مقالات لكتاب سوريين عن الثورة في مصر
ثورة شعبية أم انقلاب عسكري؟
مناقشة لمقال حازم صاغية *
جورج كتن
الاخ حازم، أنا اتابع جميع مقالاتك واتفق مع الكثير منها بالرأي لكن اسمح لي ان لا اتفق معك في هذا المقال فتأويلك خاطئ. المعارضة المصرية لم تلجأ للحل العسكري كما تقول بل لجأت للحل الشعبي الذي هو حق من الحقوق الديمقراطية. لم يتحدث أحد عن حل عسكري إن كان من المعارضة الرئيسية جبهة الإنقاذ او من حركة تمرد التي اكتسبت حملتها تأييدا مليونيا في المطالبة بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة ورحيل مرسي، وخرج الملايين بناء على دعوتها للتظاهر في 30 يونيو. دور العسكر جاء لاحقاً كتنفيذ للإرادة الشعبية الواسعة حسب الدور الذي وضع العسكر فيه أنفسهم بالتلاؤم مع العصر الجديد على مستوى مصر والعالم، بدأوه بشكل واضح في الانحياز للشعب مما ادى لرحيل مبارك. في ذلك الحين لم يقل أحد، وخاصة الإخوان الذين التحقوا بالثورة الشعبية بعد أن أطلقتها القوى وقطاعات المجتمع التي أطلقت الثورة الثانية، لم يقل أحد ان ذلك كان انقلاباً عسكريا ولا اظنك قلت ذلك ايضاً.
أما تصويرك ان حكم الإخوان كان يتصدع بوتيرة يومية فذلك فيه بعض الصحة ولكن مبالغ به وخاصة انهم عملوا بكل قواهم للهيمنة على المفاصل الرئيسية للسلطة، حتى السلطة القضائية المفترض ان تكون حيادية سعوا لاتباعها بسلطتهم التنفيذية، من كان يستطيع ان يضمن نجاح اي تغيير بسهولة بعد تمكنهم؟ لقد تمكن رجال الدين من السلطة في إيران بعد أن اتوا بداية عن طريق الانتخاب ثم حسنوا من هيمنتهم على الآلة الانتخابية لكيلا يطيح بهم أحد عن طريقها وهذا أسهل طريق لنظام مثل سلطة الملالي وسلطة الإخوان، لا يؤمن بالديمقراطية إلا كقطار انتخابي يركبه ثم ينزل منه على اقل تقدير إلى محطة “ديمقراطية موجهة!”. بدأوا في مصر بتصنيف 12 مليون صوتوا لشفيق بأنهم فلول، اي انهم مواطنين من الدرجة الثانية، وكانت ستتدرج في تخوين أية معارضة وتكفيرها لأن العلمانية كفر حسب القرضاوي موجههم الفكري، والسماح “بالديمقراطية!” لأحزاب إسلامية فقط إلى ان تنتقل لحزب واحد إسلامي وبقية الأحزاب هي احزاب الشيطان. هذا المنهج هو الاقرب لفهم الإخوان.
الكتلة الأساسية للمعارضة المصرية، وحركة تمرد لم تستنجد بالعسكر كما تقول، عدا اصوات ضئيلة جداً امام الغالبية العظمى التي استنجدت بالشعب مصدر جميع السلطات ومصدر اية شرعية. حركة العسكر لكي يكتمل توصيفها بانقلاب، يستلم العسكر الحكم بعد اسقاط السلطة القائمة وهذا لم يحدث، وحتى لو رغب العسكر في اخذ السلطة بيدهم فذلك سيكون خياراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً في وجه الهبة الشعبية المليونية. الجيش الآن في مصر لم يعد مميزاً كما في ايام عبد الناصر فهو لا يطمح للسلطة، مرتبط بالشعب لأنه فئة من فئاته ويتأثر بالتيارات التي تعمل ضمنه، حفظ الدرس جيداً انه في خدمة الشعب المصري وليس قائداً له، مهمته أمنية للدفاع عن الشعب والبلد.
نعم هناك انتقال سريع من شعار “يسقط حكم العسكر” إلى “ان الشعب والجيش في خندق واحد” ضد اية سلطة لا تعمل لمصلحة الناس. تغيير سريع لا يمكن لمثقفين استيعابه ولكنه لدى الشارع أمر طبيعي بهذه البساطة ولا يحتاج إلى تنظير: ضد العسكر إذا اراد الاستفراد بالسلطة، أو تحية للعسكر إذا وقف مع الشعب. السيناريو الذي تقدمه “انتظاري” لا يسمح بتغييرات سريعة، أي انتظروا ثمرة الإخوان حتى تسقط وحدها عن الشجرة، لا تسعوا لقطفها، دعوا مسافة طويلة كافية بين “يسقط حكم العسكر” و”تحية للعسكر”. هذا السيناريو الانتظاري يصلح ما قبل الثورة للمثقفين المعارضين للأنظمة الديكتاتورية الذين ينصحوا بعدم “التهور” ولكنه منطق غير صالح في زمن الثورات وانت أكثر من يفهم ذلك. نعم الثقافة الديمقراطية ما زالت هشة ولكن الشعب يتعلمها الآن في الشارع وليس في الدعوات الانتظارية.
أما الاستشهاد بما حدث في الجزائر بعد نجاح جبهة الإنقاذ الإسلامية فهو مختلف عن الحالة المصرية الراهنة، كان انقلاباً فعلاً غير مرافق على الإطلاق بثورة شعبية تسبقه او ترافقه. عندها كان رأينا مثلك الآن: انتظاري اتركوا الإخوان في الجزائر يحكمون حتى يجربهم الشعب. في مصر الشعب جربهم سنة كاملة في الحكم كانت كافية في الظروف والمزاج الثوري السائد حالياً، والذي لم يكن هناك مثيل له في الجزائر عندما قال عباسي مدني بعد نجاح جبهته في الانتخابات: “الآن انتهت الديمقراطية وبدأ حكم الإسلام”، اي نظرية الديمقراطية في جانبها الانتخابي قطار. أما ذكر تجربة غزة فهي مختلفة كلياً، علما بأن حماس التي انتخبت هي التي قامت بالانقلاب العسكري على الرئاسة الفلسطينية في غزة.
ثورة الشعب المصري لم تزود الإخوان بثوب المظلومية إلا في نظرهم هم، وليس في نظر غالبية الشعب المصري وسنتأكد من ذلك إذا كان صحيحا في اية انتخابات قادمة. المواجهة الاشد حدة التي تتحدث عنها امر لا بد منه إن عاجلا او آجلا بحكم ان ما يقدمه الإخوان من منهج سيلقى معارضة واسعة من الناس فلم يعد ينفع تسترهم بالدين لتسويق سياساتهم. اما عن أن المهللين للانقلاب يتصورون ان العسكر يسلم السلطة بسهولة فذلك اصلا غير وارد، فالعسكر لم يستلم السلطة ليعيد تسليمها او ليتمسك بها بل انتقلت مؤقتاً حسب الدستور لرئيس المحكمة الدستورية الذي سيكلف رئيس وزراء مؤقت إلى أن تجرى انتخابات رئاسية ونيابية قريبة ولن يستطيع أحد تسريح الحركة الشعبية الباهرة، لم يستطع مبارك، لم يستطع مرسي، لن يستطيع العسكر كما نتصور، ونأمل الا نكون مخطئين.
* مصر: الانقلاب واحتمالات ما بعده!: * http://alhayat.com/OpinionsDetails/529932
التغيير الآتي من القاهرة!
أكرم البني
من المرجح أن لا يذعن «إخوان» مصر لهزيمتهم وأن تتوسل قيادتهم ما تملك من قوى ومناورات وحتى أساليب عنف لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه. لكن هذا الخيار، هو أشبه بمغامرة طائشة، لا تأخذ في الحسبان حراكاً شعبياً كاسحاً يتصاعد ضدهم، ويمتلك، في بلد كمصر، الإمكانية والإرادة لتنفيذ خريطة المستقبل ووضع دستور جديد وإنجاز انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة… بالتالي ليس تسرعاً القول إن حشود المصريين في 30 كانون الثاني (يناير) وما تلاها من تحولات سياسية، تترك علامات مهمّة في مسيرة الثورات العربية، وينتظر منها أن تؤسس لتغييرَيْن حيويَّيْن، لا بد منهما لنجاح التحول الديموقراطي العربي المنشود.
التغير الأول، أن تفتح الثورة المصرية الطريق أمام دور تاريخي جديد للجيش في الحياة السياسية، بصفته أداة عمومية لحراسة أمن الوطن ومؤسسات الدولة الديموقراطية، وليس وسيلة للاستئثار والاستبداد وفرض السيطرة بالقوة العارية على السلطة والدولة والمجتمع، ما يزيح الصورة النمطية التي كرسها ماضٍ زاخر بالانقلابات العسكرية.
صحيح أن كثيرين يتخوفون من أن تفضي التطورات في مصر إلى استئثار العسكر بالحكم والعودة إلى ما يشبه مرحلتي عبدالناصر وحسني مبارك، لكن ثمة حيثيات جديدة تفرض نفسها اليوم ويفترض عدم إغفالها، منها أن الدور الذي يقوم به الجيش اليوم جاء استجابة لتحركات جماهيرية واسعة جداً، تعي مثالب تمكين العسكر من الحكم وحذرت منه وحاربته في المرحلة الانتقالية التي تلت إسقاط حسني مبارك، واستطاعت تحييد القوات المسلحة وإبعادها كمكوِّن يحوز أكبر قوة منظمة، عن التأثير في الحياة السياسة… ومنها أن العملية اليوم تتم في مناخ عربي ودولي لا يحبذ أن تلعب الجيوش دوراً سياسياً مهماً ونافذاً، على عكس مراحل الستينات وما تلاها، حين كانت الانقلابات العسكرية مجرد أدوات في «لعبة الأمم»، تلقى الترحيب والتشجيع من الدوائر العربية والعالمية… ومنها أن مسألة الحريات السياسية والإعلامية وحقوق الإنسان صارت أشبه بخط أحمر يصعب على أية سلطة جديدة تجاوزه من دون أن تقع في مطب العزلة والرفض، وهي الحريات التي تشكل ألد أعداء السلطات الاستبدادية ونقطة ضعفها في الاستفراد بالحكم. ومن الحيثيات الجديدة أيضاً أن غالبية القوى السياسية المصرية تعي أخطار وصول الجيش إلى الحكم وتحذر من تبعاتها وقد عانت منها كثيراً، وفي مقدمها «الإخوان المسلمون» أنفسهم، ما يرجح في حال تجاوزوا أوهامهم بأن منطق الغلبة والعنف يمكن أن يعيد السلطة إلى أياديهم، وبدأوا العمل والتعاون مع القوى الديموقراطية لمواجهة احتمال تمدد الجيش في الساحة السياسية، أن يتمكنوا من معالجة هذا الخطر وإبعاد هذه الكأس عن مصر.
مع ذلك يجب أن لا يضع أحد يديه في الماء البارد، أو يستند إلى ما سبق لإثارة اطمئنان كاذب في النفوس، بل على العكس يفترض أن تشهد المرحلة الانتقالية المقبلة أقصى اليقظة والحذر، وأيضاً الجهود لتعزيز المشتركات الديموقراطية وبناء الاصطفافات والتحالفات السياسية والمدنية القادرة على تطبيق خريطة المستقبل وتحجيم محاولات الجيش التطاول على السلطة والدولة.
التغير الثاني يعني هذه المرة جماعات الإسلام السياسي التي فشلت بعد عام واحد فقط في الحفاظ على الثقة التي منحها الناس إياها. وبداهة، ما حصل في مصر يفرض على هذه الجماعات، وفي كل مكان، مراجعة مفاهيمها وسياساتها وطرق عملها، بخاصة تلك التي وصلت إلى السلطة، بدءاً بـ «إخوان» مصر مروراً بغزة والسودان وحتى إيران، واستنتاج العِبَر المناسبة، وأهمها التخلص من أوهام سلاسة الهيمنة السياسية على مجتمعاتنا لأنها مجتمعات إسلامية وهي حكر عليهم… وإدراك أن الاستئثار بالسلطة وفرض الوصاية باسم الدين وفرض نمط خاص من الحياة على المجتمع، هو أمر مرفوض ومنبوذ وإن نجح لبعض الوقت، لن يدوم.
