مقالات لكتاب عرب عن مجزرة الغوطة
أنفال الغوطة/ زهير قصيباتي
… حتى لو سجّل التاريخ أن أطفالاً عرباً أبيدوا بأسلحة عرب كيماوية، لن يكون ذلك في حسابات مَن لا يزال يعتقد بوهم الحسم العسكري في سورية، لأنه الطفل المدلل لدولة كبرى.
وإذا كان بديهياً أن ينفي النظام السوري استخدامه أسلحة كيماوية في مجازر الغازات السامة التي نكِبت بها مناطق الغوطة الشرقية فجراً، يبقى احتمالان حول هوية المرتكِب: إما المعارضة وإما… الشيطان.
نكتة ساذجة بعد جرائم فجر الغوطة التي بزت ما رُوِي عن «حملة الأنفال» في العراق، أن يتطوع وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ، ليعد الرأي العام بأن يحيل اتهامات المعارضة السورية على مجلس الأمن… إذا ثبتت «الادعاءات». أما صور المجازر الرهيبة، وأجساد الأطفال المجلّلة برداء أبيض، في صفوف الجثث التي تكفي لجلد الضمائر في كل مكان في العالم، فلعلها «مفبركة» كما تجتهد روايات النظام في دمشق، من أجل «إحراجه» بينما يباشر فريق الأمم المتحدة بحثه عن آثار الأسلحة الكيماوية في خان العسل… انه الشرط الأول للنظام، لعله يدين المعارضة بها، كما تقاطعت مصالحه ورغبات الغرب في محاصرة الثورة بحبل «الجهاديين» و «جبهة النصرة» و «الإرهابيين».
ألم تتحول الثورة لدى كثيرين، الى المقاعد الخلفية بين المتفرجين، فيما يُطلب من «الجيش الحر» والنظام خوض حرب مشتركة ضد «إرهاب الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام»؟… على الأقل هذا ما توحي به معطيات عن تفاهمات روسية – أميركية، تجعل محنة الثورة شأناً ثانوياً، وحوار المعارضة ونظام الأسد «حتمياً»، إذا أراد السوريون الخلاص من بلاء الإرهاب والخراب، والدم.
مع المتفرجين على اكبر مأساة في القرن الحادي والعشرين، لا بد من بعض الإنصاف. فها هو الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند يطلب من فريق الأمم المتحدة تغيير مساره من خان العسل الى الغوطة، لعله يضبط الشيطان بجرم الغازات الكيماوية. ولكن، ليست لهولاند تلك العصا السحرية القادرة على تليين مشاعر الروس، أو هزّ ثقتهم بحليفهم في دمشق، وبنيّاته! فإن كان سقوط أكثر من مئة ألف قتيل لم يزعزع رهان الكرملين على بقاء النظام السوري، فهل تكفي «انفال» الغوطة وأجساد الأطفال الضحايا، لتبديل عطف موسكو عليه، وإصرارها على شلّ مجلس الأمن؟ لعلها أيضاً تتهم الثوار أو «الإرهابيين»، فكلما تكررت الجرائم أو قُتِلت الضحية مرات، ضاعت معالم الإبادة.
كل ما رآه الجيش السوري في الغوطة «حرباً إعلامية»، بعد تبريرٍ رسمي يصنِّف مجازر فجر أمس، مجرد صور تبثها شاشات «شريكة في سفك دماء» السوريين!
عين الأوروبيين والأميركيين على أهداب العنف في مصر، وعصاهم سلاح المساعدات. قلبهم مع السوريين، ولكن، مجرد صور هل تستحق جلسة لمجلس الأمن، أو اقتياد الفاعل الى محكمة الجنايات الدولية؟
الضحية ضحية، في مصر أو سورية أو تونس وليبيا واليمن، لكن أهل كوسوفو أكثر حظوة… ووعيد الأميركيين لم يعد يخيف حتى «طالبان»! كانت خطيئة ادارة رئيس «الحلم» الأميركي باراك أوباما، انها كشفت كل أوراقها باكراً: لا نعْشَ اضافياً لجنودنا في حرب. الانسحاب «الآمن» أطلق إشارة الهجوم الكاسح لمن ظنَ الغرب أنه حاصره بأزمات حديقته الخلفية وتهديداتها الكامنة، بدءاً من الشيشان الى جورجيا، مروراً بإيران وملفها النووي، والدرع الصاروخية.
مع موجة الهجوم المضاد، يمشي الإيراني تحت المظلة الروسية الى نتانز النووية وجنوب لبنان، والساحل السوري ومنطقة السيدة زينب. الرئيس الإيراني العتيد حسن روحاني، «المعتدل» صاحب النهج الواعد بالانفتاح، وعد نظام الرئيس بشار الأسد بأنه باقٍ، وباحتساب مدة ولاية روحاني، قد لا يخطئ تشاؤم سوريي الشتات بسنوات أخرى، حرباً وخراباً ومجازر.
يختلط «النووي» وطموحاته في جبهة واحدة مع «كيماوي» الغوطة، وإدارة «الحرس الثوري» جبهات مذهبية على خط الخراب السوري، وتضيع نداءات «الائتلاف الوطني» المعارض بين متاهات فراغ الزعامة الأميركي الكارثي والتهافت الروسي لاقتناص التركة الكبرى… ويبقى أن نتوهم بمزيد من الانتظار، لعل «جنيف 2» يأتي يوماً على مقدار طموحات الموفد العربي – الدولي الأخضر الإبراهيمي. فهو، من بعيد، ما زال يراهن على إنهاك المتحاربين، ولم تحبطه أمس إلا غازات الغوطة الكيماوية.
وبين أميركي منبطح لا ينشد إلا السلامة لجِلده، وروسي جشع يثأر لبؤس ترِكة الاتحاد السوفياتي، بدماءٍ سورية، السؤال: مَن ارتكب الإبادة فجراً، لتزوِّر المعارضة الصوَر؟
الجياة
في تحليل المذبحة/ ساطع نور الدين
عندما تتقدم الاداة على الجريمة، ويغلب نوع السلاح المذبحة نفسها، يفقد الموت ما بقي له من حرمة ومهابة، ويضيع حق الضحايا في عدم التمثيل بجثثها وعدم تحويل قبورها الى حلبات للرقص، او مساحات للاستثمار، الذي ليس من شأنه سوى تجهيل الجاني وزيادة صعوبة المحاكمة والإدانة.
لم يكن من الضروري، على الاقل في اللحظات الاولى، ان تخضع مذبحة الغوطة الشرقية من دمشق لاي شكل من اشكال التحليل، السياسي او الاجتماعي او النفسي او حتى الأنتروبولوجي. الحدث اكبر من ان يدرج في اي من هذه التقديرات، مع العلم انه لم يكن عبثا او خطأ او عملا ثأريا،كما يشاع، بل يمثل القعر الجديد الذي انحدرت اليه الازمة السورية، وبات ينذر بارتفاع منسوب الدم السوري المهدور.
فجأة، وحتى قبل إحصاء عدد الضحايا والتعرف على الأسماء والإعمار، جرى القفز الى الكيماوي الذي استخدم في خطف أرواح المئات من الأطفال والنساء والرجال: الحصيلة هي الأكبر منذ بدء الازمة، وهي اكثر من مذبحة كبرى، بل اقرب ما تكون الى عملية إبادة جماعية واسعة النطاق، لا فرق اذا ما استخدم النظام الغازات السامة او الطائرات او الدبابات او الصواريخ او غيرها من ادوات القتل.
