو أن بوتين يعمل على تحطيم هذا المنزل.
صحيح أن أوروبا خسرت بعضاً من بريقها خلال سنوات الركود والتقشّف الأخيرة. لكنها لا تزال أكثر جاذبية من الاقتصاد الأوكراني المهترئ الذي تديره طبقة حاكمة فاسدة وعقيمة. لم يتخلَّ الأوكرانيون قط عن أملهم بأن يكونوا جزءاً من الغرب. يمثّل المحتجّون المحتشدون في ساحة الاستقلال في كييف، جيلاً درس وعمل في بولندا وسافر إليها منذ انضمامها إلى أوروبا، ولا يريد أن تتحوّل بلاده مجرد مساحة استجمامية رديئة في الأمبراطورية الروسية. ويحصلون على الدعم أيضاً من شريحة واسعة من الشركات الأوكرانية التي تفضّل سيادة القانون الغربية على الفساد والاستنسابية في تطبيق القوانين في روسيا وأوكرانيا.
قد ينجح بوتين في إحكام قبضته على أوكرانيا، لكن من شأنه أن يندم على ذلك لاحقاً. ففيما يقلّب في صفحات الماضي، قد يكون من المفيد له أن يتوقّف عند تجربة حاكم سابق هو جوزف ستالين الذي ضم غرب أوكرانيا بعدما كان تابعاً لبولندا. اعتقد ستالين أنه ذكي، كما يقول جبورلوك، لكن انتهى به الأمر بمضاعفة مشكلاته: فقد جَلب الأوكرانيون المتململون سياسياً إلى الخيمة الروسية، وسُمح لبولندا بأن تصبح متجانسة وأكثر قوّة بعدما تخلّصت من الاضطرابات التي كانت تتسبّب بها الأقلية الأوكرانية لديها.
بالمثل، إذا فرض بوتين على أوكرانيا الانضمام إلى تحالفه الخاضع للسيطرة الروسية، سوف يُضطرّ إلى تهدئة الرأي العام عبر إغراق العضو الجديد بهدايا لا يستطيع تحمّل كلفتها، ومنحه نفوذاً يفضّل عدم تقاسمه مع أحد. وحتى لو تحقّق ذلك، سيعتمل الغضب لدى الأوكرانيين الشباب المؤيّدين للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي سيساهم في تأجيج الاستياء الواسع الذي يشعر به أصلاً الجيل الشاب في روسيا. “ستظلّ أوكرانيا تبحث عن مخرج”، كما يقول ترينين. قد يتعلّم بوتين، كما فعل ستالين قبله، أن المتاعب التي يمكن أن تتسبّب بها أوكرانيا في حال إحكام الطوق حول عنقها، كبيرة جداً ولا تستحقّ تالياً كل هذا العناء.
ترجمة نسرين ناضر
النهار
هي حرب باردة؟/ محمد ابرهيم
في الحرب الباردة كانت المناوشات على أطراف المعسكرين تعبيرا عن طاقة المركزين على التوسّع، ولم يكن مطروحا في أي مرحلة من مراحلها دفع المواجهة الى حد تهديد مركز الآخر. فالتماسك الداخلي كان أكيدا. واستعمال الوسيلة العسكرية كان يقارب المستحيل.
وحتى قبل سنوات قليلة من انهيار الاتحاد السوفياتي كان طموح الإدارة الأميركية العائدة في الثمانينات مع رونالد ريغان الى النَفَس الهجومي، احتواء الانفلات السوفياتي في العالم الثالث وليس حسم الحرب الباردة. وسلسلة التطورات التي قادت منذ 1985، مع ميخائيل غورباتشيوف، الى انهيار المركز السوفياتي كانت مفاجئة للأميركيين وللسوفيات معا. فالاتحاد كان باستطاعته الاستمرار لسنوات طويلة.
مناسبة هذا الكلام أنه في السياسة الخارجية الروسية، خصوصا منذ عودة فلاديمير بوتين الى الرئاسة، ما يوحي باستئناف حرب باردة ما. ويمكن عطف ما يحصل في أوكرانيا على ما يحصل في سوريا للقول بأن هناك خروجا متجددا للمركز الروسي نحو التوسع في الأطراف. لكن ما ينقص هذا التقدير هو أن طبيعة هذا الخروج دفاعية خالصة وطموحاته تقتصر على حماية المركز المعرّض لتهديد جدي.
ولتقدير طبيعة المعركة التي يخوضها بوتين اليوم لا بد من التذكير بتسعينات القرن الماضي التي شهدت محاولات بوريس يلتسين ضم روسيا، بحدودها “السوفياتية”، الى العالم الغربي. وكيف تبيّن أن ما سُمّي المرحلة الانتقالية، له حصيلة واحدة هي تفكيك الاتحاد الروسي. وكما أدى التخلي عن الاشتراكية الى تفكيك الاتحاد السوفياتي فإن النجاح في تطبيق الرأسمالية يعني روسيا مصغّرة.
ليس ضمن خطط بوتين خوض حرب باردة لأنه لا يملك مقوماتها، لا الإيديولوجية ولا الاقتصادية. والقوة العسكرية، إن كانت تنفع في ردع أي خطط تستهدف روسيا، إلإ إنها أقل بكثير من القدرة، وحدها، على حماية توسّع روسي. من هنا فإن ما يفعله بوتين هو محاولة ردّ اختراقين قاتلين للاتحاد الروسي، أحدهما من حدوده الغربية، أي أوكرانيا، والثاني من حدوده الجنوبية مع الشرق الأوسط.
التحول الغربي لأوكرانيا يفتح معركة تصفية انقلاب بوتين على محاولات إدراج روسيا، بدون إدعاءات، في أوروبا الغربية التي تتوسّع شرقا لكي تستوعب القارة كلّها على طريقة استيعاب ألمانيا الغربية لألمانيا الشرقية. إنها معركة حسم ازدواج الهوية الروسية، الأوروبية – الآسيوية، والتي تأخرت لقرن تقريبا. ويواكب هذه المعركة ما ترمز اليه معركة سوريا من فتح ملف الشعوب الإسلامية داخل الاتحاد الروسي، والنفوذ الروسي في الجمهوريات السوفياتية الإسلامية السابقة. إنه الدفاع عن إمبراطورية روسية ولّى زمانها وليس حرباً باردة جديدة.
النهار
روسيا التي تخسر حتّى وهي تربح/ حازم صاغية
توقّف، ويتوقّف، الكثيرون من المراقبين والمعلّقين عند انفجار الأزمة الأوكرانيّة في الوقت الذي تتمادى فيه الأزمة السوريّة. ولم يكن صعباً تحويل التزامن إلى علاقة سياسيّة، أو اشتقاق الثانية من الأولى، وصولاً إلى خلاصة تفيد باستعار التنازع الأمريكيّ – الروسيّ في كلّ من البلدين.
وعلى جاري العادة، تجمح المخيّلة ببعض المحلّلين بحيث يتحدّثون عن صفقات وتبادل مواقع، على طريقة: إذا أعطيتمونا هذا في سوريّا نعطيكم ذاك في أوكرانيا، أو العكس.
ما من شكّ في أنّ هذه الطريقة في النظر إلى الأمور تنطوي على قدر من التبسيط والاختزال. ذاك أنّ اختصار الوضعين السوريّ والأوكرانيّ (وأيّ وضع آخر) في صراع روسيّ – أمريكيّ يتجاهل أصول المشاكل الداخليّة للبلدان المعنيّة.
فالأصل في المسألة السوريّة ثورة فجّرتها أكثريّة الشعب ضدّ نظام فئويّ وعائليّ وتوريثيّ يعود إلى 1970، تسبّب في إفقار السوريّين وقهرهم عقداً بعد عقد. كذلك فالأصل في المسألة الأوكرانيّة يكمن في انشقاق يتعدّى السياسة إلى التكوين الاجتماعيّ والمزاج الثقافيّ اللذين يفصلان بين سكّان الشرق (“الروس”) وسكّان الغرب (“الأوروبيّين”). وقد تولّى هذا الانقسام كبح التحوّل الديمقراطيّ الذي بدأته أوكرانيا مع انهيار الاتّحاد السوفييتيّ الذي انشقّت عنه.