هنا ينهض السؤال مشرعاً: هل يشكل الحدث المصري حافزاً أمام قوى الإسلام السياسي عموماً لتقويم ما جرى نقدياً بما يفضي إلى نبذ عقلية احتكار الحقيقة والوصاية على الدين، وتالياً لإحلال القراءة النسبية للأمور في حقل السياسة مكان التعبئة الشمولية والإطلاقية، وتربية النفس والآخرين على قبول الاختلاف واحترام التعددية، وعلى أولوية التراضي والتوافق لبناء عقد اجتماعي يضمن للجميع حقوقهم وحرياتهم محل قواعد التسلط والإلغاء والاحتكار؟! بالتالي، هل تشهد مجتمعاتنا أخيراً أحزاباً إسلامية تهتم أساساً بحقوق البشر وشؤون حياتهم ومصالحهم، وتتمثل قول الرسول الكريم «أنتم أدرى بشؤون دنياكم» للنأي بالدين وقدسيته عن دنس الحياة ومستنقع السياسة، ما ينعكس أيضاً على التيارات السياسية الأخرى، يسارية وليبرالية، فيحررها من خوفها المزمن من قدرة الإسلام السياسي على ابتلاع المجتمعات، ويزيل من النفوس حالة العداء والنفي وعدم القبول المتبادل؟
والأهم، إعادة تعريف معنى الشرعية والديموقراطية، فالأخيرة ليست صناديق الاقتراع فقط، بل عملية سياسية وتربوية شاملة، تبدأ بمرحلة انتقالية تؤسس لقواعد وتوافقات دستورية تقوم على مفهوم المواطَنَة وقيم الحرية والمساواة والكرامة والعدالة، ولا تنتهي بالانتخابات الدورية واحترام تداول السلطة وضمان حقوق الإنسان وفصل السلطات وسيادة القانون. أما الشرعية فتستمد معناها الحقيقي، ليس من أيديولوجيا أو دين أو مشروعية ثورية، بل من رضا الناس وقبولهم وحرية اختيارهم، ومن نيل ثقتهم مما تقدمه السلطة لهم عملياً لضمان حقوقهم وحاجاتهم والأخذ بيدهم في طريق التطور والارتقاء.
قال الشباب المصري الثائر مرة أخرى إن زمن الوصاية ولّى وأن موسم الأيديولوجيات انقضى، وإنه لم يعد من مشروعية ثورية قومية أو دينية أو غيرها ما يمكن أن يقنع البشر بتأجيل حقوقهم ودورهم ومشاركتهم، مثلما لم يعد ينفع أمام بعض تجارب الإسلام السياسي المؤسفة، القول إن بؤس أحوالنا كان بسبب ابتعاد الناس عن دينهم وقيمه.
الحياة
قراءة مصر اليوم
بشير البكر
متابعة تطورات مصر تقطع الأنفاس، تشبه السباحة وسط دوامة السير في قاهرة المعز، حيث يقف الزائر حائرا متخبطا، وفي نهاية المطاف لا يجد وسيلة أكثر نجاعة من المشي السريع للوصول إلى هدفه. ومنذ 25 يناير 2011 لم تهدأ المحروسة عن توليد المفاجأة تلو الأخرى .
على المرء أن يكون ساذجا حتى يقتنع بأن مصر ذاهبة إلى استقرار قريب، ولابد للمتابع أن يتحلى بالصبر الطويل، ويتقبل الخضات والانتكاسات، ويتعلم كيف ينام على حال، ويصحو وقد تغيرت الحسابات كليا. ولا يعني ذلك أن ما يحصل في الميادين وخارجها لا تحكمه دينامية داخلية، وأن “أم الدنيا” نهب للفوضى، أو هي على شفا حرب أهلية. مصر مركز ثقل الشرق، نقطة توازن الوطن العربي، البوصلة، والاتجاه. وما يعتمل فيها من مخاض له صفة الأحداث الكبرى في التاريخ، التي يكون محورها التحول العميق في المجتمع.
نحن اليوم إزاء مشهد مصري تتقاطع فيه خطوط الطول والعرض العربية أكثر من أي وقت مضى. كلنا ننظر نحو مصر، الشعوب والأنظمة. نتابع التطورات باهتمام، ونبني عليها. صرنا مشغولين بمستقبل مصر بوصفه مستقبلنا جميعا. كلنا يجد صدى لحسه السياسي وهواه الوجداني على حافة المجرى المصري العريض. الحاكم العربي يريدها مباركية، الاخواني اخوانية، اليساري يسارية، والعسكرية عسكرية، ولكن مصر لا تقدم نفسها لأحد بسهولة.
يستسهل البعض تفسير شخصية مصر، فيقفز فوق التاريخ والجغرافيا، و ينسى أن الرياح العربية تأتي من مصر ، وتذهب إليها. ومثلما يتعلثم ويخطئ العرب والأجانب في فهم ظاهرة مصر، فإن أهلها يعانون كثيرا من نفس العارض. ورغم عبقرية الروح المصرية، فإن المشهد، على الدوام، لم يسلم من التشويش والضحالة والانحطاط. فإلى جانب القامات المصرية العالية، كان هناك اقزام صغار يحاولون أن يظهروا بوصفهم الممثلين الحقيقيين لشخصية المكان الفريد. وعلى مدى تاريخ مصر القديم والحديث حصلت مطبات وانتقالات إلى خارج السياق العام، لكنها لم تأخذ البلد برمته بعيدا عن معادلة التوازن التي استقر عليها منذ أن بات اسمه هبة النيل.
في فترات التراجع واختلاط الأوراق وانكماش مصر على نفسها، كثيرا ما راودنا نحن العرب شعور بأننا نتخيل مصر على مقاس أحلامنا، وننحت لها شخصية من مكونات ذاكرتنا الدينية والقومية والثقافية، ونرمي بضعفنا على ظهرها، لكي نتجاوز حالات الانكسار واليتم والخواء القطري. وربما كان السبب ، عائدا إلى انه بقدر ما أردنا من مصر أعطتنا في الحب والحرب والسلم والفن، ولذا،على سعة صدرها منحها العرب محبة وابداعا ووفاء.
هل نحن ضعفاء إلى هذا الحد، أم أن مصر ذات سحر خاص وتأثير لا مفر لنا منه؟
كثيرا ما ذهبنا إليها، كي نبحث عن صورتنا في مرآتها المتعددة الأبعاد، فعدنا أكثر امتلاء بالنفس، والشعور بأننا لن نكبر ولن نحيا من دون مصر، ولن تكون مصر على غير هذا الانفتاح والرحابة والاحتفاء والتسامح. ولأنها ظلت تحافظ على هذه الروحية، فإنها صارت مع الزمن مرجعية عربية ومحطة اشعاع سياسي وثقافي وفني، وباتت ملاذا في فترات التراجع والانكسار والخراب في اكثر من بلد عربي. ورغم الأزمات السياسية في العقود الثلاثة الأخيرة، وخصوصا بعد زيارة السادات للقدس، فإن مصر لم تبتعد عن العرب، بل ظل العرب يشعرون بالنقصان بسبب القطيعة مع مصر.
نحن اليوم، على ما يبدو، إزاء مشهد أشد تعقيدا من أي فترة تاريخية أخرى. مشهد شديد القتامة رغم وضوح الرؤية، لا يشبهه في الأعراض والتشخيص إلا محاولات تطويق مصر عبد الناصر صاحبة الطموح العربي الافريقي العالمثالثي. عندما ظهرت الناصرية كوعد أمام معظم العرب والأفارقة، يومها جرى اللجوء إلى مختلف السبل من أجل تكبيل مصر وتحجيمها.
كل من لا يرى مصر جيدا اليوم مدان، فعدم قراءة الوضع المصري على نحو جيد مرض خطير، يمكن أن تكون له مع مرور الوقت نتائج وخيمة، ومثله كمن لم يفكر بالمستقبل أبدا، فيصبح على مهل ضائعا أكثر فأكثر، أكثر خواء بما يلفت النظر، ويفقد، دون شك، قليلا قليلا، أحلامه.
المدن
مصر اليوم: الغرام بالصورة وانتقام العسكر؟!
محمد دحنون *
الصورة «بهية» حـقاً. نجح المصريون في صنعها في 25 يناير 2011، بمساعدة كريمة من فضائيات «صناعة الصورة» ووســـائل التواصل الاجتماعي. وينجح المصريون، اليوم مجدداً، في إيصال «صورة» عن أنفسهم، يصعب على كل ذي قلب إلا أن يتعاطف معهم بعد مشاهدتها، وليس بالضرورة مع «قضيتهم».
والأهم في شأن الصورة، أن صانعها (الأمة المصرية) أول من يفتتن بها. ثمة نرجس «ما» في المسألة. «الأمة» تستكشف قوتها، وُتعجب بقدرتها على «إسقاط النظام»، كل نظام، ساعة تشاء. أو هذا على الأقل ما يبدو لها.
تنشغل «الأمة» عن «السياسة» بأوسع معانيها، وأول ذلك معناها كنقيض للعنف بكل أشكاله، تنشغل عنها بما يفتنها: قوتها في الصورة، «ثورتها» الرائعة! ملايين من البشر في الشوارع العامة، رجالاً ونساءً وأطفالاً، ليلاً ونهاراً، يكرسون نضالهم وجهدهم وإبداعهم أيضاً، لنزع السلطة من حاكم بليد، عديم الكاريزما، وحزب لا ُتنافس درجة شهوته للسلطة إلا درجة براعته في سوء استخدامها.
الملايين الذين يصنعون صورتهم هم «كل» مصر، هذا ما يريد إعلام «صناعة الصورة» أن نصدقه، وهذا ما ينبغي أن يثير الدهشة والعجب: إذ كيف لكتل اجتماعية يُفترض بها أن تكون متخاصمة على السلطة والثروة، أن تتوحد في ميادين عامة لتثور ضد الرئيس وحزبه فقط؟ هل تحول «الإخوان المسلمون» إلى ذلك الجزء المريض الذي لا أمل في شفائه في جسد الأمة المصرية؟ وهل بات بتر هذا الجزء «هو الحل»؟!
تخترق صفوف الطبقة الوسطى «الثائرة»، حاملةً «مشروع التغيير»، بعضٌ من الشرائح الأكثر فقراً وتهميشاً، كما ينضم إليها بعض شرائح الطبقات العليا. «الكل» في مصر، وفق الصورة، ضد الرئيس وجماعته. يتظاهرون لإفشال مشروع الجماعة «الشيطاني؟!» الذي سعى ويسعى إلى تحويل الدولة دولة فئوية، إخوانية، هذا عدا هاجس الجماعة المرضي في تديين المجال العام.
ثمة سؤالان هنا: أين نقع على الثورة حين تتوحد الأمة؟ وضد ماذا تثور الأمة حين تتوحد بالدولة، وتحديداً بأجهزتها القمعية الأشرس: الجيش والشرطة؟ وانطلاقاً من السؤالين، تبدو «الثورة» اليوم وكأنها حركة شعبية موجهة ضد «خارج ما» هو، راهناً، مصريون ينضوون تحت لواء حزب الحرية والعدالة، أو إيجازاً مصريون وحسب، وإلى جانب تلك الحركة الشعبية يقف الجيش، الذي لا بد أن يقوم بدوره في «إنقاذ «المجتمع» من «أعداء المجتمع».
توحد «الأمة» ضد «الجمـــاعة» يجعل الأخيرة تـبـــدو وكأنهـــا خارج التاريخ، أو يـــراد لــها أن تبــدو كــذلك. هـــي ليــست كـــذلك، لم تكن، ولن تكون. وينبغـــــي أن يواجه كل مسعى يبتـغــي القيـــام بذلك، لأن نجـــاحه لا يعني شيئاً آخر سوى افتتاح صفحة جديدة في تاريخ المجزرة العربية، المتعددة المعاني والأبعاد.
