مقالات لكتاب سوريين تناولت العدوان الاسرائيلي على غزة
“حماس” وجدلية غنائم الحرب/صبحي حديدي
الأرقام، في ذاتها أوّلاً، كفيلة بتأكيد المتغيرات العسكرية التي طرأت على «حماس»، بالمقارنة مع حروب إسرائيل السابقة ضدّ قطاع غزّة، عموماً؛ وضدّ الحركة، تحديداً وبصفة خاصة. خلال التوغل الإسرائيلي في عمق غزّة، أواخر 2008 ومطلع 2009، خسرت إسرائيل تسعة جنود، لم يسقطوا جميعهم برصاص المقاومة الفلسطينية؛ وأمّا هذه المرّة فقد قُتل ـ بالمعنى الحرفي للمفردة ـ قرابة 64 جندياً إسرائيلياً، طيلة شهر واحد.
تطوّر «حماس» العسكري تشهد عليه، أيضاً، القدرات الصاروخية الجديدة، وبعضها كان مفاجئاً تماماً للإسرائيليين، حتى إذا ظلّت الصواريخ بدائية من حيث التوجيه والتعقيد التكنولوجي. ومن نافل القول إنّ الصواريخ، أو بالأحرى ما تبقى من أعدادها خافياً في ترسانة «القسام»، باتت صخرة ثقيلة على أية طاولة للتفاوض، أياً كان الوسيط. وإذا كانت إسرائيل قد باءت بفشل ذريع في تحييد هذا السلاح، على النحو الذي أعلنه بنيامين نتنياهو كهدف لهذه الحرب؛ فإنّ أفكاراً مثل وضع الصواريخ تحت تصرّف وسيط مصري، أو حتى تسليم أمرها إلى سلطة محمود عباس، هي مقترحات غير قابلة للتطبيق عملياً، وأقرب إلى خيار الفشل المعلَن.
الأنفاق، وما تكشفت عنه شبكاتها الراهنة من فاعلية لوجستية وميدانية، كانت المظهر الثالث من تقدّم «حماس» عسكرياً؛ خاصة حين بثّت الحركة بعض أشرطة الفيديو التي تُظهر حسن استغلال مقاتلي «القسّام» لتلك الأنفاق، والمرونة العالية التي توفّرها من حيث الإغارة والمباغتة. ولم يكن بغير أسباب وجيهة تماماً ـ وقسرية في الواقع، لأنها طرأت خلال الساعات الأولى من عملية «الجرف الصامد» ـ أنّ العثور على الأنفاق وتدميرها صار في رأس أهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي، بل انقلب أحياناً إلى غطاء للهمجية القصوى التي اتصفت بها الضربات الجوية.
سياسياً، لا يلوح حتى الساعة أنّ «حماس» خسرت الكثير في علاقتها بالشارع الشعبي الغزاوي، رغم كلّ ما أصاب الناس من ويلات؛ أو أنّ خسائرها خلال التصدّي للعدوان الإسرائيلي تفوق كثيراً ما كانت تخسره بصفة يومية، منذ سبع سنوات أعقبت سيطرتها على القطاع. لكنّ الحركة، في الإجمال العربي والإقليمي الذي يتجاوز معطيات القطاع المحلية، تغيّرت بالفعل؛ راضية، وبإرادتها أحياناً (كما في الموقف من الانتفاضات العربية عامة، والعلاقة مع النظام السوري وإيران و»حزب الله» خصوصاً)؛ أو مُكرَهة مجبَرة، حيناً آخر، ولاعتبارات موضوعية وذاتية في آن معاً (كما في قراءة الحركة للمصالة مع «فتح»، وحكومة الوحدة الوطنية، ومتغيرات المشهد الإقليمي والعربي).
