مقالات لكتاب عرب تناولت أزمة “داعش” وتداعياتها على المسالة الكردية
دولة الأكراد… أي نموذج؟/ امين قمورية
“الدولة الكردية آتية”، هكذا أنبأ مسعود بارزاني جماعته ودعا برلمان اقليمه شبه المستقل الى الاستعداد للحظة التي طال انتظارها باجراء استفتاء على تقرير المصير.
الحلم الكردي بعلم ودولة صار واقعاً أكثر من ذي قبل وصارت القاعدة جاهزة للاعلان بعد ضم “العاصمة” كركوك. حزب البعث وضع الاساس لهذا الحلم عندما حول الاقليم سجناً وسوره بالقهر والاقصاء وسلب الهوية، ولدى انهيار نظامه لم يكن من خيار لدى السجين سوى كسر القفص والتخلص من السجّان. كان العراق الديموقراطي الفيديرالي فرصة لاعادة الاكراد الى وطن موحد يساوي بين الجميع، لكن القادم الجديد الى بغداد الذي اوصله الغزاة لم ينتج سوى عراق طائفي مذهبي يعمق التشرذم بدل التوحد والتناحر بدل البناء، فكانت دولة المحسوبيات والمحاصصة والفساد، الأشطر فيها هو الأقدر على انتزاع الحصة الكبرى من الارض والنفط والمال. وأخيراً جاءت دولة “داعش” لتمنح الاكراد بطاقة سفر الى الأبد خارج بغداد والعراق القديم.
الارضية المحلية صارت جاهزة للاستقلال. والارضية الاقليمية تجري تسويتها. الاعتراض البعثي السوري لم يعد ذا قيمة بعدما صار هذا البعث أعجز من أن يحمي دمشق نفسها. والاعتراض التركي الأبرز بدأ يتلاشى، فثمة آراء في انقرة تفضل ان تكون الدولة الكردية عازلاً بين تركيا و”دولة داعش”، لأن الاكراد يظلون اقرب الى الاتراك من العرب. كذلك فإن دولة كردستان الجنوبية (العراق) لن تكون بالضرورة حافزا لاقامة دولة كردستان الشمالية (تركيا) لأن المرجعيتين الكرديتين في كلا الاقليمين مختلفتان وعلى تناقض سياسي واجتماعي (مرجعية البارزاني والطالباني في مقابل مرجعية أوج ألان وحزب العمال الكردستاني)، ولأن أكراد تركيا لم يعودوا متمركزين في الجنوب الشرقي فقط بل وسعوا انتشارهم في اتجاه الغرب التركي ويمكن ادماجهم في الحياة العامة التركية بمنحهم بعض حقوقهم الثقافية وتعزيز الديموقراطية في البلاد. لا بل ان الازدهار الذي تعيشه كردستان العراق اليوم والذي تشكل الشركات التركية أحد أبرز اعمدته، ربما كان عنصر جذب لاكراد تركيا للعمل وليس للنضال. أما الاعتراض الايراني، فيصير ضعيفاً ويكاد يقتصر على كردستان الغربية في ظل تلاشي الاعتراضين التركي والسوري. يبقى موقف اللاعب الدولي الاكبر واشنطن، وهو حتى هذه اللحظة كبير مشجعي كردستان وأبرز حماتها.
التناقضات القبلية الكردية – الكردية لا تزال عميقة ولم تحجبها بعد الصورة اللماعة لاربيل، كما ان لدى الاكراد “دواعشهم”، فثمة ملالي و”أمراء” ومشايخ ينشطون في الاقليم يتوقون الى أن يفعلوا ما يفعله “الخليفة ابرهيم” وينطقون مثله، فهل تتغلب عليهم أم يتغلبون عليها؟
النهار
قراءة في ما يدعم دولة كردية في العراق وسورية/ هَلْكَوْت حكيم
لم يكن العرب يوماً على هذا القرب من فكرة قبول دولة كردية ضمن حدود الاراضي العراقية. فالعراق كان حتى عقود قليلة، لدى الغالبية الكبرى منهم، دولة ليس فيها غير العرب، ويشكل الحدود الشمالية الشرقية للعالم العربي، وهو «حامي البوابة الشرقية» ضد طموحات العدو الفارسي الشيعي وضد الاكراد الانفصاليين الذين اتى بهم الاستعمار الى المنطقة.