المجزرة التي عاشها عرب المشرق والمغرب أكثر من نصف قرن على أيــدي ضباط يتحالـــف فشلهم التاريخـــي فـــي تحديث المجتمعات وصناعة الأمم، مع نواياهم «الطيبة» و «حنانهم» على الشعب و«احتضانهم» له، ليجسدوا «أنظمة الحكم» التي لم يجد المصريون بداً من رفضها حين ثاروا ضد مبارك، ليهتفوا بعد ذلك «يسقط يسقط حكم العسكر» (مفردات الرفق والحنان والاحتضان وردت في بيان الـ «48 ساعة» للجيش، وهو ذاته الذي تضمن في أربعة سطور منه العبارتين التاليتين: «القوات المسلحة لن تكون طرفاً في دائرة السياسة أو الحكم»، و «القوات المسلحة المصرية كطرف رئيسي في معادلة المستقبل»).
وجدت المجزرة العربية عبر تاريخها العديد من «الآباء المؤسسين» و«القادة الملهمين»، وربما تجد اليوم نسخة جديدة، على الموضــــة، مـــن هــؤلاء: «مجلس رئاسي» مثلاً يفي بالغـــرض، يدفعـــه العسكر، ليقوم بـ «المهمة التاريخية» التي قام بهـــا الأسلاف، وهي: تحويل المجزرة العربية حدثاً عادياً ويومـــياً ينـــال من كـــل مظاهـــر الحياة العـــربيــــة، وليس آخرها بالطبع: حياة الأفراد أصحاب الهوية الأيديولوجية المختلفة!
المجزرة هنا لن تتوقف على «سحق الإخوان» مجدداً، بعدما سُحقوا طويلاً على امتداد أقل من قرن منذ تأسيس الجماعة في مصر (1928). المجزرة لن تتوقف لأن الآمر الناهي بشأنها لن يكون «الكل الاجتماعي» عبر ثورة أو حرب أهلية بين مختلف الكتل التي تشكله، بل عبر «الدولة»، التي تُختزل في السياق المصري الآن في الجيش ونخبه، أي الفئات الاجتماعية التي تحترف منذ ما يزيد عن نصف قرن السيطرة على كامل فضاء الحياة العربية، في الاقتصاد والسياسة والاجتماع و «الخطاب».
بدأ الأمر مع مصر نفسها، مصر عبد الناصر، وانحط الأمر بـ «عائلة» «الضباط الأحرار» إلى خليفتهم الأصغر والأشد تشوهاً وشراسة: بشار الأسد.
في المحصلة، لا سبيل إلى قمع التعاطف مع لحظة الاندفاع المصري نحو « المزيد من التغيير». لا ضرورة لفعل ذلك أصلاً. لكن التعاطف وحده لا يكفي ولن يكفي.
اللحظة المصرية تطرح أسئلة كبيرة حول سلامة الكيان الوطني المصري، وقوة «النخب» ومكرها، و/ أو رداءتها، حين يضع بعضها، أو أغلبها، كل البيض في سلة العسكر.
التعاطف لا يكفي أيضاً لأن الحدث المصري قد «يغشي الأبصار» عن المسارات المحتملة التي سيتخذها «الربيع العربي» بعد أن «يستقر الصراع» في مصر، التي تحتل موقع اللاعب الأبرز فيه، بعدما تسلمت الراية من تونس.
التعاطف، كما الافتتان بالصورة، لن ينفعا بشيء!
* كاتب سوري.
الحياة
قراءات سورية للحدث المصري
عمر قدور
كادت الأحداث الجارية في سوريا أن تغيب تماماً عن اهتمام الإعلام في الأسبوعين الأخيرين، فالتركيز على الحدث المصري شغل النسبة الأعظم من مساحاتها، حتى أن معركة مثل حرب النظام على حمص الجارية في الوقت ذاته لم تحظ بجزء ضئيل من الالتفات الذي نالته فيما مضى حرب النظام على حيّ واحد في المدينة هو حيّ بابا عمرو. هكذا تبين من الحدث المصري الأخير أن الدم السوري لم يعد ساخناً بما يكفي ليحتل طليعة الأنباء دائماً، وبعيداً عن وكالات الأنباء بات من الواضح أن الاهتمام السياسي الدولي الذي واكب قمة الثماني قد تراجع أيضاً، وقد تراجعت معه وعود دولية بتسليح المعارضة، أهمها ما أشيع أخيراً عن عرقلة لجان في الكونغرس الأميركي لإرسال شحنات الأسلحة إليها.
إذاً فقط من باب الانفعال، يمكن توجيه اللوم أو العتب إلى الإعلام العربي والعالمي اللذين همّشا الخبر السوري إلى درجة غير مسبوقة، وذلك لا يعني تجريد المصريين من أحقيتهم باهتمام وسائل الإعلام بهم، بخاصة عندما نأخذ بالحسبان انشغال مواقع التواصل الاجتماعي لنسبة ضخمة من النشطاء السوريين بالحدث المصري أيضاً، الذي قفز فجأة إلى المقدمة، وصار مثار خلافات فيما بينهم، وكأن البعض منهم راح يشاطر الآخرين مللهم من سوريا وأخبارها. على صفحات أولئك النشطاء أيضاً لم يعد لحمص تلك المكانة بوصفها عاصمة الثورة السورية، وانقسموا بين ساحتي التحرير ورابعة العدوية، بل لم يخلُ الانقسام من التغني بوطنية الجيش المصري ومقارنته أحياناً بجيش النظام السوري.
لكن للأمانة، لا يخلو انشغال المثقفين السوريين على وجه التحديد بالحدث المصري من رسائل موجهة ومسيّسة يصب قسم كبير منها في الحدث السوري ومآلاته، وقد يكون السجال فيما بينهم قد افتتح موسعاً بهذه المناسبة إلا أنه ليس طارئاً أو جديداً. هم فقط استعاروا الرموز المصرية، وهي تتشابه من حيث الشكل مع الاصطفافات السورية القائمة ضمن الثورة وبعيداً عنها. كلمة السر هنا هي تنظيم “الإخوان المسلمين”، ولا شك في أن نسبة لا يستهان بها من المثقفين السوريين تقف على مسافة بعيدة منهم، وليس نادراً أن يتبنى قسم من المثقفين الرواية الرسمية عن دور الإخوان في سوريا مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وبحذافيرها. يُضاف إلى ذلك العداء تجاه الإخوان من قبل العلمانيين حساسيةٌ سورية خاصة تتعلق أساساً بالمسألة الطائفية، والتخوفات المرافقة لها من أنّ أي هيمنة “للإخوان” تعني زيادة في الانقسام المجتمعي الذي لم يعد خافياً.
مع ذلك، المسألة ككل ليست بالبساطة السابقة، فالحدث المصري أثار انقسامات واسعة بين مؤيد للشرعية الديموقراطية ومؤيد للشرعية الشعبية، حيث تأخذ الأخيرة لدى البعض مكانة الشرعية الثورية الدائمة، وبالتالي تروّج لنظرية الثورة المستمرة. أصحاب الرأي الأخير يرون أن الثورة الأولى سُرقت، ولا يفوت بعضهم الانتباه إلى أن الثورة الثانية عرضة للسرقة أيضاً ما يستدعي دائماً بقاء الشعب مستعداً للتصدي للقوى الطامحة بالسلطة. بينما يرى أصحاب الرأي الأول أن الديموقراطية كفيلة بتصحيح أخطائها، وأن الثورة أنجزت مهمتها بالانتقال إلى صناديق الاقتراع، وأن أي ديكتاتورية تحاول استغلال تلك الصناديق ستبوء بالهزيمة لاحقاً، وقد يكون من المستحسن في حالة الإخوان أن يثبتوا فشلهم نهائياً، لقطع الفرصة أمام عودتهم على النحو الأيديولوجي المعهود عنهم حتى الآن.
في الترجمة السورية لما سبق، لا يخفى أن البعض مع تنحية “الإخوان” والإسلاميين من المشهد السياسي السوري الآن ولاحقاً، مثلما لا يخفى عدم ممانعة بعض العلمانيين إعطاء فرصة لهم أسوة بالتيارات السياسية الأخرى. أيضاً لا تغيب هنا انقسامات السوريين الأصلية بين هيئات معارضة يتواجد فيها الإخوان وهيئات أخرى مناوئة لهم؛ أي أن قسماً معتبراً من الطرفين يستلهم الحدث المصري للدلالة على سوريا بعد سقوط النظام. النظام نفسه لم يكن بعيداً عن الحدث المصري، فقد انشغل إعلامه بشكل غير مسبوق أيضاً بتغطية اعتصام ساحة التحرير، ولم يخفِ انحيازه التام إلى معارضي الإخوان، على رغم عدم وجود آفاق واضحة لعلاقة جيدة تربطه بالنظام المصري الجديد. إعلام النظام لم يقصّر سابقاً في الهجوم على السلطة التي قامت بعد حكم مبارك والتركيز على أخطائها، على الرغم من أن علاقته مع نظام مبارك لم تكن على ما يرام في أغلب الأوقات، ولطالما اتهم الأخير بالعمالة لأميركا وإسرائيل. مع ذلك يبدو خطاب النظام متماسكاً على هذا الصعيد؛ فهو كان ضد ثورة 25 يناير لأنه ضد الربيع العربي بالمطلق، وبذلك يكون أميناً للديكتاتورية مهما اختلف مع واجهتها، أما انحيازه إلى التغيير المصري الحالي فلأن الجيش أداته الأثيرة- من وجهة نظره قام بما يلزم لإعادة الأمور إلى نصابها الأول، فكيف إذا كان الانقلاب على عدوه المعلن “الإخوان المسلمين”؟
أن يتفق النظام وقسم من المعارضة حيال ما يحدث في مصر فهذا مؤشر مفاجئ نوعاً ما، لكنه لا يتجاوز لدى البعض اتفاقاً على النتائج فحسب، أما لدى البعض الآخر لمن يحسبون أنفسهم على المعارضة فهو اتفاق في الجوهر مفاده تفضيل حكم العسكر على الإخوان مهما كلف حكم الأول منهما. ينطلق أصحاب هذه الفرضية من إسلاموفوبيا مقيمة، وتترافق بعامة مع عدم الثقة بالشعب وقدرته على تصويب المسار الديموقراطي عندما يكون موجوداً. بل إن الشعب بغالبيته، وفق هذه النظرة، يبدو إسلامياً بالطبع وسوف يختار الخيار “الأسوأ” إلى ما لا نهاية، والإخوان كذلك بطبعهم كتلة مغلقة غير قابلة للتغير أو التحول، لذا لا بد دائماً من إقصائهم ومحاصرة نزعات الهيمنة لديهم، ولا غرابة إن هلل هؤلاء للإجراءات “الاستثنائية” التي اتخذها الجيش المصري بحق الإخوان المصريين، على رغم مطالبتهم بالتحول الديموقراطي في سوريا.
قد يرجع جزء من انشغال السوريين المحموم بما حدث في مصر إلى شغفهم بمتابعة مسار الثورات، وترقبهم للمستقبل الذي ينتظرهم، غير أن المستقبل يبدو بعيداً حتى الآن، ومن الصعب البناء على الحدث المصري الراهن للدلالة عليه. لكن النقاشات السابقة لا تخلو من فائدة، ولو على سبيل التمرين الفكري. وهي بالتأكيد رسالة إلى إخوان وإسلاميي سوريا ينبغي أن يأخذوها بالاعتبار الآن ولاحقاً، حتى إن كانت مفارقة للاهتمامات الفعلية على الأرض.
عند النقطة الأخيرة ربما ينبغي الإشارة، ولو بشكل مقتضب كما تفعل محطات التلفزة أخيراً، إلى ما يحدث في سوريا. حمص تتعرض لحملة قصف هي الأعنف، وقد تم اختيار موعدها بحيث يواكب تماماً انطلاق التظاهرات المصرية وانشغال العالم بها، غوطة دمشق الشرقية تحت الحصار منذ أشهر وقوات النظام تمنع عن أهلها الأدوية والأغذية بالإضافة إلى القصف اليومي المعتاد لبلداتها وقراها؛ حواجز النظام المحيطة بها تمنع إدخال أي ربطة خبز أو علبة دواء. الدولار، لحظة كتابة هذه السطور، يتجاوز حاجز الـ300 ليرة سورية وغالبية العائلات السورية انخفض دخلها الشهري إلى ما دون المئة دولار، بحسب سعر الصرف الحالي. الأسلحة النوعية الموعودة وصلت بصورة أسرع من حلفاء النظام وصارت قيد الاستخدام الفعلي، حزب الله لا يزال يقوم بمهمته في حماية خطوطه الخلفية في سوريا، والسوريون لا يوزعون البقلاوة عندما يتمكنون من قتل عناصره.