لكنْ، وفقط بعد تحديد أصل المشكلتين، توفّرَ للمسألة السوريّة كما للمسألة الأوكرانيّة بُعدٌ جغرافيّ – سياسيّ واستراتيجيّ بات يصعب تجاهله.
ففي سوريّا، كان للعنف غير الاعتياديّ الذي اتّبعه النظام حيال شعبه أن أطال أمد النزاع وضخّم هذا البُعد، خصوصاً في ظلّ الدعم والرعاية المباشرين من الروس والإيرانيّين للنظام المذكور. أمّا في أوكرانيا، فكان من الصعب ألاّ يدفع موقعها الجغرافيّ المحاذي لروسيا في اتّجاه تعزيز التطابق بين الصراع فيها والصراع عليها. فكيف وأنّ عوامل تكوينيّة أخرى توسّع شهيّة التدخّلين الروسيّ والغربيّ فيها.
لكنْ في هذه الحدود الجغرافيّة – السياسيّة البحتة، لا بدّ من ملاحظةٍ غالباً ما تفوت أكثر المراقبين. ذاك أنّ البلدين المذكورين هما، بحسب ذاك التصنيف، يندرجان أصلاً في خانة النفوذ الروسيّ امتداداً لما كان نفوذاً سوفييتيّاً. وهذا ما يعني، وفقاً لتلك التصنيفات، أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة هي التي تتولّى الهجوم فيما يتولّى الروس الدفاع عن مواقع نفوذهم.
ويستحوذ هذا التوصيف على أهميّة مضاعفة حين نضيف اقتران تلك اللوحة بأكثر السياسات الأمريكيّة انكفاء عن صراعات العالم الخارجيّ. وهنا لا نضيف جديداً حين نكرّر ما بات لازمة شبه بديهيّة حول إدارة باراك أوباما الهاربة من المواجهات والحروب. بيد أنّ اللوحة إيّاها تقترن بسياسات روسيّة هي الأكثر إقداماً وتدخّليّة منذ انهيار الاتّحاد السوفييتيّ. فإذا كان أوباما قد حوّل الانكفاء والسلميّة عنواناً عريضاً لتوجّهاته، فإنّ استعادة “مجد” الامبراطوريّة السوفييتيّة هي العنوان الضمنيّ، وأحياناً المعلن، لتوجّهات الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين.
والصورة هذه لا تتجانس، بطبيعة الحال، مع واقع أنّ أمريكا في موقع الهجوم وروسيّا في موقع الدفاع. إلاّ أنّها، مع ذلك، تدلّنا إلى بعض الحقائق المهمّة:
فأوّلاً، يتبدّى، هنا أيضاً، أنّ الأولويّة هي للأصول والأسباب الداخليّة، لا قرارات الإدارات الدوليّة، وأنّ في وسع التحوّلات الثوريّة أن تجرّ البلدان إلى حيث لا تريد بالضرورة. ينطبق هذا خصوصاً على حال الإدارة الأمريكيّة راهناً.
وثانياً، يتأكّد، حتّى لو شاءت تلك الإدارة الأمريكيّة التنصّل من ذلك ومن تبعاته، أنّ أيّ طلب شعبيّ على الحرّيّة أو الديمقراطيّة يخلق شراكة ما مع “الغرب” الأوروبيّ والأمريكيّ. ولا يحول دون ذلك اختلاف الطرفين حول مقادير الدعم أو أشكاله في هذه المرحلة أو تلك. والشيء نفسه مقلوباً يصحّ في الموقع الروسيّ المحكوم بدعم أكثر الأنظمة استبداديّة ورعايتها.