وثمة، هنا، سيرورة جدلية لافتة، لأنها تقيم ميزاناً تبادلياً بين الربح والخسارة: ما تخسره «حماس» من تبدّل مواقف الحكومة المصرية في عهد عبد الفتاح السيسي، بالمقارنة مع المواقف في عهد الرئيس السابق محمد مرسي؛ تكسب تعويضه في اضطرار مصر إلى لعب دور الوسيط، والتعامل مع قيادات «حماس»، وليس سلطة عباس، بوصفها الناطقة باسم غزّة، والمفوّضة بقبول الهدنة أو رفضها. وكذلك الحال، وإنْ بمنطق مختلف، في الحرج البالغ الذي وقع فيه حسن نصر الله وهو يكتفي بمساندة «المقاومة» لفظياً وخطابياً فقط، في حين أنّ عناصر حزبه الأشاوس كانوا يقاتلون إلى جانب النظام في سوريا، ضدّ شعبها.
وأمّا حال هذا الميزان التبادلي مع إسرائيل، فإنها أمضّ عاقبةً، رغم أنّ تجلياتها تقتصر على الرمز وحده أحياناً: أنّ «حماس» ليست باقية في غزّة، أكثر اطمئناناً إلى مواقعها على خريطة التفاوض، فحسب؛ بل أفضل استعداداً لاستثمار خسائرها الجسام، وتحويلها إلى… غنائم حرب!
مسؤوليّة البحث عن الوطن/ سمير العيطة
فشل العدوان الإسرائيليّ على غزّة في نقطة جوهريّة ومهمّة، وهي أنّ وحدة الضفّة والقطاع قد ترسّخت. الفصائل الفلسطينيّة توحّدت في وفدٍ مشترك يفاوض بصوتٍ واحد للخروج من الحصار المفروض على غزّة منذ سنين، أرضيّته أنّ الجميع مسؤولون أمام وحشيّة العدوان وما أوقعه من دمٍ ودمار ما أفقد إسرائيل رصيداً معنويّاً كبيراً لدى الرأي العام العالميّ.
كان أحد أهداف العدوان هو ضرب اتفاق حكومة الوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة، وضرب إسفين التفرقة بين من اختار النضال السياسيّ وذلك الذي اعتمد المقاومة المسلّحة، بين القوى التي اعتمدت الإسلام السياسيّ وتلك التي لا تعتمده، وبين من ناصر حكومة «الإخوان المسلمين» في مصر وذلك الذي ناهضها، وبين من دعمته دول الخليج ومن دعمته إيران وسوريا. لكنّ من اختار المقاومة المسلّحة أثبت جدارة وصلابة، ومن اختار النضال السياسيّ وقف وراء هذه المقاومة في وجه العدوان، الذي بات استمراره مستحيلاً وباهظ الثمن. بالتالي، ما كان مشروع حكومة وطنيّة هشّا، استجابة لمطلبٍ شعبيّ بالوحدة، أضحى مشروعاً فلسطينيًّا لفكّ غزّة من الحصار ولنصرة أهلها ودعم صمودهم وتضميد جراحهم، بلّ ربّما لخطوات أكثر تقدّماً في اتجاه وضع يعمل أكثر لمصلحة الفسطينيين ووطنهم وحريّتهم.
معركة هذه الوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة هي اليوم في بداياتها على أرض السياسات الإقليميّة والدوليّة، كما في الداخل الفلسطينيّ. والمعركة قد تواجه اختبار عدوانٍ جديد. إلاّ أنّ المنطقة برمّتها هدّأت من صراعاتها المذهبيّة العقيمة لدعم الفلسطينيين باستثناء التنظيمات الإرهابيّة. وبرز بحكم الواقع الجغرافيّ دور محوريّ لمصر ما بعد تطوّراتها الأخيرة، وما قد يكون مفترق طرق لسياساتها المعتمدة منذ زمنٍ طويل.
في لبنان أيضاً، أدّى نقل الصراع السوريّ المسلّح إلى الداخل اللبنانيّ إلى بروز موقف موحّد غير مسبوق بين الفرقاء اللبنانيين وراء جيش بلادهم، وذلك برغم الاستعصاء السياسيّ الحادّ الذي ترك البلاد من دون رئيس جمهوريّة.