المستقبل
نهاية وهم الأسلمة واستمرار دور العسكر
سلامة كيلة *
في مصر انتهى حكم «الإخوان المسلمين» بنقمة شعبية هائلة، وبثورة سمحت لقيادة الجيش أن تطيحهم. هذا الأمر فتح على نقاش حول: هل ما جرى ثورة أو انقلاب؟ وربما سيغطي هذا النقاش على القضية الأهم التي هي أن حكم «الإخوان» قد أوجد نقمة ضدهم لم تشاهد ضد حسني مبارك، لهذا شارك في يوم 30 حزيران (يونيو) ما ينوف العدد الذي شارك يوم 11 شباط (فبراير) لإسقاط حسني مبارك، وبالتأكيد أكثر كثيراً من الأصوات التي حصل عليها «الإخوان» في انتخابات مجلس الشعب، ثم انتخابات الرئيس في الدورة الأولى (التي هي المعبّر عن حجم الإخوان، حيث حصل مرسي على ما يقارب الـ25 في المئة من المشاركين الذين بلغوا 46 في المئة من الذين يحق لهم التصويت، أي حصل على ما يقارب الـ6 ملايين صوت من 50 مليوناً كان يحق لهم التصويت).
الأهم هو أن الموقف الشعبي كان أكثر توتراً ضد مرسي منه ضد حسني مبارك. كان غلاً وليس رفضاً فقط. وهذا يؤشر إلى تراكم الاحتقانات بدل تراجعها، وإذا كانت المشكلات التي فرضت الثورة على حسني مبارك لم تحلّ، بل زادت، مثل مشكلة البطالة والفقر بعد غلاء الأسعار الذي رافق تسلم محمد مرسي الرئاسة، انطلاقاً من إتباعه السياسة الاقتصادية ذاتها التي كانت في «العهد السابق»، والتقدم خطوات لم يكن حسني مبارك يجرؤ على اتخاذها (مثل رفع الأسعار وتخفيض سعر الجنيه على طريق تحريره، ومشاريع بيع مصر للخارج).
لكن، ربما ما جعل النقمة تزيد، وينتقل الحقد إلى غلّ، هو شعور الشعب بأن الوعود التي جرى انتخاب مرسي و «الإخوان» على أساسها لم تنفذ، الأمر الذي أشار إلى «كذب» هؤلاء (كما يتردد في الشارع)، وأن ما حاولوه كان يثير الرعب لدى قطاعات مجتمعية واسعة، كثير منها متدين وليس العلمانيين واليسار فقط، نتيجة انكشاف «سلطة» «الإخوان» كسلطة مقبلة من القرون الوسطى، سواء تعلق الأمر في الأداء السياسي (حيث إن مرجعيتهم المعرفية فقهية وليس سياسية)، أو بالميل للتركيز على ما هو قيمي/ أخلاقي في ما بات «خارج الزمن»، وأكثر من ذلك إشعارهم الشعب بأنهم يحكمون باسم الدين وبمنطوق إلهي، هو غير مناسب للعصر الراهن ولا لممارساتهم.
هنا يمكن تلمّس «الزيادة في الحقد» (أي الغلّ) الذي جعل كل هذه الملايين تنزل لإزالة حكم «المرشد»، خصوصاً أن السياسة الخارجية لم تتغير، سواء في الموقف من أميركا أو من الدولة الصهيونية، أو من المحاور القائمة في المنطقة. بهذا ظهر للشعب بأن حكماً كاريكاتورياً يقوم باسم الدين، كان يزيد من مشكلات الشعب، ويشعرهم بأيام سود مقبلة. ربما هذا ما جعل البعض يتحدث عن فاشية آتية على ضوء «سياسة التمكين» التي تتبعها الجماعة من أجل فرض سلطة مطلقة، و «إلهية».
ما ظهر هنا هو أن إطلالة «الحكم الديني» فرضت حالاً من الرفض زادت من الاحتقان الذي نتج من عدم حل المشكلات التي كانت في أساس ثورة 25 يناير 2011، ودفعت كل هذه الملايين لكي تعبّر عن ذلك في حشد هائل كان بالضرورة سيفرض «إسقاط النظام».
تجاهل ذلك، وتجاهل قوة الشعب أساساً كما يحدث عادة، هو الذي فرض الحديث عن انقلاب عسكري. لا شك في أن الجيش كان يريد إسقاط مرسي وحكم «الإخوان»، حيث كان يظهر التناقض في داخل بنية السلطة حول من يهيمن على السلطة. حيث سعى «الإخوان» لـ «أسلمة» الدولة واحتكارها، واحتكار الهيمنة على الاقتصاد كبديل لرجالات حسني مبارك. وكان واضحاً أن الإدارة الأميركية تدعم حكم «الإخوان» (وهي أصلاً التي رجحت نجاح مرسي في انتخابات شابها تزوير كبير)، وهو الأمر الذي كان يخيف قيادة الجيش. لكن، كان يبدو، أيضاً، أن قيادة الجيش كانت ترى ضرورة تحقيق التوافق بينها وبين السلطة السياسية في مواجهة شعب ما زال يتمرد، وظهر واضحاً بأنه يريد تحقيق تغيير حقيقي.
لكن، هل كان بإمكان الجيش مواجهة كل هذا الحشد الشعبي فيما إذا أراد سحق الثورة؟
هذا السؤال هو الذي جعل الجيش ينحي مبارك، وهو ذاته الذي جعل الجيش يستفيد من كل هذا الحشد بدل أن يتكسر في الصدام معه. خصوصاً هنا حين لمسنا دخول الريف في الحراك ومشاركته في الثورة، وهو ما لم يحصل ضد حسني مبارك. وأثر ذلك هو أن كل صدام بين الجيش والشعب سيقود إلى شق الجيش نتيجة «القاعدة الريفية» له، والتي ستدفع إلى الانخراط في الثورة بدل قمعها. هنا، تكمن حساسية وضع الجيش في مرحلة ثورية بجدارة. لكن، لا بد من ملاحظة أن الجيش هو الذي حسم الصراع بعد كل هذا الحشد الهائل الذي لم يكن لديه استراتيجية سوى انتظار دور الجيش.
ربما هذه هي المشكلة التي لا زالت قائمة على رغم تطور وعي «الشباب» الثوري خلال عامين ونصف من الحراك الثوري واكتساب الخبرة والوعي، من دون أن يصل إلى مقدرة على أن يقتحم الشعب قصر الاتحادية اعتماداً على كل هذه الحشود الهائلة، لفرض بديل شعبي يخضع له الجيش، بدل أن يفرض قادة الجيش أجندة المرحلة الانتقالية كما حدث في المرة السابقة. هذا ما ظهر في فرض الإعلان الدستوري، وفي تشكيل الحكومة، والذي سيظهر لاحقاً في شكل أكبر.
إذاً، لقد انتهى وهم الأسلمة وحكم المرشد والخلافة الإسلامية لكن، ما زلنا في مرحلة دور العسكر. هل سيستطيع «الحكم الجديد» حل مشكلات الشعب؟ بالتأكيد لا، فقيادة الجيش هي الحارس لمصالح رأسمالية تتحكم بالاقتصاد، وهي في ظل الثورة تناور من أجل إنهائها من دون تغيير النمط الاقتصادي القائم، الذي هو ليبرالي، مافيوي، وريعي.
بالتالي هناك ثورة جديدة.
* كاتب فلسطيني – سوري
الحياة
هل يفهم السوريون الفزاعة المصرية؟
عمر قدور
قبل سنتين ونصف كان يمكن تخيّل أن هذه الحشود في الساحات، التي بدأت من تونس وامتدت إلى سوريا، قادرة على تحقيق نقلة نوعية في زمن قياسي. كان التفاؤل في أوجه، وظهرت القوى المضادة للثورات معزولة وعاجزة عن مواجهة المدّ الشعبي. أما القوى الدولية فكانت منفعلة بالحدث غير المتوقع، ما دفع بعضها إلى مساندته بغية الوقوف مع الرابح، قبل أن تبدأ بإعادة حساباتها وربما توزيع دعمها بنسب مضبوطة على الأطراف المختلفة في البلد الواحد.
في سوريا أثبت النظام قوته بحلفائه الذين ساندوه بلا هوادة، بينما لم تلقَ الثورة دعماً كافياً في المقابل. هذا واحد فقط من مكامن قوة النظام التي لم يتوقعها الثوار، مثلما لم يتوقعوا تخاذل المجتمع الدولي على رغم تخاذله سابقاً إزاء العديد من القضايا المحقة. لكن ما لا ينبغي إنكاره، أو تجاهله، أن النظام وإن سقطت رموزه الحالية فذلك لن يعني تماماً سقوطه المرتجى، لأن نظاماً حكم لمدة نصف قرن لا بدّ أن يخلّف وراءه من عقليته الكثير.
على غير المرتجى، ينبغي الاعتراف بأن القوى المناهضة للثورة امتصت الصدمة الأولى، فالنظام السوري وطوال الوقت الذي كان يخسر فيه شعبياً وميدانياً كان في المقابل لا يتوقف عن إرسال الرسائل المباشرة وغير المباشرة إلى الخارج، مسنوداً بمواكبة إعلامية قائمة على تغييب الحقائق وفبركة الأكاذيب. مؤخراً فقط فضحت المنظمة الدولية لحقوق الإنسان إحدى فبركات النظام عن عملية ذبح بالسكاكين ألصقت بالجيش الحر، وتبين بالأدلة أن منفذّيها من شبيحة النظام، كما استطاع صحفيون أجانب كشف تزوير وألاعيب مشابهين مما يروّجه النظام، والأغرب من ذلك ما تروجه جهات محسوبة على الثورة وتورط ناشطون في ترويجه وإدانته قبل تحققهم من مصداقيته. في كل هذه الحالات تلقفت الصحف والقنوات التلفزيونية العالمية الأخبار الملفقة، وعندما تبيّن كذبها لم تبادر إلى تصحيح الخطأ الذي وقعت فيه.
غير أن ركناً هو الأهم من أركان قوة النظام نراه في ضعف المعارضة وتفككها، وهو ما يجب احتسابه للنظام، فما كان مبرراً قبل سنتين ونصف بداعي ضعف الخبرة السياسية لم يعد يصلح بعد عشرات المؤتمرات. لا اتهام ولا مجازفة بالقول هنا إن ظل النظام بقي مهيمناً على المستوى السياسي للمعارضة ككل، وذلك من خلال انشغال كوادرها بمسألة السلطة على حساب الاستحقاق الآني، فلا توجد هيئة معارضة عدّلت من قياداتها أو هيكليتها على نحو جاد، أي أنها لم تقدّم البديل الحقيقي عن ثقافة السلطة التي زرعها النظام طوال وجوده؛ ذلك بصرف النظر عما إذا كان الأخير قد أفلح مباشرة في اختراق بعض هيئات المعارضة أم لم يفلح.
في سوريا اليوم ثورة مركبة، بمعنى أنها باتت تحمل في داخلها الثورة المضادة أيضاً، ولعل الحدث المصري المستجد أتى ليضيء على جوانب مهمة في الثورة السورية. إذ بعيداً عن الانحيازات السياسية دللت التجربة المصرية على قوة النظام السابق، متمثلة بالجيش وبشبكة واسعة من المصالح الاقتصادية والاجتماعية، وبصرف النظر عن الأخطاء المعروفة للإخوان فإن كتلة النظام السابق لم تكن لتسمح لهم بالمسّ بمصالحها مهما كان الثمن. المؤسف هنا أن الثورة الثانية تنذر باستخدام أدوات النظام الأسبق ذاتها من اعتقالات وتضييق على الحريات الإعلامية، أي أنها لم تتفكر وتستفد جيداً من تجربة مبارك والإخوان فيما بعد. السوريون الذين يعيشون القصف والتدمير على وقع الحدث المصري، وعلى رغم عدم انتصار ثورتهم إلا أنهم يعيشون أيضاً حالة من الانقضاض عليها، أي أن قسماً منهم لم يعد يخفي انحيازه إلى الأساليب اللاديموقراطية في حال سقوط النظام، ولم تعد لغة الإقصاء المتبادل نادرة من خلال التعليقات على ما يحدث في مصر، الأمر الذي يفضح بعض الانقسامات المزمنة في أوساط الثورة وعدم القدرة على معالجتها وتخطيها.