بسرعة، وحتى قبل اصدار بيانات النعي والرثاء والحداد والتعازي، دار النقاش حول ذلك السلاح وسوابقه وضوابطه وعواقبه، وطرحت الأسئلة التي لا قيمة لها أمام هول المذبحة المروعة: كيف؟ ولماذا الآن؟ وما معنى ذاك المكان الذي أحرق سكانه بالكيماوي؟ وما مغزى تلك الواقعة، وآثرها على مجريات الصراع او محاولات التفاوض؟
الأجوبة أيضاً كانت تنم عن لا مبالاة ازاء المذبحة نفسها، او على الأقل عن إدمان جديد على المذابح، من دون التمييز بين أرقام سابقة بالعشرات من الضحايا، وبين سابقة استثنائية تخطت ارقامها المئات العشر، بالإضافة الى رقم قياسي، كما ظهر في التفاصيل الأولية، في عدد العائلات التي أبيدت بالكامل، ولم يبق لها قريب او نسيب.
المتحدثون في المذبحة تجنبوا الدخول في مثل هذا الحوليات للحرب السورية، التي ستدخل كتب التاريخ. تبادل الاتهام والنفي بحد ذاته، جر الجميع الى التورط في جدل عقيم حول بديهيات مسلمات يفترض أنها راسخة وثابتة، حول المسؤول الذي لا شك فيه.. والانخراط في حوار ضمني مع الخارج، الذي ما زال يبحث عن الأدلة لكي يخفيها، ولا يقبل بصور تلك الجثث التي لم يمسها سوء.
جمعت الضحايا وسجيت باعتبارها ذلك الدليل الدامغ الذي يستدعي تدخلا او تبدلا في الموقف الدولي، مع ان رفع الكيماوي الى تلك المرتبة من الصراع ومن النقاش يستبعد اي تغيير في المقاربة الاميركية الروسية المشتركة، التي لم تثبت يوما من ايام الازمة السورية انها على خلاف او افتراق.. بل عن ضيق متبادل من جانب كل من واشنطن وموسكو بالحليف السوري، الذي لا يرقى اي منهما الى مستوى الجدال حول المستقبل. لا النظام يطمئن الروس ولا المعارضة تقنع الاميركيين بالقدرة على القيام باي مهمة سياسية.
استثمار المذبحة كاد يبدو أفظع من ارتكابها. الدوس على الجثث، من الجانبين، كان بمثابة مذبحة ثانية، لم يستخدم فيها السلاح الكيماوي، إلا كذريعة للهروب الى الامام.. مع ان الحرب كانت كانت وستبقى مشتعلة، ومع ان الضحايا لا يأبهون لسبب مصرعهم، وما إذا سيساهم في وقف احترام الموت، وليس ابتذاله.
وحده الأعلان عن ان أحدا لن ينسى ولن يغفر.. وسينتقم، كان ينصف الأموات لكنه كان يعد الأحياء بأن يلتحقوا بهم سريعاً، طالما ان موسم الإبادة الجماعية قد افتتح بالأمس، ولن يبقى في نهايته الكثير من سوريا والسوريين.
المدن
اسم القاتل/ حسام عيتاني
لو قُيض لواحد منا، نحن الآمنين في بيوتنا، ان يجول بين أطفال الغوطة الشهداء، لظن انهم اخوة الأبناء الذين يدخل غرفهم الدافئة ليلاً للاطمئنان عليهم. فتعابير وجه هذا تشبه تلك التي ترتسم على وجه ابنك البكر عندما ينام. وشعر تلك لا يختلف عن شعر ابنة اختك الطويل الأملس. والرضيع ذاك كأنه توأم ابن صديقك الذي زرته قبل ايام للتهنئة بالمولود الجديد.
التآلف مع وجوه الضحايا والتماهي معها، يضع الناظر في موضع الشاهد على الجريمة. هول الفجيعة يُخرس الأصوات ليبدو الاستنكار والغضب عديمي المعنى وسط الذهول والعجز الشاملين. السؤال عن حقيقة المشهد يتقدم تفسيره بأشواط. كيف يجري هذا القتل الكثير بالقرب منا مستفيداً من صمتنا وتواطئنا ولا مبالاتنا. كيف انحدرنا، كبشر، إلى هذا الدرك من البهيمية لنقبل رؤية هذه الأجساد ممددة على البلاط البارد، ثم نشيح وجوهنا ونتابع حياتنا البائسة اللاهية؟ أصحاب الضمائر الحية بيننا يضيئون شمعة وبعضهم قد تنزل دمعة من عينيه، ثم يستأنفون في الصباح التالي سعيهم الى أرزاقهم.
السؤال عن القاتل والمجرم والمسؤول لم يعد ذي جدوى. الكل يعلم اسم القاتل. الكل يعلم من أمر بارتكاب المجزرة ومن خطط لها ومن وجد سياقها في خدمة هدفه السياسي. ومن بررها بالكلمة وبالموقف وبالتهنئة والشماتة. القتلة والمجرمون باتوا من العادية والابتذال بحيث يمكن الإشارة الى اسمائهم ورتبهم ومواقعهم وبيوتهم، من دون خطأ او التباس. الأذيال والاتباع معروفون أيضاً، بوسائل اعلامهم الرخيصة وابتساماتهم الصفراء ووجوههم الميتة وكلمة «إنها الحرب» القذرة.
لا قيمة لسؤال عن الطاغية ولا عمّن أدمن الإقامة بين أوساخ اجهزة المخابرات بذريعة «الممانعة» و»المقاومة» والتصدي للمؤامرات الغربية الدنيئة. فهؤلاء نراهم كل يوم، أذلاء تافهين يمجدون المجرم ويحرضونه على المزيد من قتل الأبرياء. يهذون بكلمات فارغة عن الاستراتيجية والعواصم والدول.
السؤال الذي يطلب إجابة سريعة هو ذاك المتعلق بنا. بمن يُعلن انحيازه الى جانب الضحية. ومن يقول انه لا يقبل بموت بريء. من يرفض ربط قضية فلسطين بأقبية تعذيب تحمل اسمها. من يرى في الحياة قيمة مجردة، تعلو «الضرورة» وقائدها الرمز المفدى.
السؤال ينبغي ان يبحث في كيفية الخروج من خانة الضحية العاجزة الواقعة بين أنياب ذئاب الداخل والخارج، والانتقال الى موقع الفعل والتأثير وتقرير المصير والقدرة على رد غوائل القتل المجاني وجوائح القتلة. فهؤلاء، وبعد أن استمرأوا طعم الدم واطمأنوا الى عجز العالم وخواء تحذيراته وتلوّن خطوطه الحمر بألوان اللامسؤولية، لن يقلعوا عن عادتهم بالنصح والموعظة.
لا يعني هذا الكلام استدراج ردود على المجزرة بمجازر مشابهة ولا مقابلة العنف بعنف مكافئ. فهذا من باب تحصيل الحاصل بعدما فتح القتلة ذاتهم دورة العنف والقتل والثأر الجهنمية. بل يقول ان خطوط فصل جديدة يجب ان تُرسم بين مواطني هذه البلاد. بين من ذهب في «الواقعية» الى حدود الارتكاس نحو القطيع الطائفي، وبين من يصرّ على الحفاظ على بقايا الإنسان فيه حتى لو كلفه ذلك ما يكلفه.
المعركة ليست مع سفاح دمشق وحده. وليست أيضاً مع مبرري القتل اليومي في سورية ولبنان وغيرهما. هذه المعركة للحيلولة دون بقاء بلادنا حقولاً للقتل وغابات للصيد يتسلى فيها المجرم وحاشيته وينتظر فيها ذوو النوايا الحسنة انتظاراً يائساً مجيء مخلص من ملكوت ما. هذه المعركة لمنع استمرار معرض تتراصف وتتكدس فيه جثث أطفالنا تحت العدسات وبين مكعبات الثلج.