اليوم، انتهت جوانب من هذه الصورة وتغيرت جوانب أخرى منها. فالكل يعرف ان هناك شيعة من اصول عربية وحنينهم الى ايران الشيعي يقارن بنفورهم الحديث من العالم العربي السنّي. فاللغة التي تربطهم بالعالم العربي توازن الانتماء الديني الذي يشدهم الى ايران. وكذلك يعرف الكثيرون ان الاكراد سنّة ولكنهم شركاء الشيعة في المعاناة من الحكومات القومية السنّية التي قمعتهم ووصلت الى حد استعمال الاسلحة الكيماوية ضدهم بحيث تبدو القنابل الكيماوية السورية التي تهز المشاعر العربية والانسانية، وكأنها اسلحة خفيفة.
مع سقوط نظام صدام في 2003 ووصول الشيعة والأكراد الى دفة الحكم، تحول العرب السنة الى المعارضة. ولأول مرة في تاريخ العراق يجدون انفسهم محرومين من مركز صنع القرار وإدارة خيرات البلاد وقيادة مصيرها. وإذا بحثنا عن فترة وصل الشيعة فيها الى هذه الاهمية في السلطة والحضور في احد مراكز الامبراطورية الاسلامية، فعلينا ان نبحث في الحقبات القديمة من التاريخ. فالهزة كانت عميقة ولا سابق لها بالنسبة الى كل العرب السنة.
ووصل الصراع السني – الشيعي في السنوات الأخيرة، بخاصة مع دور ايران والحكومة العراقية في قمع المعارضة السنّية في سورية وازدياد حدة الخطاب الشيعي والتأكيد عليه، حداً دفع بالسنة في البلدان العربية وفي العراق الى تغيير افكارهم ولو مرحلياً حول الاكراد ومطالبهم في العراق. فنجدهم اليوم لا يعارضون حصول الاكراد على استقلال اكبر حتى وان كانت مدينة كركوك ضمن هذا الاستقلال. لقد كانوا قبل سنوات ينفرون من استعمال كلمة كردستان، وغدوا اليوم يستعملونها وكأنها موجودة في قواميسهم منذ مئات السنين.
ولا يختلف الامر كذلك في البلدان العربية التي ما زالت صامتة عما حدث في كردستان. ومع قراءتنا هناك وهناك التي تقول ان العالم العربي لن يقبل بأي شكل من الاشكال بتقسيم العراق، فان هذا التقسيم موجود ويثبت فشل العالم العربي وايديولوجياته في العراق، وكذلك فشل الحكم الشيعي في اقناع سكان المناطق الكردية بكونهم ينتمون الى عراق موحد لا تمييز فيه بين سكانه المختلفين.
أما تركيا التي ظلت خلال عقود اشرس المعارضين لكل انفتاح على المطالب الكردية، لا في تركيا فقط بل وفي العراق ايضاً، فإنها اليوم تفكر باقتصادها وما تدره عليها كردستان العراق من فوائد، وبدور اكراد العراق في تهدئة اكرادها وفي تأثيرهم على اكراد سورية. وترى أنقرة في تقوية اكراد العراق اضعافاً لحكومة المالكي، فيما لا نجد الكثير من الانتقادات التركية تجاه سياسة حكومة كردستان مع تركمان العراق. وهؤلاء قد يصوتون اكثر من اي وقت مضى مع كردستان التي توفر الأمن والأمان وحيث يستطيعون ان يحصلوا على حقوقهم المشروعة.
اما ايران اللاعبة القوية في العراق، فإنها ايضاً تملك بعض الدوافع لكي تقبل، ولو على مضض، بدولة كردية ذات علاقة جيدة معها، بدلاً من دولة تتحكم بمصيرها تركيا، عدوتها التاريخية، في فترة عودة الأفكار المذهبية التي استعملتها الامبراطوريتان العثمانية والفارسية خلال اربعة قرون من تاريخ نزاعاتهما.
فإيران دولة تنظر الى السياسة نظرة واقعية وتدرك انها فن الممكن. وإذا فرض الواقع نفسه فالأجدى ان يأخذ الانسان منه ما هو ممكن أخذه. وهكذا فدولة كردية ستكون جداراً يصد الاسلام السنّي المتطرف المتمثل بداعش والمبني اساساً على معاداة الشيعة. ثم ان ايران تعيش عدداً من النزاعات في سورية والعراق ولبنان والخليج، ومع الغرب وتركيا، ولا تستفيد ان اضافت نزاعاً آخر مع الأكراد، بخاصة أن عددهم داخل اراضيها يقارب العشرة ملايين. فهي قد تستمر في اتباع سياستها التاريخية تجاهم، اي قتل رؤسائهم، لكنها قد تضيف اليها سياسة جديدة تعتمد الانفتاح على حقوقهم الثقافية. ولن يصعب عليها وعلى حليفتها سورية ان تقيّما استقلال الاراضي الكردية في شمال شرقي سورية في شكل ايجابي لهما بوصفه يناوئ المعارضة السنّية و «داعش» وتركيا على حد سواء.
ان ايران تلهث للعودة الى الحظيرة الدولية، وبالدقة من بوابة محاربة الارهاب الاسلامي الذي يقترب من اراضيها بعد ان لعبت دوراً اساسياً في خلقه وانتشاره في العالم. وايران تحتاج الى الخروج من هذه الصورة وذاك الماضي، كما تحتاج الى الخروج من خناقها الاقتصادي. ولن تجد حرجاً في القبول بدولة سنّية في الشمال الغربي من العراق، بعد اضعاف «داعش» وتركه في حالة يبقى معها مشكلة داخلية للدولة السنّية البعثية الوليدة، شرط أن يسيطر حلفاؤها الشيعة على بغداد والجنوب الغني بنفطه وعلى مدن العتبات المقدسة.
ولكن ما يعقد الأمر بالنسبة للأكراد هو قبول الشيعة العراقيين بفشلهم، على رغم كونهم غالبية، في ادارة العراق في حين نجحت الاقلية السنّية في ذلك خلال اكثر من تسعين عاماً. فعلى الشيعة ان ينسجموا مع فكرة انهم لن يصبحوا يوماً سادة العراق. وهذا ممكن ومستساغ على رغم صعوبته. فهم يخرجون من العراق القديم، كمظلومين خلال مئات السنين وكطغاة خلال ثماني سنوات، ليملكوا عراق الجنوب وما يعود لهم فيه، وهو من أغنى مناطق العالم بنفطه. وما صياح المالكي إلا محاولة للبقاء في سلطة العراق لأنه يدرك ان لا مكان له في دولة الجنوب وحدها. فهو لا يجهل المثل الفارسي الذي يقول: «آخون بُرْد»، أي «أخذه الملاّ»، والذي يعني أن تُقرأ على الرغبة الفاتحة والسلام إذ لن يبقى منها شيء لأن الملاّ أخذ كل شيء. وقد لا يجد المالكي بعد ذلك شيئاً اسمه السلطة، وقد يضطر الى طلب اللجوء السياسي عند مسعود البارزاني. هذا إن لم تؤد عنجهيته الى هدم ما بقي في العراق من بشر ومعالم!
* أستاذ كردي عراقي في جامعة باريس
الحياة
مشكلة العرب لا مشكلة الأكراد/ حازم صاغية
منذ احتلّت المسألة الكرديّة، مع ثورات «الربيع العربيّ»، موقعاً متقدّماً في الأحداث، ظهر التململ والاستياء في بعض البيئات العربيّة، خصوصاً حين أبدى الأكراد السوريّون، الذين اكتُشفوا اكتشافاً، رفضهم البقاء قسراً ضمن الجمهوريّة «العربيّة» السوريّة. وما لبث التململ والاستياء أن انقلبا غضباً وصراخاً مع ضمّ مدينة كركوك إلى إقليم الحكم الذاتيّ في شمال العراق، بعد استيلاء «داعش» على الموصل، سيّما وقد ترافق التطوّر المذكور مع كلام صدر عن رئيس الإقليم، مسعود بارزاني، يؤكّد التمسّك بكركوك ونيّة إجراء استفتاء حول الاستقلال.
وهنا لا بأس بالعودة إلى بديهيّات قد يتشكّل منها إطار لطرح المسألة الكرديّة، خصوصاً في العراق، على غير ما تُطرح. فالبديهة الأولى أنّ أكراد العراق ليسوا «عرباً عراقيّين». أمّا البديهة الثانية فأنّ الأكثريّة الكاسحة منهم يريدون لنفسهم كياناً يستقلّون به على نحو أو آخر، وهذه رغبة ترقى إلى انتفاضات محمود الحفيد ردّاً على نشأة الكيان العراقيّ الحديث. وتقول البديهة الثالثة إنّ أكراد العراق هم سكّان الشمال العراقيّ الأصليّون، لم يأتوا مستوطنين أو مستعمرين إلى حيث يقيمون اليوم. وتذهب البديهة الرابعة إلى أنّ تاريخ العلاقة بين أكراد الشمال والسلطة المركزيّة في بغداد، حين كانت سنّيّة وحين صارت شيعيّة، تاريخ عنف وعدوان لا يتركان لدى الأكراد أيّ استعداد للبقاء في العراق «العربيّ» أو أيّ تمسّك به. أمّا البديهة الخامسة فإنّ الاحتراب الدائر في بلاد الرافدين اليوم، بما فيه صعود «داعش» وإعلان «الخلافة»، فضلاً عن الفتاوى الشيعيّة بالجهاد، لا يغري أيّ كرديّ بهذا النموذج المتصدّع والقاتل.
تهبّ في وجه هذه الحقائق حجج ثلاث غالباً ما تتّخذ شكل شتائم يوجّهها الآغا أو البيك لفلاّحه المتمرّد والمطالب بحريّاته. فيقال، أوّلاً، إنّ الأكراد عانوا في بلدان أخرى كتركيّا وإيران أكثر ممّا عانوا في العراق، ومع هذا ذهبت دعوتهم الانفصاليّة في العراق أبعد ممّا ذهبت في الدول الأخرى. ويقال، ثانياً، إنّ الدول الإقليميّة لن تسمح للأكراد بأن يمتلكوا دولة، لا اليوم ولا غداً، ما يحيل محاولاتهم جهداً مهدوراً. ويقال، ثالثاً، إنّ إسرائيل، التي أعلنت بلسان رئيس حكومتها ترحيبها باستقلال كردستان، هي المستفيد الأوّل من نشأة كيان كهذا، وإنّ ما قد ينشأ لن يعدو كونه قاعدة بعيدة لإسرائيل ونفوذها.
والحجج هذه، وبغضّ النظر عن درجة التخبّط والتضارب في تفاصيلها، تتغافل عن الأمر الأساسيّ الذي هو إرادة أكراد العراق. فالعرب الذين يرفضون الإقرار بحقّ للأكراد، يبالغون في تمثيلهم والنيابة عنهم وإدراك مصالحهم، لا في العراق فحسب بل أيضاً في سائر البلدان التي يوجد فيها أكراد. وتمثيلهم هذا ينمّ، مرّة أخرى، عن سلوك السيّد حيال تابعه الذي يُرسم بوصفه فاقداً القدرة على إدراك مصالحه، أو فاقداً الطاقة على تنفيذ رغبته. إلاّ أنّ العرب الرافضين حقّ الأكراد يسمحون لأنفسهم، فيما بلدانهم تتصدّع وتنهار، أن يمثّلوا استراتيجيّات دول أخرى، كتركيّا وإيران، وينوبوا منابها أيضاً!
وحتّى لو قبلنا بحجّة «المدى الحيويّ» الذي قد يشكّله الأكراد للعرب، ما يملي انضباطهم بمصالح الدولة التي يشكّلون «مداها الحيويّ»، فهل العراق المفتّت المتحارب هو هذه الدولة المقصودة؟ أمّا حين يصل الأمر إلى إسرائيل، فلا يظهر من يسأل عن السبب الكامن في ماضي السلوك العربيّ حيال الأكراد، معطوفاً إليه النقص الهائل في الجاذبيّة العربيّة على الأكراد كما على سواهم.
فالأمر، كيفما قُلّب، هو مشكلة العرب، لا مشكلة الأكراد، وليس من العدل ولا من المنطق ولا من الأخلاق مطالبة الأكراد بأن يربطوا أنفسهم بـ… مشكلة.
الحياة