لقد أضحى الأمر أكبر من سياسة «النأي بالنفس»، ومن إدانة انخراط «حزب الله» ولبنانيين آخرين في الحرب السوريّة لجانب هذا الطرف أو ذاك، إذ مثّل خرقاً لهذه السياسة. واحتلّ مقدّمة الاهتمام مشهد مسيحيي الموصل وأيزيدييّ العراق الذين تنتهك حقوقهم وكراماتهم ويهجّرون، وصورة انفراط عقد وحدود المنطقّة برمّتها من جرّاء التنظيمات المرتبطة بـ«القاعدة». هكذا عادت ذكرى الحرب الأهليّة اللبنانيّة المدمّرة إلى الأذهان وبرزت مخاطر تفجير فتنتها من جديد، التي يبقى الجيش اللبنانيّ هو الحصن الأساسيّ للوقاية منها.
أضف إلى ذلك أنّ لبنان يحتضن اليوم لاجئين سوريين يفوق عددهم ثلث سكّانه. لقد أتوا إليه أوّلاً بحثاً عن الأمن وهرباً من الحرب. وتبقى مسؤوليّة الحفاظ على أمنهم على عاتق الدولة اللبنانيّة والجيش اللبناني باعتباره أداتها التنفيذيّة، وهذا ما لا يمكن تحقيقه من دون وحدة وطنيّة لبنانيّة.
هذه الوحدة الوطنيّة الجديدة تضع حزم قيادة الجيش اللبنانيّ وحكمتها على المحكّ، وتفتح المجال للخروج من الاستعصاء السياسيّ القائم بالرغم من ارتباط هذا الاستعصاء بالصراعات الإقليميّة المحتدمة.
أمّا في سوريا، فلا وحدة وطنيّة حتّى اليوم. ولا حتّى توحّد ضمن أطياف المعارضة ولا بين القوى الموالية للسلطة الحالية. خلافات حول الأسس والأهداف وتعريف الإرهاب والسيادة والوطنيّة وطبيعة الصراع ومن هو الصديق ومن هو العدوّ، وقتال حول موارد وسبل التمويل والتسليح.
السلطة القائمة واهمة عندما تتصوّر أنّها ستفرض نظرتها وهيمنتها بقوّة السلاح، والمعارضة لم تفقد بعد الأمل في أنّ دولاً خارجيّة ستساعدها على فرض نظرة مخالفة أيضاً بالقوّة. المستفيد الوحيد هو التنظيمات المرتبطة بـ«القاعدة» وإسرائيل، وكلا الفريقين لا يريدان أن تبقى سوريا وطنا لكلّ السوريين.
على كلّ وطنيّ حريص اليوم، وفي جميع الحالات، أن يأخذ موقفاً مسؤولاً وشجاعاً بحثاً عن وقف الشرذمة وفي سبيل مستقبل الوطن والمواطن.
السفير
التغير في الموقف من «حماس» وإسرائيل/ عمّار ديّوب
بعد حرب إسرائيل على غزة عام 2008، تصاعد جدل كبير، حول دور «حماس» فيها، وحمّلت مسؤولية ذلك، بحجة أنه لولا صواريخها لما كانت الحرب. الحجة ذاتها تستعاد الآن. وهناك حجة تشبهها قيلت يوماً بخصوص حرب إسرائيل على لبنان عام 2006.
وبعكس هذا الاتجاه، كان الاتجاه الممانع الذي يتجاهل الطبيعة الأصولية والطائفية لحركة «حماس» و «حزب الله» وشمولية دول الممانعة، فيعطيها صفات تصل إلى تمجيدها كإله ما دامت لديها نية ضرب إسرائيل وليس الفعل ذاته. وهذا اتجاه نظامي، يوظف طاقاته الفكرية في خدمة تلك الحركات والدول من دون أن ينتابه القلق من أن هذه التشكيلات ربما كانت لديها غايات أخرى.