بالدرجة الأولى ربما يكون إسلاميو الثورة هم المطالَبين بوعي الدرس المصري، إلا أن المسؤولية تقع على خصومهم أيضاً من خلال تحليهم بوعي ديموقراطي حقاً، فهذا الوعي هو النقيض الفعلي للنظام القائم. ليس من مصادفة أبداً أن هلل إعلام النظام لما حدث في مصر، حتى إن لم تكن القيادة الجديدة على وفاق مباشر معه، فما يرغب فيه النظام هو إثبات عدم جدارة المصريين بالسبل الديمقراطية وبالتالي عدم جدارة السوريين بها.
سيكون مؤسفاً تماماً ألا يفهم السوريون الفزّاعة المصرية.
المدن
أثورة في مصر أم انقلاب عسكري؟
بكر صدقي *
ينبغي القول، قبل أي اعتبار آخر، إن ما حدث في مصر لا يشبه الانقلابات العسكرية التقليدية التي عرفها «العالم الثالث» في عقدي الخمسينات والستينات، أي في حقبة الحرب الباردة. لكنه بالمقابل ليس ثورة من ثورات الربيع العربي التي انـدلعت ضـد أنظمة دكتاتورية فـاسـدة، وإن كان يـشبـهها في هـذا الزخم الشعبـي الكبير الذي عبر عن إرادة قويـة للإطاحة بالحاكم.
إن أقرب حالة تشبه، إلى هذا الحد أو ذاك، الثورة المصرية الثانية إنما نجدها في أول انقلاب عسكري جرى في تركيا، في 27 أيار (مايو) 1960، وأطاح بحكومة عدنان مندريس المنتخبة. فقد سبقت الانقلاب المذكور تظاهرات شعبية كبيرة ضد الحكومة وبخاصة في الجامعات التركية. وما زالت تركيا تحتفل إلى اليوم في هذا التاريخ بـ «عيد الثورة» على رغم انتهاء دور العسكر في الحياة السياسية التركية منذ بضع سنوات.
وما زال المفكرون والمؤرخون الأتراك منقسمين على أنفسهم حول تقييمهم لذلك الانقلاب، بسبب انحيازاتهم السياسية والإيديولوجية. كان لافتاً بهذا الصدد أن الجمهور الموالي للحكومة التركية قد استحضر مصير عدنان مندريس في مواجهة الثورة الشعبية التي اندلعت ضد حكومة أردوغان، في 30 أيار 2013، بدءاً من ساحة تقسيم في إسطنبول، ليقول إنه لن يسمح بأن يكرر التاريخ نفسه.
كان الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي أول رئيس منتخب في تاريخ مصر الحديث ولا ينتمي للمؤسسة العسكرية التي جاء منها كل من جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك على التوالي. وربما كان إنجاز مرسي الأهم هو إقالته للمشير الطنطاوي وزير الدفاع في عهد مبارك ورئيس المجلس العسكري الذي تولى المرحلة الانتقالية بعد الإطاحة به، إضافة إلى عدد من كبار القادة العسكريين. كان هذا القرار التاريخي إيذاناً بطي صفحة دور الجيش المهيمن في الحياة السياسية المصرية. لكننا نرى اليوم أنه شكل أيضاً مقتل مرسي والإخوان. فقيادة الجيش المصري التي اعتادت على الحكم من خلف مؤسسة الرئاسة وتنعمت بمزايا السلطة وبحبوحة عيشها، لن تنسى لمرسي هذا الإذلال الذي ألحقه بها، فاستغلت النقمة الشعبية المتراكمة على مرسي وجماعة الإخوان، وقفزت بلا مقدمات إلى الصف الأول من صفوف الثورة الشعبية العارمة التي طالبت بإطاحته.
ربما تكشف لنا الأشهر أو السنوات المقبلة عن الدور الذي قد تكون المؤسسة العسكرية لعبته في تحريض الشعب ضد مرسي وتشجيعه في المشاركة بكثافة في تظاهرات 30 حزيران (يونيو) 2013 التي دعت إليها حركة «تمرد» ودعمتها «جبهة الإنقاذ» المكونة من القوى السياسية المعارضة لجماعة الإخوان المسلمين. لكن الثابت أن مرسي والإخوان قدما، برداءة أدائهما في السلطة، كل المبررات لقيام ثورة شعبية ضدهما. فإذا تجنبنا التفاصيل المعروفة لجميع المراقبين أمكننا القول إن «الجماعة» أُخذت بنشوة النصر الانتخابي فتعاملت وكأن مصر باتت ملكها تفعل بها ما تشاء من غير أي مراعاة لتنوع المجتمع المصري وتاريخه، فمضت في التفرد بالسلطة والرأي كأي نظام استبدادي تقليدي. كما لم تحسب حساباً للإرادة الشعبية التي أنجزت ثورتها وأطاحت بالديكتاتور حسني مبارك في ثلاثة أسابيع. ظنت أن التفويض الشعبي الجزئي الذي أوصلها إلى الحكم في البرلمان والرئاسة كفيل وحده بحمايتها من خصومها ومن القطاع الاجتماعي العريض المعارض لها. عجز العقل الإخواني عن فهم الديناميات الاجتماعية الجديدة التي أنجزت ثورة 25 كانون الثاني (يناير) وأعادت هذه إطلاقها بصورة موسعة. الحساب الإخواني بسيط وتبسيطي: المجتمع المصري مسلم ومتدين بغالبيته الكاسحة، سوف ينتخبنا بصورة أوتوماتيكية حين تنتقل السلطة من الجيش إلى صناديق الاقتراع. أضف إلى ذلك أن القوى المعارضة لنا ضعيفة ومشتتة وملوثة، في قسم منها، بتأييد نظام مبارك المخلوع. في النتيجة سوف نحكم مصر إلى الأبد مدعومين بدعم شعبي ثابت.
على تباين المشهدين، هذا ما كان يفكر به رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أيضاً حين باغتته ثورة منتزه تقسيم في نهاية أيار الفائت. ففي ثلاثة انتخابات عامة ومثلها من الانتخابات البلدية، فاز حزب العدالة والتنمية الذي يقوده، فتأبد في الحكم طوال أحد عشر عاماً بلا أي منافسة ذات شأن من معارضيه. يكمن الفارق هنا أن أردوغان كان قد أجهز على دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية قبل سنوات. ولولا ذلك لكان مصيره كمصير مرسي مخلوعاً بانقلاب عسكري هو من صميم التاريخ السياسي لتركيا منذ مطلع الستينات.
تبقى ملاحظتان، الأولى هي أن تمرد 30 حزيران الشعبي هو، في وجه من وجوهه، تصحيح لمسار ثورات الربيع العربي التي بدت للوهلة الأولى وكأنها ثورات «إسلامية» على أنظمة استبداد «علمانية».
والثانية أن القيادة السياسية للثورة الجديدة قيادة انتهازية أسلمت زمام أمرها للمؤسسة العسكرية فخسرت كل الزخم الشعبي الذي ربما كان سيوصلها إلى السلطة، وخانته لتتحول في المرحلة المقبلة إلى مجرد تابع ذليل لقادة الجيش. وبذلك من المحتمل أن نصبح أمام مشهد عودة النظام القديم الذي أطاحته ثورة 25 كانون الثاني 2011.
غير أن التاريخ لا يكرر نفسه. من المحتمل أن ثورة ميدان التحرير تحولت إلى ثابت في المعادلة السياسية المصرية لا يمكن قيام نظام سياسي مستقر من دون أخذه في الاعتبار. كأننا أمام «كومونة» دائمة الانعقاد جاهزة للانقضاض على أي سلطة لا تحترم إرادة الشعب. هذه الظاهرة تتجاوز المفهوم الكلاسيكي للنظام الديموقراطي، وربما هذا هو سبب توجس الحكومات في أوروبا والولايات المتحدة منها. أما القوى الإقليمية فاتخذت مواقفها المؤيدة أو المعارضة بناءً على انحيازات سياسية وإيديولوجية مبسطة.
* كاتب سوري
الحياة
الدرس المصري في الثورة السورية
د. رياض نعسان أغا
ما يحدث في مصر الآن هو درس مهم ينبغي أن يفيد منه السوريون، فالتكوينات الاجتماعية متشابهة، و«إخوان» مصر أقران «إخوان» سوريا، ومدرستهم الفكرية واحدة، وكذلك العلمانيون يستقون من ينبوع فلسفي واحد، وهدف الوصول إلى الحكم لدى الجميع يتخذ ذات المسالك، وسيكتب التاريخ ساخراً من أولئك الذين كانوا يقولون «مصر غير ليبيا، وليبيا غير تونس، وسوريا غير مصر، فكلمة «غير» هذه تجاهلت أن الظروف العامة والمؤثرات الفكرية والسياسية في هذه البلدان متشابهة إن لم نقل متطابقة. وأذكر حين قامت ثورة يناير في مصر أن أحد السطحيين من المسؤولين السوريين قال: «إن ما يحدث في مصر شأن مصري خالص»، فكتبت أرد عليه في هذه الصفحة يومها، بل «هو شأن سوري بامتياز»، فقد علمنا التاريخ أن سوريا ومصر مرآتان تتماهيان، وحسبنا منه ما يعود إلى نحو ألف عام، فحين تسلم الحكم في مصر صلاح الدين الأيوبي سرعان ما حكم سوريا، وحين أرسى الظاهر بيبرس قواعد حكمه في مصر قفز ليحكم سوريا، وحين تولى مصر محمد علي باشا أرسل ابنه إبراهيم ليضم سوريا، وحتى حين حكمت ثورة ضباط يوليو مصر عام 1952 سرعان ما انضمت إليها سوريا عام 1958. وعلى الصعيد الفكري والثقافي تجد التفاعل والتماهي بين الثقافتين، وحتى الحركات السياسية هي ذاتها من «الإخوان المسلمين» والشيوعيين، ولئن تفرد السوريون عن المصريين بحزب «البعث»، والقومي السوري فإن التيار الناصري كان ذاته في البلدين. وتجربة «الإخوان» التي فشلت في مصر جديرة بأن يدرسها السوريون، بل إن تدرسها كل الحركات الإسلامية السياسية.
ومهما يكن الموقف اليوم مختلفاً بين الناس من أحداث مصر الراهنة بين مؤيد لشرعية الصندوق، وبين محتكم إلى أغلبية الشارع، فإن ثمة حقائق تجاهلها «الإخوان» ومن أبرزها نكثهم بما وعدوا به الناس يوم قامت الثورة من أنهم لن يقتربوا من سدة الحكم، وكان أقوى لهم لو أنهم اكتفوا بدخول البرلمان وتركوا سواهم يختبر عمق المياه قبل خوضها. وأما الخطأ الأشد فهو أنهم رأوا أن نصف المجتمع المصري قد انتخبهم، وتناسوا أن نصفه الآخر لم ينتخبهم، وكان أولى أن يتدارسوا وسائل وآليات تضمن لهم مهادنة من رفضهم، بدل أن يعززوا ولاء من والاهم. وكانت غلطة «الإخوان» كذلك أنهم لم يطرحوا على أنفسهم سؤالاً مهماً هو «لماذا يكرهوننا؟»، وهم يرون ملايين المصريين يعبرون عن ضيق شديد وصل حد الكراهية المطلقة لحضور «الإخوان» في سدة الحكم. وكان خطأً فادحاً أن يعتبروا ذلك مجرد تحريض من خصومهم السياسيين. فالنقلة التي أرادوا إحداثها في حياة الناس أوقعت صدمة ثقافية وحضارية لم يهضمها الجسد المصري كله، وكنت أعجب من اشتهائهم للحلول في كل مفاصل الحياة السياسية. وكانت تظاهرات المثقفين المصريين على باب وزارة الثقافة تكفي وحدها لتحقيق استجابة واعية تقدر نتائج التجاهل والعناد. وأرجو ألا يعتبر الإخوة المصريون حديثي تدخلاً في شؤونهم «على رغم إيماني بأننا في الهم عرب ومسلمون وجسد واحد»، ولكن ما يعنيني هو الحاجة الماسة إلى قراءة التجربة «الإخوانية» المصرية من قبل الماضين على ذات الطريق السياسي الديني في سوريا.