وثالثاً، وهذا الأهمّ، أنّ النفوذ الروسيّ لا بدّ أن يخسر الحروب حتّى وهو يكسب المعارك. فإذا كانت موسكو تتموضع في موقع الدفاع، على رغم الهجوميّة الاستثنائيّة لبوتين والسلميّة الاستثنائيّة لأوباما، فمعنى ذلك أنّ موقع روسيا الدوليّ متآكل، خصوصاً أنّ القضايا والأنظمة التي تدافع عنها من النوع الذي يصعب الرهان على صموده طويلاً. فكيف إذا أضفنا القدرات الاقتصاديّة المتواضعة جدّاً لروسيا، والمرهونة على نحو قاهر بأسعار النفط والغاز؟
تحليل: أمريكا وروسيا .. هل تلعبان الشطرنج أم بالدم في أوكرانيا وسوريا ومصر؟
أتلانتا، الولايات المتحدة الأمريكية (CNN) — حاول الرئيسان، الأمريكي، باراك أوباما، ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في محادثة هاتفية الجمعة، إظهار أنهما يعملان معا لأجل فرض الاستقرار في أوكرانيا، كما غابت عن المكالمة الاتهامات التي تبادلها الطرفان، قبل نحو شهرين، بشأن مستقبل الدولة التي كانت ضمن دول الاتحاد السوفيتي سابقا.
وفي الوقت عينه، تواصل إدارة الرئيس الأمريكي تفنيد تكهنات بشأن حرب باردة جديدة مع روسيا، غير أن ذلك يتضح أكثر وأكثر بالاحتجاجات من جانبهم، وبدا ذلك جليا، السبت، من خلال مكالمة هاتفية، بين وزيري الخارجية الأمريكي، جون كيري، ونظيره الروسي، سيرغي لافروف، جرت السبت بعد أنباء عن مغادرة الرئيس الأوكراني، فيكتور يانوكوفيتش، العاصمة، كييف، بعيد ما وصف بـ”الانقلاب.”
فقد قال كيري، وبحسب ما نقلت وزارة الخارجية، إنهما اتفقا على ضرورة حل الأزمة السياسية الأوكرانية دون عنف، وشدد لنظيره الروسي، على ضرورة أن تعمل الدولتان على تشجيع أوكرانيا للتحرك صوب تغييرات دستورية.
وبالمقابل، قال لافروف، إنه أعرب، خلال المقابلة، عن قلقه إزاء “جماعات متشددة خارجة عن القانون” ترفض إلقاء السلاح، وذكّر بمكالمة هاتفية جرت بين أوباما وبوتين، ودعا فيها الأخير “أوباما لاستخدام كافة السبل المتاحة لكبح التحركات الراديكالية غير المشروعة وتسوية الوضع على نحو سلمي، وفق ما نقلت وكالة “إيتار تاس” الروسية عن تغريدة أصدرتها وزارة الخارجية بموسكو.
ففي ديسمبر/كانون الأول الفائت، انتقد كيري أوكرانيا بحدة لرفضها اتفاقا بزيادة حجم التبادل التجاري مع أوروبا، وشدد وزير الخارجية الأمريكي على أن بلاده غير منشغلة بمزايدة حول حرب باردة مع روسيا بشأن أوكرانيا أو أي من دول الاتحاد السوفيتي السابقة، وهي تصريحات تحمل ذات النبرة صدرت عن واشنطن خلال الأشهر الأخيرة، آخرها من البيت الأبيض ذكّر فيه بأن الأزمة في أوكرانيا ليست تذكيرا بالنزاعات بالوكالة إبان حقبة الحرب الباردة.
وجاءت آخر المواقف الأمريكية بشأن الأحداث في كييف هذا الأسبوع على لسان أوباما، بالتأكيد على رؤيته للاختلافات بين واشنطن وموسكو حيال أوكرانيا وسوريا قائلا: “موقفنا هو لا ننظر إلى هذه كلعبة شطرنج بالحرب الباردة في منافسة مع روسيا، هدفنا هو ضمان بأن يتخذ الشعب الأوكراني قراراته لتحديد مستقبله، وقدرة الشعب السوري على اتخاذ قرارات دون قنابل تقتل النساء والأطفال، أو الأسلحة الكيماوية، أو تجويع بلدات لأن مخلوعا يريد التشبث بالسلطة.”
أوباما محق، إنها ليست بحرب باردة، فللولايات المتحدة اليوم اليد العليا، اقتصاديا، وعسكريا ودبلوماسيا، لكنها تواجه استعادة روسيا لقوتها وتحديها وتزايد تسلطها ، لكن بالنظر إلى جوهر الأشياء، إنها لوح شطرنج، وأزمة أوكرانيا تمثل الحركة الأخيرة في الصراع حول النفوذ العالمي بين واشنطن وموسكو.
فهناك أوجه تشابه مع سوريا حول اختلافات القوتين بشأن أوكرانيا، فحتى مؤخرا تحدى الرئيس الأوكراني معارضيه الموالين للغرب، بدعم سياسي ومادي روسي، كما هو الحال مع الرئيس السوري، بشار الأسد، الذي تمكن من الصمود بوجه حرب أهلية ثلاث سنوات، وتهديدات أمريكية بضربات عسكرية، أيضا كذلك بدعم عسكري ومادي ودبلوماسي روسي.
وفي كلتا الحالتين، قابل الرئيس الأمريكي تحركات نظيره الروسي، بأخرى مشابهة، فقد منعت واشنطن 20 مسؤولا أوكرانيا من دخول أراضيها، وهددت بالمزيد من الإجراءات إذا ما واصلت القوات النظامية حملة القمع الدموية ضد المتظاهرين.
ونظرا لسخطها إزاء إخفاق موسكو في إقناع النظام السوري بأي تسوية أثناء مباحثات جنيف برعاية أمريكا وروسيا، تبعث الولايات المتحدة الآن بإشارات لكونها تنظر في خياراتها بشأن سوريا، حيث تكاثفت هجمات قوات الأسد على المدنيين.
ورغبة بوتين في الحفاظ على نفوذه بمنطقة الشرق الأوسط لا ينحصر على سوريا فحسب، فقد التقى وزير الدفاع المصري المشير، عبدالفتاح السيسي، خلال زيارته لموسكو هذا الشهر، وأيد ترشحه لرئاسة مصر، حتى قبل إعلان الأخير عن دخوله السباق الرئاسي، وتناولت الزيارة مباحثات حول صفقة عسكرية بقيمة ملياري دولار، في الوقت الذي علقت فيه أمريكا جانب من المساعدات العسكرية لمصر.
روسيا تراهن على الزيارة لإحياء علاقات انفصمت منذ عهد الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات، وظلت باردة إبان حقبة خلفه، حسني مبارك، طيلة ثلاثة عقود، والاستقبال الحميم للسيسي ووزير الخارجية، نبيل فهمي، يبدو أنه صمم لبعث شارة لأمريكا مفادها بأنه مازال لروسيا نفوذا لدى أكبر دول المنطقة، من حيث النفوذ وعدد السكان، وانها على استعداد لتوطيد علاقتها العسكرية.
والرياضة، ليست بمعزل عن الخصومة بين الدولتين، فالرئيس الأمريكي رفض حضور أولمبياد سوتشي، وأرسل رياضيين مثليين، في لطمة واضحة للقانون الروسي المناهض للمثلية، علما أنها المرة الأولى على الاطلاق، منذ عقد، يعتذر فيها الرئيس الأمريكي، ونائبه، والسيدة الأولى والرئيس الأسبق، عن حضور افتتاح أو اختتام دورة أولمبية.
وزاد من الطين بلة، فوز فريق الهوكي الأمريكي بالدورة الشتوية، على الدولة المضيفة، للمرة الأولى منذ عام 1991.
وعموما، حقق الرئيس الروسي من خلال الدورة نجاحا، فكل التوقعات والتكهنات بهجوم إرهابي واحتجاجات سياسية، لم تتحقق، ورغم الإخفاقات الطفيفة في مستهل الدورة الرياضية، إلا أن الجميع أشاد بتنظيمها، كما أن بوتين قام بزيارة الوفد الرياضي الأمريكي في مقرهم.
ومع الهدنة المهتزة في أوكرانيا، على أمريكا الاستعداد لمزيد من التشبث المتهور في أوكرانيا، سواء عبر الابتزاز المالي أو حتى إرسال قوات حال استمرار العنف، عليها التجهيز لخطوتها المقبلة في لعبة الشطرنج، وبما أن مستقبل أوكرانيا على المحك، فأن الأمر يتعدى مجرد اللعبة.