صفحات الثقافة

غابرييل غارسيا ماركيز : هل فقد ذاكرته؟


صديقه ‘بلينيو أبوليّيو ميندوسا’ يكشف النقاب عن هذه المأساة

غرناطة- من محمّد محمّد الخطّابي: أفادت المراسلة الأدبية لجريدة ‘ أ. ب. س’ الإسبانية في العاصمة الكولومبية بوغوتا ‘ ‘أليخاندرا فينغوإشييّا ‘ في الملحق الثقافي لهذه الصحيفة المؤرخ في 8/6/2012 أن أحد الأصدقاء الحميمين للكاتب الكولومبي المعروف غابرييل غارسيا ماركيز (الحاصل على نوبل في الآداب عام 1982) وهو’بلينيو أبولييّو ميندوسا’ أماط اللثام خلال استجواب أجراه معه الصحافي ‘إدغار أنتوندواغا’ الأثير (ونشر في الموقع الالكتروني لكولومبي) kien y k عن تدهور ذاكرة صديقه.

يقول الكاتب:’ إننا لا نعلم شيئا عن غابرييل غارسيا ماركيز منذ2007 عندما سافرعلى متن قطار الى قريته ‘أراكاتاكا’ في الكرايب الكولومبي، التي يرمز اليها في روايته الشهيرة ‘مائة سنة من العزلة’ باسم (ماكوندو)، كان برفقة زوجته ميرسيديس، يتحدّث بدون انقطاع ضاحكا مقهقها وهو يدشّن انطلاق أشغال إعادة ترميم منزله القديم الذي لم يعد مغمورا بعد أن طبّقت شهرته الآفاق بالنجاح الباهر الذي حققته روايته الآنفة الذكر. مع كل تلك السعادة الظاهرة فإن الكاتب كان يبدو متعبا وشديد الإنهاك’.

أعيش لأروي

ويضيف ‘في عام 1999أصيب ماركيز بسرطان لمفاوي سرعان ما تجاوزه وشفي منه، وفي عام2001 فقد أخا له يدعى غابرييا إليخيو ماركيزالذي حزن عليه حزنا شديدا، كان بصدد إعداد مشاريع أدبية لكتابة العديد من الكتب بعد ‘مذكراته’ التي نشرها عام 2002 تحت عنوان ‘عشت لأروي’، ولكنّه ظل صامتا لم يعرف عنه شيء طوال هذه السنين حتى بلغ الخامسة والثمانين من عمره في مارس المنصرم، حيث نشرت العديد من الصحف والمجلات صوره وهو في المكسيك مع أقربائه وأحبّائه وزوجته، وأصدقائه وذويه، في هذا البلد الأزتيكي الذي عاش فيه أكبر قسط من حياته’. يقول الكاتب: ‘كان هوّ ولكنّه لم يكن غابو (لقبه بين أصدقائه وخلاّنه) الذي يعرفه الجميع،كان يبدو كما لو كان غائبا عن المكان، كان قد فقد تلك الشرارة المتّقدة، والشّعاع اللامع الذي كان يتلألا في عينيه باستمرار. كان ‘غابو’ يبدو غريبا غير عادي. الحديث عنه في كولومبيا يكاد أن يكون محظورا أو محرّما فهو يعتبر إرثا وطنيا’.

هل خبت الذاكرة

عندما كتب الصحافي إدغار أرتوندواغا مقالاً بعنوان ‘هل انطفأت ذاكرة غابو؟’، حيث التقى بلينيو أبوليو ميندوزا الذي يعتبر من أعز أصدقاء الكاتب الكولومبي، وهو صاحب كتاب’رائحة الجوّافة’، الذي يستحضر فيه ذكريات الشباب، والأدب، رفقة صديقه غابو. وخلال اللقاء يعرب ميندوسا، عن إنشغاله وقلقه حيال ذاكرة صاحب ‘مائة سنة من العزلة’. حيث يشير أنه ومنذ خمس سنوات لم يتحدّث إليه. كان رودريغو، أحد أنجال غابو يقول: ‘إنّه يريد رؤيتك، لأنه لا يمكنه التعرّف عليك من خلال الصوت فقط’.