أما الآن فالجدل يحاول تلمس القضية بعمق أكبر. فلم تكن المقاومة المدنية البديل عن الصواريخ، بل خضعت غزة لحصار مشدّد وأمعن التقطيع بالضفة وبنيت المستوطنات الجديدة وصودرت الأرض وهمشت سلطتها. وهذا بالضبط ما دفع سلطة الضفة وحركة «حماس» للذهاب نحو حكومة المصالحة، وهو ما رفضته إسرائيل وشنت حربها على غزة. إذاً ليست تلك الصورايخ سبب الحرب ولا استطاعت كذلك أن تكون البديل كما تقول جماعات الممانعة. وفي لبنان تهمّش «حزب الله» ولم يعد بمقدوره الدفاع عن خيار المقاومة، وقد تآكلت شعبيته التي توسعت بعد حرب 2006. فهو في سورية يقاتل مع نظام الممانعة ضد الشعب.
لا شك في أن جديداً حصل في ما بعد الثورات العربية. فالأنظمة الشمولية تخلخلت كثيراً، وإمكانية تحقيق الحريات صارت من حقائق الواقع وإن بتعثر ما، وإسرائيل التي وعدت سلطة الضفة بدويلة على أراضي 67 وفق أوسلو لم تقدم شيئاً لها. وأمامنا نقاش جديد يظهر من خلال كتابات المثقفين السعوديين وغير السعوديين كذلك في جريدة «الحياة». فقسم منهم يقول إن الصواريخ هي السبب وقسم آخر يرى المشكلة الحقيقية هي إسرائيل ورفضها لتطبيق اتفاقيات أوسلو وليس لسلطة «حماس» فقط.
واقع ما بعد الثورات العربية يؤكد أن الأنظمة تتهاوى ولنقل تتغير. وبالتالي تطرح كل قضايا المنطقة بقدر من الموضوعية، وبعيداً من البعد الإيديولوجي والذي في وجه منه كان ضدياً ويرفض كل آخر، وبالتالي فالليبراليون يرفضون جماعات المقاومة والممانعة لأنهم كذلك، والأخيرون يرفضون الأوائل لأنهم كذلك. وفي موضوع فلسطين فإن طبيعة إسرائيل لم تتغير كدولة صهيونية استعمارية، وقد طرحت نفسها بشكل صريح كدولة لليهود، ويتكشف كذلك أن خيار تغييب الشعب باسم المقاومة أو السلطة أفلس نهائياً.
إسرائيل متخوفة من كل هذه الأجواء، وهذا ما دفعها إلى رفض حكومة المصالحة وتحذير سلطة الضفة من ذلك، ولاحقاً قامت بغزو غزة. إسرائيل الآن ستعيد حساباتها، فالإدارة الأميركية لا تستطيع حمايتها من متغيرات المنطقة، وربما كانت حرب غزة من آخر الحروب التي تُغطى أميركياً، وفي هذا الإطار من الخطأ تجاهل التقارب الأميركي الإيراني والجفاء مع السعودية. وهنا لا ننسى أن من أفشل مهمة كيري الذي تردّد على المنطقة مرات عدة هي إسرائيل ورفضها التساهل في المفاوضات مع الضفة. طبعاً غزوها الأخير والقاسي ستكون غزة بعده مدماة تماماً، وستتعثر من جديد حكومة المصالحة التي كان مزمعاً تشكيلها. وقضية إعادة إعمار غزة ستكون مشكلة الحكومة القادمة لزمنٍ طويلٍ.
و «حماس» و «حزب الله»، على رغم الحضور الكبير للإسلام السياسي بعد الثورات العربية، أصبحا سبباً إضافياً للأزمات في لبنان وفلسطين ومصر وليبيا واليمن وسواها، وبالتالي أصبح الميل الشعبي يتجه الى رفض دورهما السياسي الرئيسي.
لقد فشلت «حماس» في غزة، والحصار ليس سبب كل مشكلات غزة، إذ هناك أيضاً سياسات «حماس» الاستئثارية. وفي لبنان تبين لغالبية مؤيدي «حزب الله» بطلان دعواه بتبني المقاومة، فجنوده يقاتلون السوريين ويعودون مجرد جثث لا شهداء. وفي مصر سقط حكم «الإخوان» بسبب استحواذهم وتفردهم في السلطة ورفضهم حتى التعاون مع السلفيين، وفي تونس يتبين كل يوم فشل «الإخوان» في حل الأزمات، وفي ليبيا فشلوا في الانتخابات الأخيرة. وهكذا بدأ يتشكل ميل مضاد للإسلام السياسي، وهذا ما سيطرح على الواقع مجدداً كل أشكال المقاومة في فلسطين وسواها، لكنها لن تكون بقيادة الحركات الإسلامية كما الأمر في العقود السابقة. هذا ما تخشاه كذلك إسرائيل، سيما أنها تقرأ مؤشراته في اندلاع احتجاجات واسعة قبل الغزو وأثناءه، وهناك من يصفها بالانتفاضة الثالثة.
هذه التغيرات تقلق إسرائيل كثيراً، وتقلق «حماس» كثيراً. ولكنها تعبر عن أن المتغيرات بسبب الثورات لن تتوقف عند عودة بعض أشكال الحكم القديمة للسلطة مجدداً. الحركات الجهادية ليــست البديل بل هي نتاج الحروب والأزمات الكبرى، وستتقلص حالما تترسخ التغيرات المستمرة لجهة الحريات ودخول الشعوب حقل المشاركة السياسية والمطالب الاقتصادية والاجتماعية وسواها.
* كاتب سوري
الحياة
حرب غزة كما يراها السوريون…/ أكرم البني
على غير العادة تباينت مواقف السوريين وردود أفعالهم من الحرب الدائرة في غزة. فالمألوف حصول ما يشبه الإجماع على رفض أي عدوان صهيوني ضد الشعب الفلسطيني ومناهضته، ليس فقط لحساسية حضور المسألة الوطنية في وجدان الشعب السوري، إنما أيضاً بسبب روابط تاريخية بين الشعبين بلورت حالة مزمنة من تعاطف السوريين مع معاناة الفلسطينيين ومظالمهم، تجلت تاريخياً بروح متحفزة وباستعداد استثنائي لتلبية أي استغاثة يطلقونها. لكن اليوم ثمة مياهاً كثيرة جرت، وهناك متغيرات سياسية ونفسية عميقة طاولت السوريين بعد ثلاثة أعوام ونيف من تفاقم الصراع الدمويي في البلاد.
بداية، وفرت حرب غزة فرصة ثمينة استثمرها الإعلام الرسمي لإحياء الشعارات الوطنية والترويج لفكرته عن وجود مؤامرة خارجية تهدف ضرب محور الممانعة، بدأت ضد سورية وتستمر في غزة، لتتواتر الاتهامات والإدانات بحق الثورات العربية، وأنها هي أساس الداء والبلاء اللذان عمّا المنطقة وأوصلاها إلى حالة من الضعف مكّنت نتانياهو من الاستفراد بأهل غزة والتنكيل بهم، وكأن العرب والفلسطينيين كانوا أفضل حالاً قبل ذلك، وكأن إسرائيل لم تشن حروباً شرسة في فترات سابقة ضد غزة وللأسباب ذاتها، كل ذلك من أجل تشويه الدوافع الحقيقية للثورات ورفض الاعتراف بالأسباب السياسية والاجتماعية للأزمات العربية، والأهم صرف الأنظار عن تصاعد العنف والتدمير في البلاد، وعن معاناة تشتد وتتعاظم لدى غالبية السوريين في الداخل أو في الشتات. في المقابل أربكت حرب غزة الجسم السوري المعارض، وزادت من تشتته ومن ضعف مواقفه وخياراته، فمن جهة شكلت طوق نجاة لبعض أطراف المعارضة التي لا يزال الهم الوطني يحتل الأولوية لديها، أو لنقل حافزاً يشجعها على إزالة ما تبقى من إحراجات لتبرير إعادة النظر باصطفافاتها وبمواقفها من أطراف الصراع، والحجة تنامي الأخطار الصهيونية، فكيف إن أضيف إليها ما يشكله تنظيم «داعش» من تهديد للكيان السوري!
وإذ ينسحب هذا الأمر على بعض القوى التي تنتمي إلى معارضة الداخل، فهو يشمل أصواتاً قيادية في الخارج بدأت تطلق التصريحات لطي صفحة الماضي وتبني الحلول الوسط، من دون أن نغفل نظرياً عن احتمال تقدم موقف جديد لـ «الإخوان المسلمين» أسوة بقرار تجميد معارضتهم للنظام السوري إبان العدوان على غزة عام 2008.
ومن جهة أخرى ثمة معارضون تملأهم الريبة والشكوك من حرب غزة، إما لأنهم يخشون دورها الموضوعي في منح السلطة فرصة لإطلاق يدها في الفتك والتنكيل مطمئنة إلى انشغال العالم هناك، وإما لأنهم يتحسبون من أن تفتح هذه الحرب، إن طال زمنها واشتد أوارها، بوابة على متغيرات تعيد للنظام ولأطراف محور الممانعة بعضاً من دور إقليمي ينحسر، أو تفضي إلى خلط الأوراق وخلق تحول في التفاعلات السياسية الجارية في الدوائر الغربية والعربية تحبذ التعاطي مع النظام السوري لضمان استقرار المنطقة. وهناك بين هؤلاء المعارضين من دفع موقفه إلى آخر الشوط معتبراً حرب غزة في توقيتها وزخمها حرباً مفتعلة بتحريض إيراني، وكردٍّ من طهران على الجديد الحاصل في العراق وسورية بعد التقدم الكبير الذي أحرزه تنظيم «داعش» في مواجهة ركائزها ونفوذها.
كان للمشترك الديني دور كبير، هذه المرة، في قراءة تعاطف قطاع من السوريين مع أحداث غزة، بعضهم لأنه يعتبرها حلقة من سلسلة واحدة، تشمل العراق وسورية، غرضها النيل من الكتلة السنّية في المنطقة، مشيراً بالبنان إلى ما يبدو اتحاداً أو تواطؤاً بين القوى العالمية والإقليمية على ضرب الوجود الاجتماعي والسياسي للإسلام السنّي وتفكيك وجوده المشرقي، واضعاً المعارك الضارية ضد الجماعات الأصولية المتشددة في هذا الإطار. وبعضهم لأنه يراهن على صمود غزة في إرجاع بعض التألق لتيارات الإسلام السياسي بعد المثال المصري وما خلفه من ضرر على سمعتها وشعبيتها، نتيجة سعيها للاستئثار بكل شيء بعد وصولها إلى السلطة وانكشاف هشاشة التزامها بمصالح الناس وبالديموقراطية والدولة المدنية.
ويبقى أن هناك سوريين لا تعنيهم كثيراً حرب غزة، ربما لأنهم غارقون حتى النخاع في عذاباتهم ويكتوون بشروط حياة ظالمة لا تطاق، وربما لأنهم يشعرون بأن ما يعانونه ويكابدونه أشد وطأة مما يعانيه الفلسطينيون، وربما من باب الاعتراض على حرب سرقت الأضواء المسلطة على محنتهم. ولكن كل ذلك لم يحجب إمارات الحزن لدى غالبيتهم حين التطرق إلى أحداث غزة، وذاك القلق الإنساني من احتمال تطور غير محمود للحرب هناك، مشفوعاً برغبة صادقة بأن لا تذهب الأمور نحو إغراق غزة في دوامة عنف أعمى مديد كالذي يعيشونه يومياً.
استياء السوريين من المجتمع الدولي كبير بسبب سلبيته من مأساة المنطقة ومن هذا التمادي غير المسبوق في الفتك والتنكيل، وبسبب استهتاره المخزي بالأرواح التي تزهق وبالمجتمعات التي تدمر وبأحلام الأطفال البسيطة التي تهتك. ولا تقلل هذا الاستياء الصرخات الكثيرة المنددة بالعدوان الإسرائيلي، أو ما يدبج من عبارات وبمختلف اللغات لإدانة عنف الأنظمة والجماعات الارهابية، فهي إدانات لا تتجاوز برودة الكلمات، أحياناً تساق من باب رفع العتب، وأحياناً لامتصاص الضغط الأخلاقي الناجم عن مشاهد مروعة لا يحتملها عقل ولا ضمير، وأحياناً كي لا يذكر التاريخ أن الإنسانية لاذت بالصمت بينما آلات الموت والدمار تعمل بأقصى طاقتها.
والحال، إن الاستمرار في وأد حلم الشعوب العربية بالحرية والكرامة والاستهتار بحقوق الفلسطينيين، ربطاً بتقاعس المجتمع الدولي وتلكؤه في التعاطي مع صور العنف المفرط في غير بلد عربي ومع عنجهية الكيان الصهيوني ووحشيته، عوامل تغذي لغة الحروب ومنطق الغلبة والمكاسرة، وتغلق الأبواب أمام وسائل الحوار وقواعد الحياة الديموقراطية في إدارة الصراع، والتي من دونها لا يمكن تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.
* كاتب سوري
الحياة
الفيل والقضيّة الفلسطينيّة/ خطيب بدلة
أبدأ بالمشهد الذي نقلته قناة “الجزيرة” من سجن في مصر، مساء يوم الأحد 3 أغسطس/ آب الجاري، فيه سجناء من جماعة الإخوان المسلمين يهتفون، من خلف القضبان، معلنين تضامنهم مع غزة. هذا المشهد، برأيي، ذو دلالات كثيرة، ومتناقضة، ومتشعبة.
ليس في نيتي، بالتأكيد، أن أستهين بنضال الشعب الفلسطيني، أو أن أقلّل من حجم القمع الإسرائيلي للشعب الفلسطيني الممتد من أواسط شهر أيار/ مايو 1948 وحتى تاريخ كتابة هذه المقالة، لكنني أتساءل:
– ماذا يعني هذا، الآن، بالنسبة لهؤلاء الإخوة المصريين الذين كانوا في ذروة الاستمتاع بنشوة السلطة، وبـ(الشرعية) المستمدّة من صناديق الاقتراع، وفجأةً جاء مَنْ ينقلب عليهم، ويودعهم السجن، تعسفياً، ويستصدر بحقهم أحكاماً ليس بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة فحسب، بل بالإعدام؟
وعينا على هذه الحياة، نحن أبناء هذه الأمة العربية الممتدة أراضيها من المحيط إلى الخليج، ونحن نرى الحكام المستبدين والخطباء المفوّهين وهم يتضامنون مع فلسطين، ويغنّون لفلسطين، ويترنّمون باسم فلسطين، ويكتبون عن فلسطين، ويؤرخون لفلسطين، ويؤلفون المجلدات عن فلسطين، حتى إن طرفةً رُويت عن أحد طلاب الماجستير في التاريخ في جامعةٍ عربية، اختار لأطروحة التخرّج الخاصة به موضوعاً عن “الفيل”، فاستغرب الأستاذ المشرف، وقال له:
– يا ابني، أنت لا تستطيع أن تكتب عن تاريخ الفيل سوى بضع صفحات، فماذا ستفعل حتى يتجاوز حجمُ أطروحتك مئة صفحة على الأقل؟
فأجاب الطالب: بسيطة أستاذ، نضيف للأطروحة فصلاً بعنوان: “الفيل والقضية الفلسطينية”!
معروف أن النظام السوري ما يزال يشن، بالتعاون مع نظام وليّ الفقيه الإيراني، منذ أزْيَد من ثلاث سنوات، حربَ إبادة لا مثيل لها في التاريخ ضد الشعب السوري، وضد الفلسطينيين المقيمين في سورية، ويَسقط على يديه ويدي الميليشيات المتطرفة الموالية له، مئات القتلى وآلاف الجرحى. ومع ذلك، تزامن اجتماعٌ لمعارضين سياسيين سوريين في مدينة تركية، مع الحرب الشرسة التي تشنها إسرائيل على غزة من جهة، والحرب الرهيبة التي تشنها الدولة الإسلامية في العراق والشام، “داعش”، على أهل الرقة ودير الزور والموصل. وفي أثناء الاجتماع، دعا أحدُ هؤلاء المعارضين السوريين إلى وقفة تضامنية مع (أطفال ونساء) غزة والمسيحيين المُهَجَّرين من بيوتهم في “الموصل” و”الحسكة”!
هذا الاقتراح، على ما أزعمُ، يشير إلى وجود طريقة في خلط الأوراق عربية، أصيلة، نادرة. ويدلّ، دلالة قاطعة، على تَأَثُّرٍ واضحٍ لدى هؤلاء المعارضين بالنظام السوري الذي يثورون عليه ويعارضونه! فالخطيب السوري (النظامي)، حينما كان يعتلي المنبر، ويواجه الجماهير ذات الإرادة المسلوبة، لم يكن يسمح لأحد بمغادرة القاعة قبل أن يقرع مسامعنا بالصياح عن تصميمه، وتصميم قيادته الحكيمة، على تطهير الجولان، والقنيطرة، والضفة الغربية، ونهر الأردن، وقطاع غزة، والقدس، وسيناء، من رجس شُذّاذ الآفاق الصهاينة، ربيبة الاستعمار والإمبريالية العالمية، حتى إن سيدة، كما روي لنا، كانت تَحْضُرُ مهرجاناً خطابياً بعثياً، ومن فرط ما قال الخطيب: “سنطهّر”، فكّت “لفّة” وليدها الصغير، وقالت له:
– زكاة عافيتك يا رفيق، طَهِّر لنا هذا الولد بطريقك!
ما زال الثوار السوريون، اليوم، وللأسف الشديد، يمشون، من دون وعي منهم، على خطى الإعلام السوري الذي يقوم، برمته، على التهويل، والابتعاد عن تسمية الأشياء بمسمياتها، بغية استدرار عطف الرأي العام.
أذكر، استطراداً، أن الأديب السوري الراحل، ممدوح عدوان، استنكر، مرة، نقل التلفزيون العربي السوري لقاءات مع سيدات استشهد أبناؤهن، والمذيع الذي يقابلهم يسعى جاهداً ليُظهرهن مسرورات، يكدن يطرنَ من الفرح بفقدهم! مع أن الوضع الطبيعي أن تبكي الأم ولَدها بحرقة، ولو كانت متأكدة من أنه، باستشهاده، سيخلد في الجنة.
ضمن سياق هذا المنطق، يمكننا أن نوجه سؤالاً جدياً لهؤلاء السادة الثوار:
لماذا تشيرون في حربكم الإعلامية ضد العَدُوَّيْن، النظام السوري وإسرائيل، إلى إقدامهما على قتل الأطفال والنساء فقط؟ هل يعني هذا أن أياً من هذين العدوين لو اقتصر على قتل الرجال، لكان عمله مقبولاً ولا يحتاج إلى استنكار؟!
لا شك في أن قتل الإسرائيليين الصهاينة الرجال والنساء والشيوخ والأطفال الفلسطينيين عمل شنيع، ولا يمكن قبوله، ولا يجوز السكوت عنه. ولكنه لا يمكن أن يوضع في سلة واحدة (أو: في وقفة تضامنية واحدة) مع تهجير المسيحيين من منطقة الجزيرة السورية. فمثل هذا العمل الخسيس حينما يصدر عن دولة غازية، مغتصِبة، كإسرائيل، يبدو طبيعياً، ومتوقَّعَاً، ولكن، أن نقوم، نحن المحسوبين على الثورة ضد الظلم والاستبداد، بتهجير أهلنا الذين نعيش معهم منذ خمسة عشر قرناً، من دون أي سبب أو مسوّغ أو مبرر، فهذه اسمها قمة (الحقارة التاريخية) التي سيندى لها جبين الإنسانية جمعاء!
الرحمة لروح معلمنا الأديب الفلسطيني الكبير الساخر، إميل حبيبي (1921 ـ 1996)، فقد كان يقول لنا، بين حين وآخر:
– آخ لو أنكم تتركوننا نحن الفلسطينيين بحالنا.
العربي الجديد