الحياة
سوريا.. «كوسوفو 2» أم «جنيف 2»؟
طارق الحميد
بكل تأكيد إننا أمام تطورات مفصلية في سوريا، بعد استخدام بشار الأسد للأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية، مما تسبب في مقتل ما يزيد على ألف وثلاثمائة سوري، معظمهم أطفال ونساء، فإلى أين ستتجه بوصلة الأحداث بسوريا؛ «كوسوفو2» أم أننا في الطريق إلى «جنيف2»؟
على أثر مجزرة الغوطة، بات هناك تحول فعال في الرأي العام الدولي، سياسيا وإعلاميا، نتج عنه ضغوط هائلة، ليس على الرئيس الأميركي وحده، بل وعلى إيران وروسيا اللتين أدانتا استخدام الأسلحة الكيماوية. وقد يقول قائل إنه لا فرق، طالما أن طهران وموسكو تتهمان المعارضة باستخدام الكيماوي. وهذا لا يهم، فحيل إيران وموسكو واضحة منذ بدء الثورة، الأهم الآن هو إقرارهما باستخدام الكيماوي، ومطالبتهما الأسد بالسماح بالتحقيق الدولي، وذلك تحت وطأة الضغط الدولي الدافع الآن للقيام بعملية عسكرية في سوريا. اليوم تزداد الضغوط على الرئيس أوباما، ويزداد التكهن باقتراب تحركه عسكريا ضد الأسد، خصوصا مع تحرك قوات أميركية لمواقع قريبة من سوريا، ومع الإعلان عن اجتماع مرتقب لكبار قيادات الأركان العسكرية، عربيا وغربيا، في الأردن، فاستخدام الأسد للأسلحة الكيماوية لا يعرض بمصداقية أميركا وحسب، بل إنه يعني فرض خيارات محددة على المجتمع الدولي؛ إما التعامل معها، أو القبول بها وتحمل تبعاتها، وأهمها أن تجاهل المجتمع الدولي لمجزرة الغوطة سيعتبره الأسد بمثابة الضوء الأخضر لاستخدام المزيد من الأسلحة الكيماوية للقضاء على الثورة.
ويبدو أن هذا ما يستشعره المجتمع الدولي الآن، وتحديدا واشنطن، حيث كشفت وسائل إعلام أميركية، أمس، أن إدارة أوباما تدرس إمكانية الرد على الأسد عسكريا، انطلاقا من تجربة التدخل الأميركي، بمساعدة الناتو، في كوسوفو، حيث نُفذت حملات جوية عسكرية لمدة 78 يوما، جرى دحر قوات ميلوسوفيتش فيها من دون اللجوء إلى مجلس الأمن.
وتشير التقارير إلى أن إدارة أوباما تدرس خيار كوسوفو، لأنه من المتوقع أن يحول الروس دون إصدار مجلس الأمن لقرار يخول استخدام القوة ضد الأسد، وهذا الأمر، أي «كوسوفو 2»، يعني، خصوصا مع الإدانة الروسية لاستخدام الكيماوي، أنه من الممكن أن تسعى موسكو وطهران الآن لعقد مؤتمر «جنيف 2»، مع تقديم بعض التنازلات لتفادي الخسارة الكبيرة، بحال جرى توجيه ضربات عسكرية لقوات الطاغية، أو من أجل المراوغة وتخفيف الضغط الدولي الحالي على الأسد.
المؤكد أنه لا يمكن أن تمر جريمة الغوطة مرور الكرام، وإن كانت الثقة في تدخل غربي بسوريا قد اهتزت، جراء التسويف المستمر، إلا أن الأحداث تشير إلى أننا نسير إلى «كوسوفو 2»، خصوصا بعد أن ثبتت جرائم الأسد، وثبت كذبه، كما ثبت أن الصمت الدولي سيقود المنطقة كلها إلى كارثة، ربما تجعل كل ما مر في تاريخنا الحديث مجرد فاصل مسرحي لا يُذكر، أمام الفصول المرعبة المقبلة على المسرح السوري الدامي.
الشرق الأوسط
العجز… ذلك العجز المريع/ نهلة الشهال
كيف التعامل مع خبر «الكيماوي» على غوطتي الشام، ومع صور القتل الجماعي بدم بارد؟ سيكون من غير اللائق الاسترسال في وصف تلك المشاهد، لمن يقوى أصلاً على النظر إليها. وأما «الخناقة» والمحاجّات والمهاترات عمّن ارتكب المقتلة، فأبشع. وهي ليست مصنوعة لتغيير القناعات العامة، بل لتعزيز خطوط كل معسكر. فمن يظن انه النظام، قام بها بغرض تحدي لجنة التحقيق الدولية التي وصلت الى دمشق للتو، والكشف عن عجزها بطريقة «لايف» أو مباشر، محق. ومن يرى أن ذلك غير معقول لأنه انتحار، محق أيضاً.
بالمقابل، ارتكبت المجموعات المسلحة ما يكفي من الموبقات لوضعها في دائرة الشبهة… صحيح أنه لا خيار بين القتلة، لكن هذا الموقف المتعالي لا يكفي.
وعلى أية حال، فالقانون الدولي والعرف يضعان السلطة القائمة في موضع المسؤولية، وهي من عليه أن يثبت براءته لو كان ذلك وارداً، وهي من يختزن كل معلومة عن تفاصيل المجتمع السوري، ويجيد التغلغل في ثنايا نسيجه كما لا يستطيع أحد. ولأننا أمام كارثة وطنية جلل، فعلى السلطة تقديم الوقائع والمعطيات، لو كانت الجريمة الكبرى ليست من صنعها، وعليها، حينذاك، إبداء اكتراث أكبر، وحرقة، بينما تكتفي بياناتها ومداخلات الناطقين باسمها بردود عادية، تافهة، باردة وخشبية.
وبعد تسجيل فظاعة الجريمة، وجنونها وعبثيتها (وهما مترابطان)، فما يطغى هو الصفة «البرّانية» لمرتكبها. فلا يمكن لمن يشعر بأنه جزء من هؤلاء الناس أن يقدم على عمل كهذا. ولا يمكن لمن أقدم على عمل كهذا أن يأمل بأن يكون يوماً جزءاً من هؤلاء الناس. هذه الجريمة، بسبب حجمها وخصائصها، تكرس قطيعة. وهو استنتاج فظيع حين لا يتعلق الأمر بقوة احتلال ولا بعدو خارجي: غرنيكا. إبادات الاحتلال الفرنسي في الجزائر والاحتلال الإنكليزي في كينيا. نابالم الأميركيين في فيتنام… وحتى ارتكابات السلطة الروسية بحق الشيشان تبقى في حيز المسلك الامبراطوري الهادف لإخضاع بلاد هي «أخرى» بشكل من الأشكال… وأما السوري، أياً يكن، الذي يرى في سكان أي منطقة من سورية أرواحاً «الله لا يردها»، أعداء يكرههم، أو فرصة سانحة لإثبات كذا وكيت في سياق الصراع السياسي، فهو عدا تغوّله، يضع نفسه خارج أي ترتيب يمكن أن يقوم في يوم من الأيام، مهما طال الزمن.
قد يتمكن الأسد ونظامه من الاستمرار طويلاً في خوض «الحرب»: نتيجة قوة نيرانهم، واستعدادهم اللامتناهي للبطش، ونتيجة صدفة تاريخية، أو «حظ قوي» يجعلهم في هذه اللحظة جزءاً من معادلة صراع إقليمي ودولي مستعر، ونتيجة وقوع الحدث السوري أثناء تحوّل في الاستراتيجيات الدولية بعد الكوارث التي تسببت بها نظريات «نهاية التاريخ» البائسة، والخرافات التي ســوّقها المحافظون الجدد، وانحطاطهم بالسياسة في الولايات المتحدة إلى ما دون الدولة (وهو ليس تفصيلاً في الدولة العظمى الأولى) والفشل المدوي لمغامرات احتلال أفغانستان والعراق، والسياسات الخرقاء والمتعالية التي أدت إلى تأجيج الإرهاب، وما يوفره كحجج للتدابير الاستثنائية (لو كانت ثمة حاجة لحجج) ولإشاعة الخوف.
لكنهم لن يتمكنوا أبداً من حكم سورية بعد الآن. ولن تحكمها جبهة النصرة وأخواتها، بدليل فشل الإخوان المسلمين، الأكثر رقياً وحداثة، في حكم مصر، وما يظهر من كاريكاتوريتهم في تونس والمغرب.
وجبهة النصرة والقاعدة وأشباههما، يمكنهم، هم الآخرون، خوض الحرب لسنوات (أنظر أفغانستان). وأما تسجيل مشروع مجتمعي قابل للحياة، فأمر يتجاوزهم. ولعل هذا الذي يجري، على فظاعته والثمن المهول الذي يدفعه الناس فردياً، والمجتمعات، ينهي تلك القوى الطائفية، إذاً الجزئية والقاصرة والمتوحشة، ويفتح المجال أمام تبلور سواها ممن حالت عقود من الديكتاتورية دونه. لكن ذلك ليس ميكانيكياً، وهو يتطلب التفكير والعمل، بما يخرج عن شروط الموقف السائد ومستنقعه.
وتستدعي المجزرة أن يبادَر إلى إجراء تحقيق دولي نزيه. ذلك مطلب مشروع وملح، يسمو فوق اعتبارات من يناهض التدخل الدولي ويشكك بدوافعه في كل حين، ويدرك انحيازات الهيئات الدولية المسبقة، ويقر بالصعوبات العملية والتقنية التي تحول دون إجراء مثل ذلك التحقيق أو دون تمكنه من نتائج. وإلاّ ننتكس إلى ما قبل هيئة الأمم المتحدة، كفكرة نشأت لتضع حدوداً للجنون البشري الذي تمظهر حينها بالنازية، ولتجاوز عجز عصبة الأمم التي لم تتمكن من الحيلولة دون ذلك الجنون. لا يمكن أن نستدعي مثل هذا التدخل بوجه انتهاكات إسرائيل مثلاً، ونعتد به، ثم نمر على مجزرة الغوطتين وكأنها حدث من حوادث الحرب الدائرة، بكل بشاعاتها.
هنا تقوم نقطة فصل. فمهما كان العجز كبيراً، ومتعدد الأشكال والمستويات، فنقطة الفصل تكرس تاريخاً: 19 آب (أغسطس). اليوم الذي يليه ليس كالذي سبقه.
التمكن من ترتيب نتائج على 19 آب السوري لا ينهض فحسب كضرورة لـ «تعويض» تلك الحيوات المهدورة بلمح بصر، مئات أو آلاف الأطفال، ممن قُصفت أعمارهم قَبل أن يعوا الدنيا، فقراء لم يتمكنوا من الهرب والنجاة لضيق الحال، أو تجنباً للبهدلة، بل الاستباحة، التي يختبرها كل يوم أقرانهم في بلدان اللجوء، يتعرضون لانتهاك آدميتهم على كل المستويات، رجالاً ونساء أذلاء، وفتيات مغتصبات تحت شتى المسميات، وأطفالاً جوعى. عار على من يرى ولا يهمه. وعار على من لا يرى ولا يريد أن يرى، معمي البصيرة، مأخوذاً بمفردات الصراع. وحشية وحدهم البشر يتمكنون من تسجيلها.
التمكن من ترتيب نتائج على 19 آب هو ضرورة لمنع الانتكاس نحو اللاجدوى والاستسلام لليأس والتخلي عن المعنى الأساس للثورات التي عمت المنطقة: إعلان الناس لرغبتهم ونيتهم التحكم بمصائرهم. امتلاك إرادات. انتصار الثورة المضادة لا يتكرس فحسب ببقاء تلك السلطات العفنة، بفضل قوة النار. أو عودتها بنسب وأشكال مختلفة، بفضل إجادة المناورات. أو دفع الناس للترحم عليها والتمسك بها، اتقاء لشر أعظم يتهددهم، وانحيازاً لمفهوم الأمن والأمان (الحد الأدنى من العيش البشري) مقابل الحلم بالأفضل (وهو الجموح الذي لم يكف البشر عن التعبير عنه منذ سبارتاكوس وثورة العبيد الأولى). انتصار الثورة المضادة يتحقق عند تكريس العجز، والقبول به في وجه ما يجري.
الحياة
مجزرة الغوطة يتحمل مسؤوليتها المجتمع الدولي
صور ومشاهد جثامين الاطفال والنساء اثر مجزرة في ريف دمشق راح ضحيتها المئات كانت مروعة.
فقد ارتكبت قوات النظام السوري فجر امس مجزرة مرعبة وغير مسبوقة بقصفها الغوطة الشرقية والغربية، واظهرت اشرطة الفيديو عبر الفضائيات او ‘اليوتيوب’ جثامين اطفال ورضع، وصورا لاطفال في حالات اغماء او اختناق، ولم تظهر اي اثار للدماء، وتحدثت طواقم طبية عن اعراض على الضحايا، منها اطراف باردة ورغوة تخرج من الافواه او اتساع في بؤبؤ العين، وكلها تدل على تعرضهم لغاز الاعصاب وبالتحديد غاز السارين.
وما يثير الدهشة ان يتم ارتكاب هذه المجزرة بوجود فريق التفتيش الدولي على بعد كيلومترات معدودة، وكان من الواجب ان يتحرك فورا لتأمين زيارته لموقع المجزرة للتحقيق، ومن المفترض ان تسهل حكومة دمشق هذه الخطوة، على الاقل للتأكيد على مزاعم براءتها من استخدام الاسلحة الكيماوية.
ويمكن الاشارة الى ثلاث نقاط ادت لاستهداف ريف دمشق بهذا الشكل الوحشي، فيبدو اولا ان النظام ارتكب هذه المجزرة انتقاما من توسيع قوات المعارضة للعمليات العسكرية في مناطق الساحل السوري، وقرى العلويين والتي يعتبرها النظام خطا احمر.
والنقطة الثانية هي تعمد النظام استهداف غوطة دمشق بسبب تحسن وضع المعارضة وجودا وتسليحا فيها، كما يبدو ان المعارضة تجد ترحيبا شعبيا اكبر من السكان في غوطة دمشق. والنقطة الثالثة ان نظام الرئيس بشار الاسد يبعث بهذه المجزرة رسالة للمجتمع الدولي للتعبير عن عدم ارتياحه من تحضيرات مؤتمر جنيف، ويبدو انه يحاول استعجاله لفرض شروطه وهو بوضع عسكري افضل على الارض.
نظام الاسد بارتكابه هذه المجزرة يستفز المجتمع الدولي، ويتحدى الادارة الامريكية التي اعتبرت استخدام الاسلحة الكيماوية خطا احمر، وهو يرد ليقول للعالم انه هو الذي يحدد الخطوط والوانها، وهو الذي يحدد ماذا يريد.