ويشير ‘بلينيّيوأبولييّو ميندوسا’ ‘آخر مرّة تحدثنا فيها، لم يكن غابو يتذكّرالعديد من الأشياء إلا بالكاد، كان يسأل، ويعيد السؤال تلوالسؤال من جديد ‘متى وصلت؟ أين تعيش في الوقت الراهن؟’، ثم ذهبنا لتناول الغذاء معا،وجنحت بنا الذاكرة لنسترجع اللحظات والمعايشات التي كنّا قد تقاسمناها قبل أكثر من 30 أو 40 سنة، الذاكرة لم تكن وهنت بعد، وكان يمكنه أن يتذكّر جيّدا. ولكنّني أشعرالآن بحزن عميق، وبقلق متزايد من الوضع الذي آل إليه أعزّ أصدقائي اليوم’.

نفس الصحافي إدغار أنتوندواغا كان قد أجرى إستجوابا كذلك مع ‘كارمن بالسيلس’ وهي الوكيلة الأدبية ‘لماركيز’ التي قالت له أيضا: ‘كانت صحّة غابو منهكة خلال حفل عيد ميلاده الأخير، ربما لأننا بدأنا نبلغ من السنّ عتيّا،وأضافت قائلة: ‘إنه أصبح سريع الغيظ، وأصبحت له نظرة ملأى بالحنين’.

أذنان كبيرتان

وفي مقال آخر لنفس الكاتب ‘إدغارأرتوندواغا ‘ يشير: ‘أن كبير الكتّاب الكولومبيين ‘غابرييل غارسيا ماركيز’ لم يعد يتذكّر أصدقاءه المقرّبين، هؤلاء الذين ترعرع وسافر وكبرمعهم أدبيا وتقاسم وإيّاهم عقودا طويلة من الزمن’. ويشير الكاتب: ‘انّ أحد أعزّ أصدقائه وهو بيلينيو أبولييّو ميندوسا يعبّر عن انشغاله الكبير بالوضع الذي أصبح فيه الكاتب الكولومبي لانّ والدة غابو واحدى أخواته توفّيتا بالزهايمر’.

يقول الكاتب إنه لم يعد يتذكّره إلاّ إذا رأى أذنيه الكبيرتين، عندئذ يتذكّره على الفور، وأنّ’غابو’ لم يعد يتذكّر أحدا من أصدقائه بواسطة صوته’، وسأله الكاتب ‘إدغار’ إن كان يوما قد تشاجر معه بخصوص دعمه لفيديل كاسترو؟، فاجابه أنّ ذلك كان باستمراريشكّل مشكلا بالنسبة لجميع أصدقائه كنّا دائما نناقش معه هذا الأمر بنوع من الدّعابة والتسرية، وهذا أمر لا يعرفه أحد، فقد قدّم لنا في العديد من المناسبات دعمه لإطلاق سراح العديد من المعتقلين السياسييّن في كوبا بفضل صداقته مع فيديل كاسترو، وأخرجناهم من هذه الجزيرة. بل إنه بطلب منه كذلك ساعد صحافية كوبية تعيش في البرتغال فسمحوا لوالدتها التي تبلغ الثمانين من عمرها لتخرج من كوبا لزيارتها، إذ كانت السلطات الكوبية تمنعها من ذلك من قبل. ويشير الكاتب أنّ غابرييل غارسيا ماركيز أخرج من كوبا المنكوبة حوالي ألفي شخص .