صحيح أن حركة «الإخوان» السورية لا تملك رصيداً شعبياً في سوريا، وقد تراجع تأثيرها بعد أحداث الثمانينيات، ولكن التيار الإسلامي له حضور ولاسيما في بنية الثورة الراهنة، وكان اضطراب خطاب هذا التيار قد ترك آثاراً سلبية على مسار الأحداث منذ أن ظهرت الجبهات المتشددة والمتطرفة ومعها تلك المصنوعة التي ترتدي قناع الإسلام، لتجعل المشهد مريباً في نظر أصدقاء سوريا الذين باتوا يترددون في دعم الثورة. بل إن بعض التصرفات جعلت كثيراً من الناس -وأنا منهم- يتوقفون متسائلين عن صورة المستقبل، ولاسيما بعد أن سارع بعضهم لتطبيق الشريعة على هواه في بعض القرى والأحياء، وبدأ يصدر أحكام الجلد بل أحكام الإعدام أيضاً.
لقد بدا ضرورياً أن تعترف حركات الإسلام السياسي بحاجتها إلى مراجعة فكرية تستعيد النظر في الأسس الفكرية، وسيكون خطأ كبيراً أن يفهم أحدهم أن رفض الناس لحكم «الإخوان» هو رفض للإسلام، فثمة هوة في الفهم يجب التقاطها، ولا أنكر أن بعض النخب ترفض الأديان كلها، وأن بعض العلمانيين يرون الدين للآخرة وحدها ولا يقبلون أن يدخل الحياة الدنيا إلا في المساجد والكنائس فقط، وهذا فهم مستمد من فلسفات غربية لم تنبت في بيئة عربية إسلامية. ومن الواضح أن الناس عامة يريدون الإسلام السمح المعتدل الذي يعيشونه في مجتمعاتهم، وهو يضمن حرية التعبير والتصرف والسلوك، ويشكل حصناً عقائدياً لا يستخف به أحد إلا فيما ندر، وهو قوة كامنة يخضع لها الحاكم ذاته عرفياً، ومهما اشتط بعض حكام المسلمين فإنهم يحرصون على تجنب معاداة الإسلام، وحتى نابليون حين حكم مصر اضطر إلى أن يتقرب للمسلمين ويحتفل بأعيادهم، بل إن من خلفه بعد «كليبر» سمى نفسه عبدالله جاك مينو تقرباً من المسلمين وأعلن إسلامه.
ويبدو أن غالبية المسلمين اليوم يريدون حكماً يحافظ على ثوابت الإسلام في التوجهات والمبادئ الاجتماعية العامة وفي الأحوال الشخصية، وفي الأخلاق والآداب، وفي الشعائر، ولكنهم لا يريدون أن يطبق عليهم أحد نظرية الحق الإلهي في الحكم، ويجعل نفسه مرشداً عاماً يمتلك صلاحيات الولي الفقيه، مما يتيح إنتاج استبداد ديني يحل محل الديكتاتوريات وتستبدل فيه عمامة بالقبعة العسكرية.
لقد وقعت المغالاة منذ أن ظهرت الأفكار التي تدعو إلى نظرية الحاكمية المطلقة، التي فهم أتباعها أن المرء لا يملك شيئاً من حريته الشخصية وعليه أن يسأل النصوص في كل فعل وتصرف، وأن يقبل الجواب حتى لو لم يقبله عقله، وظهرت أفكار تدعو إلى إقامة الدولة الدينية. ولا يتسع المجال هنا للخوض في هذه التفاصيل الغزيرة، ولكنني أفهم على صعيد شخصي أن الدولة في الإسلام مدنية، وأنها إدارة مختارة لشؤون الناس تحقق المقاصد والأهداف، وأن الدولة تضم المسلمين وغير المسلمين، ولكل شريعته التي يحترمها الآخرون ولا يفرضها على أحد، وأفهم أن الدولة عقد اجتماعي، وأن الدين واللغة (بوصفها ثقافة) أهم مكونات هوية الأمة، وأن العقد الاجتماعي هو مصدر قانون الحكم، وحين يجيء معبراً عن الأمة فلن يخالف هويتها.
اشكالية المشروع الاخواني
علي العبد الله
من دون الدخول في السجال الدائر الآن بين مؤيدي الاخوان المسلمين ومعارضيهم حول طبيعة ما تم في مصر: ثورة أم انقلاب عسكري؟، فان القضية التي يجب ان تثير الاهتمام والدرس هي ما الذي استفز ملايين المصريين ودفعهم الى النزول الى الشوارع( قدر عدد المتظاهرين في كل المحافظات بين 17- 20 مليون متظاهر) للتعبير عن رفضهم لحكم الاخوان المسلمين أهو فشل الحكم في حل مشكلات معيشية وخدمية أم “أخونة” الدولة، أم الاثنين معا ؟.
اعتقد ان الفشل المدوي في حل مشكلات معيشية وخدمية ضاغطة وتسارع عملية “اخونة” الدولة، مع بروز نزعة استعلائية فجة بين صفوف قيادة الاخوان المسلمين في تعاطيهم مع شكاوي المواطنين واستخفافهم بمعاناتهم من هذه المشكلات، أثار هواجس ومخاوف المجتمع ودفعه الى مواجهة تسلط قادم قبل ان يتمكن من بسط هيمنته وسيطرته على الدولة بالكامل.
تواجه “الجماعة” اشكالية كبيرة على خلفية التناقض بين تطابق منطلقها الاسلامي مع عقيدة المجتمع وتدينه بشكل عام، ما يمنحها فرصة كبيرة للتواصل والتحشيد وكسب أغلبية، وبرنامجها العقائدي(الأخونة) مع الاسلام الشعبي المنفتح والمتسامح والعملي، وأساس الاشكالية فلسفة الحكم الاخوانية القائمة على: المصدر الالهي(الله اعلم بما ينفع عباده) والإسلام هو الحل( لن يصلح حاضر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها)وجاذبية السلطة (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، ناهيك عن وجود تيار يكفر الدولة والمجتمع(القطبيون ورمزهم الحالي خيرت الشاطر)لاعتبارات تتعلق بمصدر الشرعية والقواعد الناظمة للحكم والتصرف اليومي، والتعاطي مع الديمقراطية كآلية من مرحلة واحدة(الانتخابات) والتصرف بعدها دون رقيب او حسيب. مرتكزات تؤشر الى حكم تسلطي يتعارض مع النظام الديمقراطي بالمطلق. وقد سبق للجماعة، في سياق حراكها السياسي، وضع مشروع برنامج لحزب للإخوان المسلمين في مصر 25/8/2007، قالت:”إنها ستشكله”، ووزعته على عدد محدود من الباحثين والمعلقين والنقاد المصريين(56 شخصا)لإبداء الرأي، قبل ان تنشره على شبكة “إسلام أون لاين” يوم 26/8/2007، جوهره اقامة دولة دينية حيث جاء في المشروع:”يجب على السلطة التشريعية أن تطلب رأي هيئة من كبار علماء الدين في الأمة، على أن تكون منتخبة ايضاً انتخاباً حراً ومباشراً من علماء الدين ومستقلة استقلالا تاما وحقيقيا عن السلطة التنفيذية في كل شؤونها الفنية والمالية والإدارية، ويعاونها لجان ومستشارون من ذوي الخبرة وأهل العلم الأكفاء في سائر التخصصات العلمية الدنيوية الموثوق بحياديتهم وأمانتهم، ويسري ذلك على رئيس الجمهورية عند إصداره قرارات بقوة القانون في غيبة السلطة التشريعية، ورأي هذه الهيئة يمثل الرأي الراجح المتفق مع المصلحة العامة في الظروف المحيطة بالموضوع، ويكون للسلطة التشريعية، في غير الأحكام الشرعية القطعية المستندة إلى نصوص قطعية الثبوت والدلالة، القرار النهائي بالتصويت بالأغلبية المطلقة على رأي الهيئة، ولها أن تراجع الهيئة الدينية بإبداء وجهة نظرها في ما تراه أقرب إلى تحقيق المصلحة العامة، قبل قرارها النهائي. ويتم، بقانون، تحديد مواصفات علماء الدين الذين يحق لهم انتخاب هيئة كبار العلماء والشروط التي يجب أن تتوافر في أعضاء الهيئة”. وقد انعكس هذا التوجه في مشروع النهضة الذي طرحه حزب الحرية والعدالة، وتسرب الى مواد الدستور الجديد الذي اعدته لجنة هيمن عليها التيار الاسلامي بشقيه الإخواني والسلفي، كما في علاقة الرئاسة بالمرشد والتعيينات في المؤسسات والإدارات الرسمية وخاصة المحافظين.
كما تبنى “المشروع السياسي لسورية المستقبل”، الذي طرحته حركة الإخوان المسلمين في سوريا عام 2004، عدة فرضيات ومنطلقات منهجية متعارضة فهو يتبنى “الدولة الحديثة” ويلحق بالدولة التي يريد اقامتها صفة إسلامية، ويقيد حركتها ومستقبلها بما يسميه “ثوابت الأمة”. في حين ان اساس “الدولة الحديثة” الحياد العقائدي، وهذا واضح في سماتها: المواطنة، التعددية، التمثيلية، التداولية، والسعي الى لعب دور يتسق مع طبيعتها تلك بعدم تبني سمة عقائدية محددة، والوقوف على مسافة واحدة من كل العقائد التي تتصارع على كسب الناس والسلطة، وتترك تبني سمة عقائدية، وبشكل نسبي أيضا، للسلطة التي تجسدها الوزارة، فالوزارة يمكن أن تكون اشتراكية أو ليبرالية أو ديمقراطية أو اسلامية. كما كسر “المشروع” اتساقه وطعن في مصداقيته حين دعا إلى ما أسماه “صون المرأة”. وهذا يتعارض، وبشكل جوهري، مع سمة المواطنة التي اعتبرها من سمات الدولة التي يتبناها، فصون المرأة يحيل إلى جهة تقوم بفعل الصون(الرجال) وجهة يقع عليها الصون(النساء)، وما يعكسه هذا من ثنائية تفوق/دونية. ناهيك عن تصور “المشروع” للأهداف وطرق تنفيذها حيث ينطوي على نزعة تدخلية تذكرنا بالأنظمة الشمولية البائدة( النازية والفاشية والشيوعية والاشتراكية والناصرية والبعثية).
غير أن الملاحظة الأهم هي تلك الانتكاسة التي أثارتها مواقف قيادة حركة الإخوان المسلمين في سوريا حين أعلنت تأييدها لمشروع برنامج حزب حركة الإخوان المسلمين في مصر، والتي كشفت عن عمق التباين بين المواقف النظرية والمواقف العملية، فقد أعلنت قيادة حركة الإخوان المسلمين في سوريا عن تأييدها للمشروع قائلة: “إن حركة الإخوان في مصر قد شاورتها بالمشروع قبل إعلانه للرأي العام”، فهي بذلك تعود إلى ما قبل التطويرات التي قدمتها، على تواضعها، في مشروعها السياسي المذكور أعلاه.
لقد سبق لحركة الإخوان المسلمين في سوريا وتبنت في مشروع “الميثاق الوطني في سوريا” (صدر في25/8/2002) ما أسمته “الإنجازات العالمية الكبرى” كمحدد ثالث لرؤيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذه تتجسد في العلم والخبرة والإبداع الذي عرفه التطور الإنساني والذي نستطيع أن ننهل منه ونقتدي به للنهوض من عثارنا وتخليص حياتنا مما شابها من عوارض الوهن والترهل والفساد في عصور الانحطاط والضعف، وتوسيع وتعميق نظرتنا إلى الكون والحياة. وكان بإمكان الحركة تفعيل هذا المعطى لكنها فضلت الانحياز الى صف التقليد والماضي وضيعت فرصة كبيرة بوقوفها إلى جانب حركة إخوان مصر لاعتبارات حزبية أو مصلحية.
المدن
تأملات في المواجهة أمام قيادة الحرس الجمهوري
مازن كم الماز*
صحيح أن ملايين المصريين نزلوا إلى الشوارع في الثلاثين من حزيران/ يونيو ضد نظام محمد مرسي، لكن من أسقط مرسي كان الجيش. في زمن الثورات، يمتلك الشارع قوة استثنائية في مواجهة أية سلطة، مهما كانت مبررات وجودها وهيمنتها، لا تملكها أية قوة سلطوية على الإطلاق، بما في ذلك الجيش..
من المؤكد أن من حق ملايين المصريين أن يرفضوا تسلط أقلية عليهم، ولا يمكن لتلك الأقلية أن تبرر تسلطها ذلك على المجتمع بأي مبرر، وأن الديمقراطية المباشرة في الشوارع والميادين هي الأقرب إلى نبض الشارع
والناس من أي شكل آخر للسلطة، لكن تدخل المعارضة المصرية وبعدها الجيش قطع الطريق عمليا على تطور ديمقراطية الشوارع والميادين المباشرة هذه، وقلب المعادلة إلى صراع بين قوى سلطوية للهيمنة على مركز السلطة.
ليست المسألة شكلية فقط، بل القضية هي في من سيرث السلطة التي سقطت،
الشارع أم الجيش أم المعارضة؟ عندما يطيح الشارع بسلطة غاشمة سيكتسب
عندها قوة كبرى في مواجهة أية سلطة قادمة، وستكون في موقف أضعف من السلطة السابقة التي أسقطها الشارع، لكن عندما يتم الأمر بيد الجيش تنتقل السلطة الفعلية إلى الجيش، لا الى الشارع.
لا بد أيضا من بعض التأملات الضرورية في تكتيكات الإخوان في الأيام الأخيرة، فقد فاق الإخوان ثوار محمد محمود والعباسية ومجلس الوزراء وغيرها في مواجهاتهم مع قوات أمن المجلس العسكري، ثم حكومة مرسي، في الوسائل والتكتيكات التي استخدموها، رغم أن إعلام النظام مدعوما بالإخوان وصف هؤلاء الثوار يومها بـ’الفوضويين’ و’المخربين’، لكن أولئك الفوضويين لم يستخدموا أي سلاح ناري ضد الشرطة والجيش، ولم يتقصدوا رغم كل جراحهم قتل أي من جنود هذين الجهازين الأمنيين أو القمعيين. بالمقابل قد يكون من الصعب أن نحكم على مدى استخدم الإخوان للأسلحة النارية في مواجهتهم مع الجيش اليوم، لكن هذا الاستخدام أمر لا يمكن إنكاره ولا حاجة أصلا لإنكاره. وبينما كان الشباب الثائر يواجه العسكر ثم شرطة مرسي في الشوارع والميادين، كان الإخوان يحملون هذا الشباب جريرة ما يقع ويتعامون عن القمع الذي يتعرضون له على يد العسكر حلفاء الأمس أعداء اليوم، وطالما اتهمهم الإخوان يومها بأقذع الاتهامات المأخوذة من الترسانة التقليدية لإعلام الأنظمة الاستبدادية.. صحيح أيضا أن النظام، نظام المجلس العسكري ثم الإخوان، لم يكلف نفسه حتى عناء الحديث عن مصالحة وطنية مع هذا الشباب الثائر، ولا عن حقن دمائه أو عن حقوقه في ظل ‘الديمقراطية’ التي يتحدثون عنها اليوم، على العكس مما يفعله اليوم نظام العسكر ـ المعارضة مع الإخوان. من الواضح أن اعتقال وسحل وقتل المئات من هؤلاء الشباب بالأمس كان مهمة سهلة مقارنة بقمع العسكر للإخوان اليوم، ولا شك أن هذا حدث جزئيا بفضل الإخوان أنفسهم والغرب ‘الحر’ أيضا.. لكن كلام الإخوان وتصرفاتهم يومها لا يمكن أن يبرر للثوار المصريين ولا لغيرهم الصمت على أفعال القمع التي ترتكبها أجهزة أمن النظام الجديد، نصف العسكري، بحق الإخوان أو غيرهم.. لا شك أنه لا يمكن القبول بالقمع مهما كانت مبرراته، أيا كان من مارسه أو من وقع عليه، ففي النهاية ليس القمع فقط هو سلاح القوى السلطوية المتنافسة في إخضاع خصومها، الثابت هو أن القمع أحد أهم أسلحة أي نظام في إخضاع المجتمع الذي يريد الهيمنة عليه. باختصار، لا يمكن اليوم تبرير قمع الإخوان ولا القبول به، من زاوية حرية المجتمع وكل أفراده.. تبقى ديمقراطية الشوارع والميادين هي الخطوة الأولى نحو الديمقراطية المباشرة، الديمقراطية الحقيقية للمجتمع، والهدف الحقيقي
من مواجهة قمع النظام الجديد، كما هو الحال مع قمع أي نظام، ليس الدخول
في صراع الكبار على السيطرة على المجتمع، بل الدفع بتلك الديمقراطية
الشعبية المباشرة في مواجهة ‘ديمقراطية’ الأقوى.
انقلاب أم ثورة ثانية في مصر؟
وائل السواح *
تفاوتت الأرقام التي قدَّرت عدد المنتفضين المصريين الذين نزلوا إلى الشارع لإجبار الرئيس المقال محمد مرسي على الرحيل، ولكن أقل هذه الأرقام كان يكفي عملياً لإقناع رجل عاقل أنه لن يستطيع مواجهة هذا المدّ الجماهيري الهائل والمجمع على رحيله.
مرسي أصغى إلى نصائح مستشاريه وجمهوره الذين قالوا له إن بشار الأسد ليس أفضل منه، وأن عليه أن يواجه «المؤامرة» كما فعل نظيره السوري. ولكن مرسي نسي أنه لا يملك القوة العسكرية ولا المقدرة على التجييش الطائفي ولا دعم دول مثل روسيا وإيران والعراق، وليست لديه ميليشيات «حزب الله» الطائفية لتقاتل إلى جانبه وتسحق تمرد المصريين ضده بالقوة.
ثمة تقارير عن أن النيابة العامة المصرية ستوجه تهماً إلى الرئيس مرسي من مثل اقتحام سجن وادي النطرون والفرار من السجن. لا أدري إذا كانت ثمة قيمة لهذه التهمة من الناحية القانونية، ولكن مرسي ارتكب جريمة أكبر من ذلك كله. كان بإمكان الرجل المنتخب بنسبة 51 في المئة أن يحكم لمدة اربع سنوات بهدوء وسلاسة من دون أن يعبث بالتكوين الثقافي والحضاري لدولة بتاريخ مثل تاريخ مصر وعظمتها؛ وكان في إمكانه – لو فعل – أن يثبت للمصريين والعالم أن مصر قادرة على أن تنتج نظاماً ديموقراطياً تداولياً وأن تعطي مثالاً يحتذى للثورات العربية الأخرى.
ولكن الرجل آثر أسلمة، بل «أخونة»، مصر وتغيير وجهها الحضاري الذي يرجع إلى سبعة آلاف سنة، وهو ما لم يفعله عمرو بن العاص عندما فتح البلد قبل خمسة عشر قرناً، فمارس ضغوطاً لكتابة دستور غير تمثيلي، وسَّع من مفهوم الشريعة الإسلامية لتشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنّة والجماعة، وقيد ممارسة الحقوق والحريات، وسمح للمجتمع والأفراد بالتدخل لحماية القيم والأعراض والآداب العامة، ما اعتبره البعض مقدمة لفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالعنف؛ ورفض المبادئ فوق الدستورية التي طالب بها المصريون الذين قاموا اساساً بثورة يناير؛ ثم انقلب على دستوره نفسه بإعلانه «الإعلان الدستوري» الذي أعطى من خلاله لنفسه صلاحيات رئاسية غير ديموقراطية، وأعطى مجلس الشورى غير المنتخب صلاحيات تشريعية، وعبث بالبنية القضائية، فأقال النائب العام، وعيّن بدلاً منه نائباً عاماً إخوانياً، وأصدر مراسيم تضر بالسياحة في مصر التي تعتبر مصدراً أساسياً لرزق ملايين المصريين.
كل ذلك دفع بالمصريين للنزول إلى الشارع من جديد لإطلاق ثورة مصرية ثانية. ومثل ثورتهم الأولى، كانت ثورتهم الثانية حضارية وسلمية وذات أبعاد مدنية وديموقراطية. ولكن مرسي الذي تعلم من الرئيس الأسد انفصاله عن الواقع، لم يدرك جدية التحرك المصري باسم «شرعية» فقدت شرعيتها عملياً بنزول الملايين، وراح يهدد ويتوعد، ويعلن أنه ماض في تمسكه بالحكم وفي أخونة البلاد.
وجاء تحرك الجيش الذي استقبله معظم المصريين بالترحاب ليطرح سؤالاً مهماً: هل ما جرى في مصر يوم 3 تموز (يوليو) انقلاب أم لا؟ من حيث الشكل، هو بالتأكيد انقلاب عسكري، ولكن مضمونه يعتمد على سلوك قيادة الجيش المصري التي ستحدد ذلك. فهي إن أجرت انتخابات حقيقية ديموقراطية، وساعدت على تهيئة المناخ المناسب لكتابة دستور توافقي وتمثيلي جديد، ورجعت إلى ثكناتها بعد فترة لا تزيد عن سنة واحدة على الأغلب، كان انقلابها مدخلاً لديموقراطية مصرية جديدة، تحكم فيها الغالبية السياسية السائدة لمدة من الزمن، وتسلم الحكم لغالبية أخرى تتغلب عليها في انتخابات عادلة ونزيهة. أما إن استمر تدخل الجيش، وأصر على سياسة الاعتقالات وكمِّ الأفواه وإغلاق وسائل الإعلام وتابع مهزلة محاكمة الرئيس المخلوع، فسيكون ذلك مقدمة لثورة ثالثة لا أحد يمكنه أن يتوقع نتائجها.
في التاريخ العربي المعاصر ثلاثة أمثلة لقادة عسكريين دخلوا التاريخ لقيامهم بانقلابات عسكرية وتسليمهم السلطة لمدنيين خلال فترة انتقالية.
أول هذه الأمثلة انقلاب العقيد سامي الحناوي في سورية على حسني الزعيم الذي كان انقلب على الرئيس المنتخب ديموقراطياً شكري القوتلي قبل نيف وأربعة أشهر. وبعد يومين سلم الحناوي الحكم رسمياً إلى رئيس سورية السابق هاشم الأتاسي، ثم أعلن أن مهمته الوطنية قد انتهت، وأنه سيعود إلى الجيش.
المثال الثاني هو المشير عبدالرحمن سوار الذهب، الذي قام بانقلاب على الديكتاتور السوداني جعفر النميري، ورئس مجلساً انتقالياً لمدة سنة ثم سلَّم مقاليد السلطة للحكومة الجديدة المنتخبة برئاسة الصادق المهدي، وبعدها اعتزل العمل السياسي والعسكري.
وثالث الأمثلة العقيد إعلي ولد محمد فال، رئيس المجلس العسكري للعدالة والديموقراطية في موريتانيا، وقد وصل إلى السلطة إثر انقلاب عسكري أبيض في 2005 اطاح الديكتاتور معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، وقاد فترة انتقالية لمدة عامين، سلّم بعدها السلطة لحكومة مدنية منتخبة، واعتزل بعدها الحياة السياسية.
القيادة العسكرية المصرية اليوم أمام امتحان كبير يقودها إلى مفترق طرق، فإما أن تختار الإشراف على البلاد لفترة انتقالية تتراوح بين ستة أشهر وسنة، ثم تسلم السلطة كاملة لحكومة مدنية منتخبة وفق دستور توافقي مدني وحديث، وإما أن تستمرئ الحكم، فتتلاعب بالحياة السياسية والانتخابات، لتبقي تأثيرها في الحياة السياسية، فتخسر بذلك سمعتها كمؤسسة عسكرية، ودورها التاريخي، وتعاطف المصريين معها واحترامهم لها. وهي إن اختارت الخيار الأول فتحت مساراً جديداً أمام الثورات العربية، وبخاصة الثورة السورية، وأثبتت أن لا مبرر للتخوف من شكل الحكم بعد سقوط الأسد لأن السوريين قادرون، كما فعل المصريون، على تصحيح مسارات الثورة إذا انحرفت. وإن اختارت الخيار الثاني، فلا بد من أن تتوقع أن المصريين لم يعودوا يستكينون للقمع وتكميم الأفواه، وأن الشعب الذي أسقط مبارك ومرسي قادر على الخروج من جديد الى الشارع.
* كاتب سوري
الحياة
درس عميق الدلالة
د. طيب تيزيني
جاءت الأحداث الدراماتيكية الأخيرة في مصر، لتطرح أسئلة ومشكلات كثيرة منها أو بعضها جديد، على الأقل في واحدة من زواياه، فبعد تدخل الجيش المصري خصوصاً، برز من تلك الأسئلة والمشكلات سؤال عن الشرعية الانتخابية، كما برزت مشكلة تتصل بمثل ذلك التدخل العسكري. لكن السؤال الأعظم، الذي طبع الأوضاع المصرية بطابعه الخاص والقوي: هل يدع المصريون الأمور تسير على النحو الذي بدأ يظهر جلياً في الحياة المصرية، التي يريد لها الرئيس مرسي ومجموعات قيادية كبرى من الإخوان المسلمين، أن تصبح حاسمة وتأسيساً لما سيأتي من سنوات أربع، هي مدة الرئاسة؟ أما المعني بذلك فيتحدد في حركة «الأخونة» التي أخذ يمشي عليها الرئيس مرسي منذ البدء، وأخذت تتحول إلى الاستراتيجية الجديدة في النظام الجيد؟ وللدقة ومصداقية الطرح، نتساءل هل ننتقد ذلك بقدر ما قد يصبح فيه نظاماً إخوانياً ومجتمعاً مصرياً مُؤخوناً؟ وكي لا نعطي هذه الصيغة من السؤال طابعاً حاداً وحازماً، نلجأ إلى السؤال الآخر التالي: هل نكتفي بمعالجة المسألة بالنقد الإعلامي لأصحاب ذلك الموقف وبالمثابرة في ذلك، دون اللجوء إلى حالة أخرى للنقد، قد تكون جديدة في تاريخ الفكر السياسي المصري والعربي؟
نعم، إنها حالة جديدة في وضوحها وحزمها وكذلك في توجهها الحاسم للناس كي يأخذوا موقفاً حاسماً وسريعاً، وقد نصطلح على هذه الحالة بـ «العصيان المدني». أما ما يؤخذ على هذا الطرح من قبل «الإخوان» في مصر، فيتمثل في أنه أتى متوافقاً مع قرار الجيش المصري الإعلان عن انحيازه لمن انتقدوا ما يفعله الإخوان منذ البدء. وهذا، بدوره، أفصح بوضوح عن فكرة كان كشفها هائلاً، حين وضعت بالمقارنة مع حقلين اثنين ظهرت فيهما وكلفتهما الكثير من الأسى والمرارة والآلام؛ نعني الاتحاد السوفييتي والعالم العربي في معظم أقطاره، وخصوصاً سوريا. ففي الحقل الأول السوفييتي ظهرت المادة رقم (6)، كما ظهرت المادة رقم (8) في الحقل العربي السوري، على امتداد أربعين عاماً ونيفا.
ها هنا، يتعين على الباحث في العلوم الاجتماعية، أن يضع يده – بصدق موضوعي ودون تشفٍ أو سخرية عابثة، على ما كلفت هاتان المادتان الدستوريتان شعبي أو شعوب البلدين، لقد قصد من المادة الأولى اختزال شعوب الاتحاد السوفييتي السابق إلى ما اعتبروا (نخبة هذا الأخير المتميزة وعقله ومستقبله. وكذا الأمر بالنسبة إلى المادة الأخرى، التي كلفت الشعب السوري حقاً أن يختزل إلى نخبة هذا الشعب: لقد أصموا آذانهم عن رؤية البلد والشعب، وفقدوا الإحساس به وفي الأمة، التي أتت الحرب لتمحق مئات الألوف منه، ولتيتم من الأطفال ما يهز الكون ويزلزله، هكذا كان القرار!
أما ما بدأ الإخوان المسلمون في التأسيس الجذري له فقد تمثل في تلفيق «مصر إخوانية وشعب مصري إخواني». وهذا ما لا يمكن إطباق الفم عليه، ولو كلف الحياة. ولقد اضطرب الإخوان مجدداً، حين خرجوا على ما قدمه المؤسس الإخواني التاريخي وقدمته التجارب السياسية والحضارية التاريخية الكثيرة)، خصوصاً السوفييتية والعربية؟ وأدخلوا أنفسهم في نفق مغلق أفسد عليهم النظر فيما آل إليه الأمر من استحواذ على السلطة والثروة والإعلام، وأخيراً وخصوصاً في المرجعية المجتمعية السياسية، التي تقول: إن جماعة الأخوان هي التي تقود الدولة والمجتمع. ولعلنا نرى أن هؤلاء ينشدون إلى مثل هذه «المرجعية».
لم يملك «الإخوان» في مصر – وهم جزء لا يتجزأ من الشعب المصري من الوعي التاريخي والرؤية العقلية الحصيفة، ما كان قميناً بتجنبهم ذلك الطريق الوعر والمغلق. ولم يدركوا للأسف أن الرجوع عن الخطأ فضيلة عظيمة وسيكون ذلك كله درساً عميقاًَ للثورة السورية!
الاتحاد
السوريون والمشهد المصري!
أكرم البني
رغم فرادة عذاباتهم وشدة معاناتهم، أطلق المشهد المصري الضاج بالمظاهرات والمتغيرات السياسية حزمة من التداعيات والمواقف بين السوريين، بعضها ظهر جليا وبعضها لا يزال موضع تشوش وغموض.
بداية، ثمة ما يشبه الإجماع لدى السوريين على اختلاف اصطفافاتهم بأن ما يحصل في مصر هو قضيتهم وتعنيهم بقدر ما تعني المصريين، ربما بسبب العلاقة التاريخية الخاصة بين الشعبين، وربما لشيوع إحساس بأن نتائج ما يحدث هناك سوف تنعكس بشدة على أحوالهم وعلى الصراع المستعر في بلدهم، وربما لأن الشعب المصري سارع لاستقبال مئات آلاف اللاجئين السوريين، من دون تذمر أو منة، بخلاف أحوالهم في بلدان الجوار.
ومع التعمق في اختبار الأفكار والنفوس، تظهر الاختلافات في المواقف والمشاعر، فثمة من سارع لمجاراة الإعلام الرسمي والترويج لما حدث في مصر كأنه نصر للنظام وهزيمة للإخوان المسلمين عموما ولإخوان سوريا الذين يحوزون وزنا لافتا في المعارضة، وتاليا هزيمة للشعارات الدينية وللصورة النمطية ذات الطابع الإسلامي التي بدأت تسم الثورة السورية! وثمة من يأسره التحزب السياسي والديني ويميل بمشاعره للتضامن مع السلطة المصرية أكثر من الحراك الشعبي، وتفاجئك أصوات، وإن قليلة، تعتبر عزل مرسي هجوما مدروسا ومبيتا على الإسلام والمسلمين لإجهاض حلمهم بنهضة شاملة دشنها وصول الإخوان إلى حكم مصر، وهناك من يخشى من أن تفضي الأمور إلى تمكين الجيش مجددا من السلطة وإجهاض آمال ملايين المصريين في التغيير الديمقراطي، ولكن تلمس لدى أوساط هامة من السوريين حالة من التعاطف والتأييد لهذه الحشود في الميادين المصرية، نابعة ربما من ترابط رياح التغير العربي واتحاد هموم البشر وإيمانهم المشترك بحقهم في الحرية والكرامة، وربما احتراما لسلامة هذه التجمعات البشرية الهائلة وحقها في التظاهر، وكإدانة لعنف مفرط ضد حشود أقل عددا تجمعت في بعض الساحات السورية.
يصف أحدهم تدفق المصريين العفوي، صغارا وكبارا، إلى الساحات العامة بأنه مشهد أثير ولن يتكرر من مشاهد الثورات، ويضيف آخر بأن هؤلاء «الأشاوس» قد أعادوا وأكدوا، بعد تغييب مزمن، دور البشر في المشاركة وتقرير مصيرهم، متسائلا: «ألا يكفي ما يحدث في مصر كي يدرك الجميع ظمأ الشعوب لحقوقها التي لن يحول دونها حائل؟!»، ويطلق ثالث تعليقا بأنهم شعب مثابر، لم يترك فرصة للعمى الآيديولوجي ولمدعي الوصاية على الإسلام كي يفركوا أياديهم فرحا ويستأثروا بالسلطة بعد فوزهم الطارئ في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وكأنه يكثف بكلمات بسيطة إعجاب الرأي العام بدأب المصريين ودينامكيتهم وما ابتكروه من وسائل لإبقاء ثورتهم حية حتى يتحقق لهم ما يريدونه!!
لم يقف السوريون عند شعورهم بالألم والغبن حين بدأت أخبار مصر تطغى على ما يجري في بلدهم وتمنح العنف فرصة لإطلاق أدواته الفتاكة بمنأى عن التركيز الإعلامي، بل كانت عيونهم مشدودة إلى شاشات التلفزة لتراقب بذهول ما يجري هناك، وكان بالإمكان سماع عبارات مشجعة للأساليب المدنية في إدارة المظاهرات والاعتصامات، ومحبذة لمناخات حماية السلم الأهلي وضمان حياد الجيش وإشاعة الثقة بدوره العمومي كضامن لوحدة البلاد وأمنها، وتاليا متحسرة عما لاقته النشاطات المدنية والسلمية في سوريا من قمع سلطوي وفتك لم يعرف حدودا، وأيضا كان بالإمكان أن تسمع عبارات إعجاب بما أظهره المعارضون لسلطة مرسي من نضج ووعي، حين سارعوا، فور إعلان خريطة المستقبل، لتأكيد حرصهم على تخفيف التوترات والاحتقانات واحترام ظواهر التعددية وحق الاختلاف، وحضوا على التسامح ورفض الاستئثار أو الإقصاء لأي كان.
قلق السوريين من تطور غير محمود للأحداث المصرية عميق، ليس فقط لأنهم يناصرون الأساليب السلمية والمدنية، ويرفضون الاستبداد العسكري والعنف الأعمى الذي ما من أحد مثلهم اكتوى بناره، وليس لأنهم يدركون التأثيرات السلبية على ثورتهم إذا فشلت جموع المصريين في تعزيز وحدتها الوطنية وبناء دولة مدنية، بل أساسا بدافع من رغبة صادقة بأن لا تذهب الأمور نحو الفوضى والصراع الأهلي وتغرق مصر في دوامة التفرقة والقتل وحمامات الدم.
«لا تزال أيادينا على قلوبنا ونأمل أن لا تحدث اندفاعات مغرضة تفقد ما حصل في مصر معناه الديمقراطي الأصيل أو تشكل ذريعة لإجهاض الأمل المشترك». يستهل أحدهم حديثه ويستدرك متمنيا نجاح الخيار السلمي وخيار الدولة ومؤسساتها في التوفيق بين المصالح والمواقف المتباينة، غامزا من هذه القناة إلى رفض حكم العسكر وإلى أهمية وحدة الشعب المصري وابتعاده عن الاستقطابات الحادة ونوازع التطرف والإقصاء والمغالاة!
أهو حظنا العاثر أم ثمة أسباب أخرى؟! تسمع من البعض سؤالا يفيض بالألم والمرارة، عند المقارنة بين ما يحصل في مصر وما آلت إليه أوضاع سوريا.
الشرق الأوسط
———————–