بعد ساعات من ارتكاب المجزرة عقد مجلس الامن الدولي اجتماعا طارئا مساء امس، تلبية لدعوات عدة اطراف. لكن وامام هول المشاهد من غوطة دمشق، هل يهم ان انعقد مجلس الامن ام لم ينعقد؟ وهل يهم ان اعرب عن استغرابه او ندد او استنكر او اعرب عن قله البالغ او الشديد، لن يؤثر ذلك شيئا طالما انه اكتفى بالبيانات الرنانة، وطالما بقي بعيدا عن استخدام البند السابع.
وكما توقعنا ستشكك روسيا وربما الصين ايضا بالتقارير عن المجازر، وربما تتهمان المعارضة بارتكابها.
هذه المجزرة المروعة، التي راح ضحيتها اكثر من الف شخص، نصفهم من الاطفال والنساء الذين قتلوا وهم نيام، ارتكبها المجتمع الدولي، بأيدي نظام بشار الاسد. فسكوته واكتفاؤه بالبيانات طوال العامين الماضيين اديا لهذه النتيجة.
القدس العربي
لكن السوريين لن يصمتوا!
بعد التراجيديا الفلسطينية المستمرة منذ 65 عاماً جاء دور الأم الأكبر، سورية، لتتفجّع من نكبتها المستمرة ومذابحها المعروضة في الهواء الطلق وعلى الشاشات وفي التصريحات الناريّة منها او المخزية المملوءة باللؤم والخبث واحتقار الانسان بما هو انسان.
الفارق الأكبر ان تراجيديا السوريين المفجعة تجري على يد الشعب نفسه، وليست بيد غزاة يتحدثون لغة أخرى.
دماء السوريين تجري بأسلحة جيشهم الذي خصصوا له نشيدهم الوطني ‘حماة الديار’ فكافأهم بقصف اطفالهم ونسائهم وشيوخهم وتهديم بيوتهم على رؤوسهم، واستباحة مدنهم واعراضهم وحرماتهم، وصولاً الى مطاردتهم في أماكن نزوحهم، داخل سورية نفسها، او وراء الحدود.
كان السوريون، منذ أول يوم من أيام النكبة السورية المتعاظمة جنوناً، يتساءلون: كيف يقصف الجيش ‘العقائدي’، وأبطاله من ‘حماة الديار’ الشعب الذي أقسموا على حمايته من ‘الأعداء’؟ ومن أين جاءت كل هذه الوحشية الرهيبة؟ أين العقل في تهديم سورية وطحن أهلها، وجعلها لقمة سائغة للاجرام والفقر والذل؟ ثم ما هي شرعية أية سلطة تقوم على خراب بلادها، ولماذا لا يتحرّك أحد في العالم لايقاف آلة الهدم والذبح والاغتصاب؟
استنفد السوريّون كل الوسائل السلمية: من المظاهرات ذات الشعارات المدنية والديمقراطية، الى الاعتصامات في الساحات (التي قمعها النظام بوحشية فائقة)، وحتى الرسم والفن والأغنية والغرافيتي والمسرح والسينما والصوم والصلاة وصولاً الى الاستسلام المطلق لأمر الله وحكمه، لعلّ روح الانسانية المختفية في قلب الجلاد تنطلق في لحظة ما وتقول له إنك قاتل نفسك حين تقتل أخوتك وأهلك وتفني وجودك حين تسعى لاهلاك حرثهم ونسلهم.
خاطب السوريون الثائرون عواطف وعقول ومصالح إخوانهم من المؤيدين للنظام وقالوا لهم ان هذه الأرض أرضنا كلّنا وهي تسع الجميع.
غير أن المؤيدين ردوا: الأسد أو نخرب البلد!
… ثم وزّعوا الحلوى والورود وغنّوا الأغاني الوطنية بعد مذبحة إخوتهم السوريين!
ناشد السوريون أخوانهم في الدين او القومية او الانسانية من العرب والكرد والفرس والروس والصينيين والاوروبيين والأمريكيين أن ساعدونا: أوقفوا القتل!
أطلق الكثيرون من إخوان السوريين في الدين او القومية او الانسانية التصريحات الخطيرة المهددة. كثيرون منهم كتبوا بيانات. كثيرون منهم تبرعوا وأرسلوا مساعدات. كثيرون منهم أرسلوا أسلحة للدفاع عن الثورة.
ثم جاء كثيرون فقاتلوا واستشهدوا دفاعا عن الثورة فتنبّه العالم الى خطر جديد أكبر من خطر النظام!
أرسل أخوان السوريين في الدين او القومية او الانسانية للنظام الكثير، والكثير من المساعدات الانسانية العالمية التي تبرعت بها شعوب الأرض او بلدانها للشعب السوري سلّمت للنظام نفسه الذي يقتل شعبه. قرارات الأمم المتحدة التي كانت ملزمة في جغرافيات سياسية أخرى عربية وعالمية، لم تعد ملزمة فيما يخص النظام السوري، فالأسلحة الروسية والايرانية استمرّت بالوصول براً وجوّاً وبحراً، فيما زجّت ايران بمحرومي وفقراء الأحزاب العراقية التابعة لها وبحزب الله اللبناني لتحويل معركة الشعب ضد الاستبداد الى حرب طوائف ومذاهب، وقمعت الصين مظاهرات ضدّها معتبرة إياها من تنظيم المعارضة السورية، أما باراك حسين اوباما الفائز بنوبل للسلام فابتلع حبة خطّه الأحمر الكيماوي كي ينام جيداً ويعود لخطاباته البليغة من اجازة مبقّعة بدماء السوريين والعالم بأسره!
رسالة ‘المجتمع الدولي’ للسوريين هي ان دماءهم ليست خطّاً أحمر لأحد وما عليهم إلا أن يموتوا بصمت!
لكن السوريين لن يصمتوا.
اختبار النظام السوري في تسهيل التحقيق ردّ الفعل الدولي يعمِّم الإحباط والخيبة/ روزانا بومنصف
قد يشكل تجاوب النظام السوري مع طلب رئيس فريق الخبراء الدوليين آكي سيلستروم التوجه الى منطقة الغوطة للتحقيق في المجزرة التي وقعت هناك ابرز رد واقعي وموضوعي لدحض المزاعم عن مسؤولية النظام في اطلاق صواريخ تحمل مواد كيماوية على البلدات في جوار دمشق. ويتعين على روسيا التي تقوم بدور وزارة الخارجية للنظام وتسبقه في الرد على كل ما يتناوله ان تحضه على التجاوب مع هذا التحقيق باعتباره يشكل ابرز دفاع يدحض المزاعم حول مسؤولية الرئيس السوري ونظامه وليس فقط الاكتفاء بالنفي الاعلامي والاستناد الى محللين سياسيين لم يجدوا منطقا في لجوء النظام وفق ما استند هذا الاخير في معرض الدفاع عن نفسه، الى استخدام اسلحة كيميائية فيما هو يستقبل وفدا امميا للتحقيق في استخدامات سابقة للاسلحة الكيميائية خلال العام الماضي. اذ ليس من سبب موضوعي يمكن ان يمنع النظام من اتاحة المجال امام فريق التحقيق الدولي من التحقيق على الفور في طبيعة المجزرة ونتائجها في حال كان لا علاقة له من قريب او بعيد بها ما لم يكن لديه ما يخفيه في هذا الاطار كما طالب بعض الدول. اذ ان تجاوبه سيشكل قرينة براءته سريعا في حين ان عدم تجاوبه مع هذا المسعى سيبقي الشكوك كبيرة لا بل يؤكدها في رأي كثر من المتابعين والمعنيين. واذا كانت فصائل من المعارضة هي التي استخدمت غازات سامة او اسلحة كيميائية، فان المسألة ستصب في خانة النظام السوري الذي يمكن ان يستفيد مما نجح فيه حتى الان وهي وصم المعارضة او غالبيتها بطابع خضوعها لتنظيمات ارهابية وتكفيرية وكذلك باتهامات اخرى وهي استخدام هذه التنظيمات الاسلحة الكيميائية ضد الشعب السوري من اجل احراج النظام في حمأة استقباله المحققين الدوليين وتسجيله مكاسب على الارض. ولعل المجتمع الدولي يقدم له المزيد من الفرص للتهرب على هذا الصعيد مع موقف لمجلس الامن شدد على ضرورة “الوضوح في شأن هجوم مزعوم بالاسلحة الكيميائية” من دون ان يوجه دعوة صريحة الى اجراء تحقيق في الهجوم بما يكفي لتمييع المسألة ككل واضعافها اضافة الى صدور موقف ايطالي لافت اعتبر ان ” دمشق والروس يقدمون نظرة اخرى للاحداث مثيرة للاهتمام الى حد ما ” وان كانت ايطاليا طالبت ايضا كما مجلس الامن بتوضيح حول اتهام الحكومة السورية باستخدام اسلحة كيميائية، الامر الذي يسمح للنظام بالتملص من السماح للمحققين من التوجه الى بلدات ريف دمشق. ففي النتيجة فان رد الفعل الدولي لم يبد في مستوى هول الجريمة وفظاعتها بما لا يسمح لهذا المجتمع في حال صحت ارقام الضحايا من جهة ومسؤولية النظام عن هذه الارتكابات من جهة اخرى التذمر لا من عنف التنظيمات المعارضة ولا من ينضوي تحت سقفها ما دامت الامور متروكة في سوريا لان تحل نفسها بنفسها. اذ ان رد الفعل الدولي كان مثار احباط وخيبة كبيرين ربما نتيجة حذر واضح من ملابسات المجزرة وصحة هذه الملابسات كما ظهر بالنسبة الى المتابعين المعنيين على رغم ان العواصم المؤثرة يمكن ان تتأكد بواسطة تقارير استخبارية مستقلة وليس من فريق التحقيق الدولي الموجود راهنا في دمشق كما حصل بالنسبة الى حوادث مماثلة لاستخدام النظام اسلحة كيميائية ولو لم تؤد هذه الحوادث الى عدد الضحايا المرتفع الذي تم الحديث عنه بالنسبة الى منطقة الغوطة في دمشق. ذلك علما ان هذه العواصم قد لا يكون في مصلحتها التأكيد او حسم وقوع هذا العدد من الضحايا من اجل الا تضطر الى التدخل في شكل او في آخر خصوصا انه سبق للنظام ان تجاوز الخط الاحمر الذي رسمه الرئيس الاميركي باراك اوباما لاحتمال لجوء النظام الى استخدام الاسلحة الكيميائية او اي طرف اخر وجرى غض النظر عن تجاوز هذا الخط على رغم اثباته من فرنسا وبريطانيا كما من الولايات المتحدة.
في المقابل، فان الذرائع التي قدمها النظام لا تنفي مسؤوليته في استخدامه اسلحة كيميائية نتيجة اعتبارات قد يكون ابرزها كما قال انه لا يمكن ان يقدم على هذه الخطوة فيما بدأ فريق المحققين عمله في الوقت الذي لم يفتأ النظام السوري اللجوء الى مثل هذه الاساليب في لبنان مثلا حيث فرض وصايته لثلاثة عقود ندر ان استقبل خلالها وفدا غربيا او عربيا اتى للوساطة بين اللبنانيين والسوريين من دون قصف عنيف استهدف مناطق وجودهم بما عطل جهودهم على رغم التنسيق المسبق الذي كان يحصل مع المسؤولين السوريين. ولعل الزعماء الجدد في العالم الغربي لا يعرفون هذا الامر عن النظام السوري. كما ان احتمال استخدام تنظيمات او فصائل تابعة للمعارضة الاسلحة الكيميائية لا يعفي النظام من احتمال بروز واقع عدم سيطرته على مخزونه من هذا السلاح على رغم الضمانات التي كان قدمها في هذا الاطار بدعم وضمانات روسية ايضا، بما يعرضه للمساءلة ويفسح المجال امام حتمية التدخل في حال وقعت هذه الاسلحة في ايدي تنظيمات معارضة او سواها ممن يمكن ان يستخدموها لغايات مختلفة او في حال عجزه عن الامساك بمناطق يقع من ضمنها مخرون هذا السلاح.
النهار
مجلس الموت… لا الأمن/ راجح الخوري
يستطيع اولئك الذين يرقصون على قبور 130 الف قتيل في سوريا تقديم وصلة رقص اضافية على جثث 1300 من القتلى الذين تم نحرهم بالكيميائي الابيض الذي يذكرنا بـ”الخط الاحمر” الذي تأرجح باراك اوباما امس عليه زيادة في التهريج، ربما لأن النظر الى المأساة السورية المتفاقمة يزداد تناقضاً، فما يشق الصدور هنا الماً على الاطفال المقتولين يدفع هناك الى الرقص طرباً، أوليس واضحاً ان “عقد الشيطان” بين الكبار يحمل عنوان “دعوهم يقتتلون دعوهم يموتون” ؟!
وهكذا عندما وقف الاهالي بالصف امام رصيف الجثث المتراصفة في الغوطة الشرقية من دمشق الثكلى، وراحوا يتسلمون لفافات بيضاء فيها اكبادهم التي قتلت بالكيميائي واطفالهم الزهور المسحوقة بالهول، بدت الصورة وكأن السوريين يتسلمون مع جثث احبائهم نتفاً ممزقة من ضمير العالم المتعفن، في وقت كان مجلس الامن غارقاً في العار حتى اذنيه وفي حين لم يخرج الاخضر الابرهيمي من ظلمة الصمت الطويل لكتابة النعي المناسب لاكثر من 1300 قتيل جلّهم من الاطفال والنساء !
لست ادري اين سقطت سحابة الكيميائي القاتلة في الغوطة الشرقية من دمشق ام في مجلس الامن المنعقد كجمعية تافهة وعاجزة لدفن الموتى وربما كجمعية قاتلة بصمتها، ولست ادري ما اذا كان القتلى فعلاً هم اولئك الذين اختنقوا هنا ام اولئك الذين يسهرون على استمرار عمليات القتل والخنق هناك، لكنني مثل الكثيرين غرقت امس مرتين امام الهول المتوحش، مرة في الدموع وما نفع الدموع ومرة في التقيؤ وانا اقرأ التصريحات الواردة عن وقائع مجلس الامن، وما نفع مجلس الامن عندما يصبح حفّاراً للقبور!
ليكن الله في عون السوريين، فالواضح ان الغوطة الشرقية كانت محطة اخرى من محطات قطار الموت الزاحف منذ نحو ثلاثة اعوام ولا يراد له ان يتوقف، ففي حين كان نائب الامين العام يان الياسون يبلغ مجلس الامن ان السلطات السورية رفضت التعجيل في ذهاب فريق التحقيق الدولي الى الغوطة الشرقية وانها نفت استعمال السلاح الكيميائي، كانت روسيا تستبق التحقيق ودفن الضحايا بالقول ان “الارهابيين” اطلقوا صاروخاً يدوي الصنع يحتوي على مواد كيميائية كالذي استخدموه في خان العسل، ولكأن في وسع اليدوي اطلاق الصواريخ الكيميائية!
في مجلس الامن سالت دموع التماسيح وكادت ان تشطف ساحات الغوطة الشرقية وبيوتها، لكن ما جرى مجرد عزاء آخر بعدما تحولت سوريا مفاعل موت يعمل بطاقة ذاتية، ليقتل اكبر عدد ممكن من المتشددين الذين يتم استجلابهم الى “المسلخ” بالسكوت الاميركي – الروسي عن المذابح، وليدمر نظاماً ديكتاتورياً يدور في الفلك الايراني… وما المانع من ان تصبح سوريا كلها غوطة للموت؟
النهار
قرار القصف… روسي/ حـازم الأميـن
“قُتل أكثر من 1300 مواطن سوري من بينهم مئات الأطفال في قصف بالأسلحة الكيماوية على مناطق تسيطر عليها المعارضة السورية في دمشق”. قال الجيش السوري إنه لم يقصف هذه المناطق، وقالت الخارجية الروسية في بيان منسّق إن المعارضة السورية هي مَن قصف المناطق التي تسيطر عليها بهذه الأسلحة، والدليل أن الصواريخ التي انفجرت، بدائية ومحلية الصنع.
الخارجية الروسية قالت ذلك قبل أن يتحقق أحد من طبيعة الصواريخ التي حملت الغاز السام، ذاك أن أحداً لم يتوجه بعد الى أي مناطق، وهو ما يعني أن البيان معدّ سلفاً، وهو منسق مع قرار القصف، وهو ركيك الى حدّ يبدو فيه ان صاحبه لا يهدف عبره الى إقناع أحد بما يقول. فالحكومة الروسية تقول من جهة إن العالم كله يُسلّح المعارضة، فهل العالم يُزوّد المعارضة صواريخ محلية الصنع؟ وهل المعارضة ستقصف مناطقها بسلاح يُستدل عليها فيه؟
البيان الروسي منسّق مع فعلة القصف. هو جزء ممّا دُبِّر في الغرفة السوداء التي صدر منها قرار القصف بالكيماوي. والبيان الذي استعجل تحديد طبيعة الصواريخ قبل أن يعاين أحد ذلك، وظيفته القول إنه مسموح لبشار الأسد هذا الرقم من القتلى. القول للسوريين تحديداً أن استسلموا لأن المجتمع الدولي سيصمت. وهو ما حصل فعلاً.
أكثر من 1300 قتيل والمجتمع الدولي سيلتزم الصمت. هذا هو مضمون الرسالة. وهي رسالة موقّعة من موسكو هذه المرة، وموجهة الى السوريين من دون غيرهم، ومضمونها الفعلي هو: عليكم ان تُدركوا ان بشار الأسد هو قدركم مثلما هو موتكم وموت أطفالكم. الجميع سيكون على الحياد.
في اليوم الثاني للمجزرة، تأكدت هذه النبوءة. لا يمكن لنظام تآكل واهترأ ان ينتصر من دون أن يقول للسوريين “لقد سمح لي العالم أن أقتلكم بالسلاح الكيماوي… لقد فعلتها ومراقبو الأسلحة الكيماوية موجودون في دمشق. فيا أيها السوريون اتعظوا”. الصمت الذي أعقب المجزرة يُفسِّر وظيفة القصف بالسلاح الكيماوي.
إنه الجواب عن سؤال راح يُطرح فور ورود صور الأطفال المختنقين بغاز السارين. ما هي مصلحة النظام في ان يقصف بالكيماوي في يوم وجود المراقبين في دمشق؟ والجواب أن مصلحته تكمن في أن يوجه رسالة الى السوريين والى بؤر الثورة تحديداً بأن المجتمع الدولي صار خارج المعادلة، وأن لديه تفويضاً روسياً بالقتل من دون سقف للأعداد، وأن أحداً لن يُغيث الضحايا. هذا هو السلاح الجديد الذي بحوزة بشار الأسد.
قد يُعطي هذا السلاح نتيجة، وقد يتقدم النظام ويستعيد مناطق خسرها. لكن ماذا عن إقامة السلطة؟ فلنطلق الخيال قليلاً الى احتمالات انعقادها مجدداً لبشار الأسد. فهذه السلطة ستعاود بسط نفوذها على مدن قامت بتدميرها بالكامل، وستُخضع ملايين السوريين الذين قتلت منهم ما يزيد على 150 ألفاً وسجنت منهم ما يوازي هذا الرقم.
لن تقوم سلطة قامت بذلك. قد يربح بشار الحرب في ظل صمت العالم، لكنه لن يتمكن من أن يحكم. وفي هذا الوقت سيدفع العالم أثماناً لقاء صمته، فهذا القدْر من الموت سيصنع ما يوازيه ويُشبهه.
موقع لبنان ناو
أطفال الغوطة تركوا مراجيحهم/ ردينا البعلبكي
أوى الكثير من أطفال الغوطة الشرقية الثلاثاء إلى فراشهم لآخر مرة … جياع، فالحصار طال. لا بد أنهم تداوروا على آخر عشاء، لا بد أنهم تقاسموا الخبز في ما بينهم.
خرق حلمهم صاروخ محمل بـ “السارين”، من دون استئذان. أخذوا كل الوقت اللازم لهم للاختناق بسلام حتى التحليق، ونحن استفقنا صباحاً، رأيناهم نائمين، مصفوفين على الأرض، فاطمأنينا لأننا لم نر دماءً، ولا أجساد مذبوحة، ولم نسمع احتراق الأنفاس الأخيرة في صدورهم الصغيرة، ولم نلحظ السم متغلغلاً بشرايينهم.
مكتّوفو الأيدي حتى يتسع المكان لكل الجثث الصغيرة، وحتى يسهل عدّها. بقطع الثلج، نقلهم الناشطون من أسرّتهم إلى القبور، قبل أن يتسنى لهم أن يتذمروا من فطور لم يحبّوه، أو من موعد الذهاب إلى المدرسة.
الجثث المكتوفة الأيدي كانت لأطفال.. وبعضهم تأرجح منذ بضعة أيام على أرجوحة في قبو. في حي “حمّورية” وسقبا في الغوطة الشرقية، كان الشبان والشابات قد نصبوا الأراجيح للأطفال في طوابق أرضية لأبنية مرصعة بالشظايا، مخافة من الطائرات التي يقولون إنها تقتنص فرصة ضرب أي تجمع بشري.
الناشطة أم أيمن، كانت قبل أيام تتحدث عن مشروع “أراجيح العيد”، من الغوطة الشرقية … عن ذلك القبو. أم أيمن قالت إنّ “هناك 8 مراكز، جميعها مقامة في طوابق أرضية وواسعة حتى لا ترى عين النظام تجمعاً للأطفال فتقصفه، وعادة القذائف تستهدف الطوابق العليا”، موضحة أنه “في كل واحد منها تجدين 300 طفل تقريباً أكبرهم في الـ 12 من عمره”. ولأنّه كان “لا بد أن يمر العيد” بسقبا وحمورية، قالت أم أيمن قبل أن تختفي لانه “ما عاد صفيان بنزين للمولد” : “وزعنا أكياس العيد، وفيها كم لعبة زغار، وكم قطعة بسكويت وعيدية صغيرة: 50 ليرة”. في “حسبة” الأطفال والعيد، فإن الـ 50 ليرة سورية في يومنا هذا “تشتري 5 فتّيشات من نوع غزال.. 10 صواريخ فتيش. يعني مبحبحة”، يقول باسل الصغير.
وبلغة الأطفال أيضاً، الخمسون ليرة كفيلة بشراء “قطعتين شي طيب من الدكان. بتشتري كيس بطاطا وعصير، بتشتري سحبة.. 50 ليرة يعني إيجار طاولة بلياردو لعشر دقائق”
“ماشفت حدا فتح الكيس مثلاً ليشوف شو فيه، تقول أم أيمن مع عودة التيار الكهربائي، “يأتون إلينا، يأخذون حصصهم، يعودون مسرعين طالبين أكياس العيد لإخوتهم وأقربائهم”، مضيفةً ببعض اليأس: “يتدافشون مدهوشين ليأخذ كل واحد كيسه لكن لم أر في أعينهم فرحاً”.
وتردف “بالمناسبة، بالمراجيح ما عادوا غنوا الأغاني القديمة تبع العيد، صاروا يغنوا: سوريا بدها حرية”.
أم أيمن انقطع الاتصال بها منذ ليلة المجزرة، لعلها كانت غارقة بوضع الماء على وجوه الأطفال الزرقاء.. بإمساك إيديهم لحظة احتضارهم.. لا بدفع وتزيين الأراجيح.
المدن
من حلبجة إلى الغوطة/ يوسف بزي
في آذار 1988، قام الجيش العراقي بضرب بلدة حلبجة الكردية (العراقية) بالأسلحة الكيماوية، ما أدى على الفور إلى مقتل نحو خمسة آلاف شخص هم معظم سكان البلدة. وكانت عملية حلبجة جزءاً من “حملة الأنفال” التي أمر بها صدام حسين، بهدف تنفيذ إبادة جماعية للكرد العراقيين. وأسفرت تلك الحملة عن تدمير نحو خمسة آلاف قرية، وتهجير مليون كردي على الأقل ومقتل أكثر من مئتي ألف رجل وطفل وإمرأة، دُفن معظمهم في مقابر جماعية مجهولة، موزعة على مناطق نائية وصحراوية.
في ذاك الوقت كانت الشعوب العربية تنظر إلى صدام حسين بوصفه بطلاً قومياً، وغالباً ما هللت له وبررت كل جرائمه وعنفه السادي، وأباحت له إبادة الكرد، طالما أن هؤلاء “خونة” وغير عرب و”عملاء لإسرائيل وإيران”. أما العراقيون أنفسهم، فكانوا إما مؤيدين وإما صامتين، عدا قلة معترضة لا تأثير لها ولا قدرة. فيما العالم كان يتفرج وبعضه يدعم ويشجع وبعضه الآخر يغض النظر ويسكت.
هكذا استطاع صدام حسين “البعثي” أن يرتكب بسهولة واحدة من أفظع الجرائم ضد الإنسانية، من دون تخوّف أو تحسّب لا من الداخل ولا من الخارج. وهذا ما سيدفعه لاحقاً إلى غزو الكويت، متسلحاً بتهليل وتصفيق الشعوب العربية، التي ستعقد حلقات الدبكة والرقص الجماعي وستوزع الحلوى عندما يرمي إسرائيل ببضعة صواريخ “سكود” عشوائية، غير هيابة بفظاعة تدميره الكويت وتخريبه العراق وزجّه في “حرب كونية”.
ثم سيترك العالم صدام حسين ويتفرّج عليه وهو يبيد سكان الجنوب العراقي ويقتل منهم أكثر من 350 ألف مواطن حاولوا الانتفاض للتخلص من ديكتاتوريته الوحشية، فيما الشعوب العربية، على الأغلب، تبرر له “التخلص من الخونة” الشيعة في الجنوب والكرد في الشمال.
عقلية التأييد لـ”البطل القومي” الذي “سيهزم الإمبريالية ويحرر فلسطين” ولو على جثث كل شعبه، والإعلاء من شأن الطاغية و”المستبد العادل” والمحارب الأبدي الكاره للغرب، وتوزيع الحلوى بعد كل مقتلة أو مجزرة، ستجد ترجمة جديدة لها عام 2001. ففيما كان العالم تحت وقع صدمة الهجمات الإرهابية على نيويورك، كانت الكثير من الجموع العربية تعقد حلقات الرقص وتقيم الاحتفالات وتوزّع الحلوى، إبتهاجاً بمقتل نحو ثلاثة آلاف إنسان في مشهدية جحيمية.
وسيتكرّس تقليد توزيع الحلوى عند كل مقتلة أو بعد كل عملية إرهابية أو إثر وقوع مجزرة. وسيدرك العالم أن ثمة معضلة فادحة في العالم العربي أخلاقياً وقيمياً، وأن ثمة هوة معيارية في تعيين الشر والخير بين العالم من جهة والعالم العربي من جهة أخرى. فما هو مروّع وفظيع هناك، هو مفرح ومبهج هنا. وهذا ما سيؤسس للامبالاة العالمية (الرأي العام أو الضمير الدولي) تجاه معظم الفظاعات والأعمال الوحشية وحروب الإبادة والإرهاب التي تقع في الدول العربية (من دارفور السودان إلى شوارع بغداد)، وستؤسس الخيبة الأميركية العميقة من العراق، لا لانسحاب الولايات المتحدة عسكرياً وحسب، بل لانسحاب العالم اليائس من هذه الدول والمجتمعات “الفاشلة”، المدمنة على الحروب الأهلية المتناسلة.
ثمة إزدراء حقيقي من العالم تجاه مجتمعاتنا، إزدراء وتخلٍ تام، يبيح اليوم لصدام حسين جديد على شاكلة بشار الأسد أن يقوم بـ”حملة أنفال” جديدة لإبادة نصف الشعب السوري على الأقل، جاعلاً من غوطة دمشق “حلبجة” جديدة. وسيجد بشار جموعاً من مواطنيه ومن مؤيديه العرب يوزعون الحلوى احتفالاً باختناق أكثر من 1300 سوري بغاز “السارين”. سيجد مهرّجين تلفزيونيين سفلة، “خبراء استراتيجيين” و”محللين سياسيين” يتحدثون فوق جثث الأطفال عن “الممانعة” وعن “القدس”. سيجد شامتين يسألونه “هل من مزيد؟”، سيجد سفاحين متطوعين لمجرزة جديدة. سيجد مثقفين يرون فيه “القائد الضرورة” و”رائد الحداثة والعلمانية بوجه السلفية”. سيجد صحافيين كذبة ينفون الواقعة أو يمررونها كخبر غامض وملتبس. وها هم اليوم يروّجون لنظرية أن ما حدث في الغوطة هو “انتحار جماعي” نفّذته المعارضة السورية المسلحة. سيجد بشار الأسد لامبالاة العالم كضوء أخضر لـ”هولوكوست” سوري راح ضحيته حتى الآن أكثر من 150 ألف قتيل. وإذا كان من مؤامرة حقيقية غير تلك التي اعتادت “الممانعة” تردادها، فهي هذه: تضافر الخطة الجهنمية لإبادة مئات الآلاف من السوريين مع الصمت الدولي.
المؤامرة الحقيقية، ليست في ازدراء العالم لمجتمعاتنا ولحيواتنا، بل في الاحتقار العميق الذي تكنّه “نخبة” الدولة السورية البيروقراطية والعسكرية والمالية والثقافية لجموع الشعب السوري. فآلة الحرب الكيماوية ونهجها بالإبادة الجماعية لا يمكن أن تعمل بهذه الفعالية لولا وجود هذه “النخبة” المتماسكة والمتمادية في معركتها ضد سكان سوريا.
وبلغة “كيماوية”، يمكن القول أن لا مستقبل لسوريا ولا قصاص وعقاب للقتلة ولا عدالة للضحايا إلا بـ”تطهير” سوريا من تلك النخبة بالذات.
المستقبل