أثينا أمريكا اللاتينية

وقد نشر الكاتب بلينيو أبوليّيو ميندوسا مؤخرا كتابا تحت عنوان ‘لديّ الكثير ممّا أحكيه’ يقول في الغلاف الاخير من هذا الكتاب: ‘أن الإنسان عندما يهرم يكتشف أن وراءه ليس حياة واحدة فقط بل حيوات كثيرة، إنه يرى وراءه فقرات، أو فصولا من روايات لم تكتب بعد، لحظات، وجوها، أصواتا، كل ذلك تعمل الذاكرة على إضفاء هالة من النور عليه بذلك الضوء المتّقد اللمّاع الذي لا يظهر سوى عند وقت الشفق’. في هذا الكتاب لا نلتقي مع صديق الكاتب غارسيا ماركيزوحسب بل مع العديد من السياسيين، والفنّانين، والكتّاب الآخرين ‘بوغوتا’ زمان عندما كانت هذه المدينة تلقّب بـ’أثينا أمريكا اللاتينية’، نلتقي مع أسماء معروفة وأخرى ومغمورة مثل: نيرودا، ماريو بارغاس يوسا،فرناندو بوطيرو،ألفونسو لوبيس ميتشيلسن ..إلخ .كما أنّ الكاتب يسوق في كتابه العديد من الطرائف والحكايات النادرة كعثوره على شخص يحمل نفس إسمه، وهو أمر لم يكن ينتظره أبدا، أو تهديد العصابات المسلّحة له في كولومبيا بقطع أذنيه ليس لكبرهما بل لأنّهما تسمعان كثيرا وجيّدا. ويختم الكاتب قائلا متحسّرا: ‘فلنبحث عن دواء ناجع، أو وصفة طبيّة لإنقاذ ذاكرة غارسيا ماركيز حتى لا يموت مخدوعا’.

ولقد عالج هذا الموضوع كذلك كتّاب آخرون في أمريكا اللاتينية منهم ‘صامويل روساليس’ الذي كتب هو الآخر مقالا مطوّلا في نفس الموقع المذكورعن نفس الموضوع تحت عنوان ‘خريف البطريرك’ الذي يؤكّد فيه كذلك’ أن الكاتب الكولومبي الكبير (غابو) لم يعد يتذكّر بالفعل سوى طفولته البعيدة الموغلة في السنين عندما كان يتلظّى بحرارة رمال قريته الأولى ‘أراكاتاكا’. ويقول: ‘يبدو أنّ خريف بطريرك ‘ ماكوندو’ قد تحوّل بالفعل إلى شتاء عقلي مكفهرلا رجعة فيه’. ويختم الكاتب روساليس مقاله قائلا- يا للعار – ليس على غابو- بل على عائلته وأصدقائه المقرّبين الذين عملوا كل ما في وسعهم لإخفاء مثل هذه الأخبار، ومحاولة إبراز فقط صورته القديمة الساحقة التي تقدّمه للملأ كرجل عالم حكيم خبير بدقائق الأمور. إنّ غابو كان قد أغلق على حياته الخاصة أمام العالم بثلاثة مقارع، وثلاثة أقفال،وثلاثة مزالج.

مستنقعات الشيخوخة

ويشير روساليس أنّ الكاتب البريطاني ‘جيرالد مارتين’ (كاتب سيرة غابرييل غارسيا ماركيز الذاتية) كان قد قدّم بعض الاخبار بتحفّظ عنه في كتابه:’حياة’ يقول: ‘كان غابو يتذكّر ببراعة كل الأشياء التي مرّت بحياته في الماضي البعيد، ولكنه كان ينسى عناوين بعض كتبه،وكان بإمكانه أن يشارك في حوار جدّي أو مسلّ بشكل عادي. انّ مسألة معاناة ‘غابو’ لفقدانه الذاكرة لأمر فظيع، خاصة وانّه كان من أقطاب استخدام واستعمال هذه الذاكرة بمهارة فائقة، أرجو أن يحافظ غابو على توقّد وإشعاع ذاكرته في مستنقعات الشيخوخة التي التي بدأ يتخطّاها، ويعدّد الكاتب النجاحات تلو النجاحات التي حققها غابو لنفسه ولمواطنيه ولكولومبيا، منها على سبيل المثال لا الحصرعندما نال جائزة نوبل في الآداب العالمية حيث ملأت أفواج هائلة من الناس عن بكرة أبيهم كل شوارع كولومبيا وهم يهتفون بالأناشيد الوطنية إحتفاء بهذا الحدث الكبير الذي أضحى في عرفهم ‘وطنيا’ حتى النخاع’.

الكاتب ‘ميندوسا ‘الذي يعتبر من أصدقاء ماركيز المقرّبين ولد في كولومبيا عام 1932،درس العلوم السياسية في جامعة السوربون بباريس، عمل دبلوماسيا في فرنسا ،فاز عام 1979بجائزة ‘بلاسا إخانيس’ عن روايته’سنوات الفرار’، له العديد من الكتب والروايات الأخرى، وله كتاب خاص عن غابرييل غارسيا ماركيز (رائحة الجوّافة) المذكور آنفا والذي نشره عام1982.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى