مقالان تناولا مسألة عودة الجهاديين إلى أوروبا
عن الخوف من عودة الجهاديين إلى أوروبا/ نزار آغري
هناك شبح يجول في أوروبا الآن، ولكنه ليس شبح الشيوعية الذي أشار إليه ماركس في البيان الشيوعي، بل هو شبح الجهاديين الذين كانوا انطلقوا من البلدان الأوروبية للالتحاق بقوافل الماضين إلى الجهاد في سورية وباتوا الآن يتلمسون السبل للعودة إلى أماكن سكنهم في أوروبا.
في أكثر من عاصمة أوروبية، بدأ جرس الإنذار يقرع للتذكير بأن هناك ما لا تُحمد عقباه إن رجع هؤلاء المجاهدون إلى البلدان التي انطلقوا منها. ألقى البوليس النروجي القبض على «مواطن نروجي» عاد تواً من سورية، وقد وُجهت إليه تهمة الانتساب، أو تقديم الدعم لمنظمة إرهابية. وتنظر السلطات النروجية بعين القلق إلى إمكانية عودة المزيد من المواطنين النروجيين ممن سافروا إلى سورية واحتمال قيامهم بالاستفادة من الخبرات القتالية التي حصلوا عليها هناك لممارسة الإرهاب داخل النروج أو غيرها من البلدان الأوروبية. وقال وزير العدل النروجي إن السلطات تخشى أن يكون لدى هؤلاء الذي يعودون إلى بلدانهم بعد القيام بنشاطات في ميادين تشهد الإرهاب، استعداد عملي ونفسي للقيام بأعمال مماثلة أينما ارتحلوا. أما الناطق الإعلامي باسم جهاز الاستخبارات النروجي مارتن بيرنسن فتكتم على الإجراءات التي يقومون بها لمواجهة هؤلاء المتطرفين، ولكنه أشار إلى أنهم يفضلون القيام بتقويم كل شخص على حدة.
وفي لندن دب الذعر في الأوساط الرسمية، وغير الرسمية، مع انتشار نبأ مقتل «المواطن» البريطاني عبدالواحد مجيد الذي نفذ عملية انتحارية في سورية. كان عبدالواحد والداً لثلاثة أولاد ويعمل سائقاً لدى شركة بريطانية. وكان جيرانه يحبّونه ولكنه اختفى فجأة ليظهر في سورية باسم سليمان البريطاني، وما لبث أن قام بعمله الانتحاري الرهيب. تولى قيادة شاحنة مملوءة بالمتفجرات ومزينة بالعلم الأسود لجبهة النصرة واقتحم بها سجن حلب المركزي ليموت ويقتل معه من كان هناك. وعبّرت جارته ريبيكا مارتن، عن صدمتها لوكالات الأنباء وقالت، مذهولة، إنها كانت تعلم أنه متدين ولكنه لم يكن يتصرف بما من شأنه أن يثير الشك.
وهذه هي المشكلة. فهؤلاء الجهاديون أناس عاديون، مثلهم مثل غيرهم، يعملون ولهم أهل وإخوة وأطفال ويتواصلون مع الجيران. بل إن بعضهم ودود للغاية مع الآخرين، فكيف يمكن التعرف إليهم وأخذ الحيطة مما يمكن أن يقدموا عليه في أية لحظة؟
ولا يختلف الحال في البلدان الأوروبية الأخرى. فخطر الجهاديين العائدين من ساحات الإرهاب يبقى ماثلاً في غير عاصمة أوروبية. وينظر المسؤولون في هذه البلدان إلى المتطرفين العائدين بصفتهم قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أية لحظة وفي أي مكان. في العملية الإرهابية التي وقعت في لندن عام 2005 وأودت بحياة 52 شخصاً، كان منفذو العملية قد عادوا من الباكستان بعدما شاركوا في دورات تدريبية لممارسة الإرهاب. ولكن لم تعد هناك حاجة الى الجهاديين الجدد للذهاب إلى أماكن بعيدة مثل أفغانستان وباكستان، فسورية التي باتت مرتعاً للإرهابيين من كل أنحاء العالم، تقع على مشارف أوروبا. إنها على الضفة المقابلة للبحر الأبيض المتوسط. ورحلة قصيرة بالطائرة أو بالقطار إلى تركيا تكفي لكي يصل الجهادي إلى غايته. وثمة عشرات الشبكات الإرهابية التي تتولى عمليات تجنيد ونقل وإيصال هؤلاء إلى الساحة التي يريدون الوصول إليها. وباتت المهمة الأولى لأجهزة الاستخبارات في معظم الدول الأوروبية متابعة تحركات هؤلاء الجهاديين وتتبّع مسار تنقلاتهم. وقد شرع بعض الحكومات في التفكير بضرورة البدء بتغيير القوانين الخاصة بالإرهاب بحيث يصير في مقدورها القبض على هؤلاء عند عودتهم ومحاكمتهم بتهمة القيام بأعمال إرهابية.
الصحافي النروجي لارش آكرهاوغ مؤلف كتاب «الجهاد في النروج» يقول إن الاستنتاج الذي يصل إليه المرء من تجارب سابقة في أماكن أخرى من ساحات الجهاد هو أن الأشخاص الذين يلتحقون بالمجموعات الجهادية يعمدون في ما بعد إلى القيام بعمليات إرهابية في البلدان الغربية التي نشأوا فيها وتربّوا.
ولكن الحكومات الأوروبية لم تدرك خطورة ما يجري إلا حين استفاقت على إمكانية العودة المرتقبة للإرهابيين إلى أماكن سكنهم في أوروبا. لم تكن تجربة أفغانستان أفادتهم كثيراً في هذا المجال. لقد بدا وكأن الأمر يتعلق بمشهد غرائبي، مرعب، ولكن بعيد. وكان معظم الجهاديين هناك من البلدان العربية. وقد راج تعبير «المجاهدون الأفغان» لهذا السبب. مع هذا كان هناك مجاهدون أوروبيون أيضاً. هم مواطنون من بلاد إسلامية كانوا لجأوا إلى البلدان الأوروبية واستقروا فيها ونالوا جنسياتها. وهناك، في مستقرهم الجديد، انخرطوا في نشاطات تعبوية وتحريضية لم تلبث أن أدت إلى تبني فكرة الجهاد وممارسة العنف.
يشكل هذا الأمر تحدياً جديداً لم يستعد الأوروبيون له بما يكفي. فهذه بلدان ديموقراطية ومجتمعات مفتوحة، فكيف يمكنها ملاحقة المشتبه بهم واعتقالهم من دون ذرائع قانونية؟ وكيف يمكن تقييد حرية هؤلاء من دون إلحاق الأذى بالأسس الديموقراطية التي تقوم عليها هذه المجتمعات؟
ولكن أمام تزايد الأصوات اليمينية المطالبة بتقييد حرية الإسلاميين، بل طردهم إذا دعت الحاجة، تجد الحكومات الأوروبية نفسها أمام ضرورة اتخاذ جملة من الإجراءات التي من شأنها تقليص إمكانية بزوغ التطرف وترسّخه من خلال تجفيف منابعه على أراضي البلدان الأوروبية. ومنذ فترة طويلة، كان هناك من يحذر من أن السياسة التي تتبعها الحكومات إزاء المتطرفين متسامحة للغاية. لقد منحت هذه السياسة هؤلاء كل ما يلزمهم لكي يمدوا جذورهم في المجتمع ويؤسسوا شبكة واسعة من الأنصار والمضي في تجنيد الأتباع في كل زاوية. وتأسست منظمات وأحزاب وجماعات بأسماء إسلامية مختلفة وببرامج متطرفة تدعو علناً إلى العنف ونبذ الآخر، بمن فيه الآخر الأوروبي الذي استقبلهم وأسكنهم بلاده وسترهم ومنحهم الأمان والعيش الكريم الرغد. وسطع نجم أئمة إسلاميين كان التحريض على العنف والكراهية والتكفير عدّتهم الوحيدة في سعيهم إلى الاستحواذ على عقول وقلوب الجيل الجديد من المسلمين الأوروبيين. ويستغل هؤلاء المساحة الهائلة لحرية التعبير القائمة في البلدان الأوروبية للتحرك بمقدار كبير من اليسر لنشر أفكارهم. وليس هناك ما يمكن أن يقلقهم على صعيد العيش اليومي، فهم في مأمن من أي عسر بفضل المساعدات الاجتماعية التي يحصلون عليها، هم وزوجاتهم وأولادهم. ولهذا لديهم ما يكفي من الوقت للانشغال بنشاطاتهم والتواصل مع أنصارهم عبر برامج التواصل الاجتماعي في الانترنت. كما أن لهم مساجدهم الخاصة التي تشكل مكاناً لاجتماعاتهم ويلقون فيها خطاباتهم النارية كل يوم.
وقد بدأت بعض الأصوات تعلو لتقول في ما يشبه الشماتة إن ما يجري هو بالضبط ما جنته الحكومات الأوروبية على نفسها حين فتحت الأبواب مشرّعة أمام المهاجرين من كل حدب وصوب ومن دون تدقيق أو معاينة.
كانت عودة الأفغان العرب قد أيقظت الكثير من الحكومات العربية لاتخاذ الحيطة والحذر والشروع في عملية تأهيل وتربية طويلة الأمد. فهل من شأن عودة «السوريين الأوروبيين» أن تحضّ الحكومات الأوروبية على القيام بالعملية ذاتها قبل أن يصبح الوقت متأخراً؟
* كاتب كردي سوري
الحياة
جهاديو الحاضر كجهاديي الأمس… أحلامهم كوابيس/ مصطفى كركوتي
ما الذي يدفع رجلاً وُلد ونشأ في بريطانيا، في بداية العقد الخامس من العمر، أباً لثلاثة أولاد، لأبوين باكستانيي الأصل هاجرا إلى بريطانيا منتصف القرن العشـرين، إلى قيادة شاحنـة محمّلة متفجرات في عملية انتحارية فجرّت بوابة سجن مركزي في سـورية؟ هذا ما فعله عبـدالـوحـيد مجـيد، البريطاني العاشر الذي يسـقط في حقول القتل السورية حتى الآن، لسـجن حلب في السادس من شباط (فبراير) الماضـي. مجيد الذي عُرف باسمه الجهادي «أبو سـليمان البـريطـاني»، كان رجلاً عادياً جداً قبل موته التراجيدي، يعـمل مهندساً لدى وكالة تزفيت الأوتـوســترادات ويقـطــن حياً هادئاً (اسمـه شارع الشهداء) في ضاحـية «كراولي» «غرب ساسيكس» المعروفة بحدائـقها الغنّاء وأشجارها الوارفة وبيئتها المسالمة. «أبو سليمان» التحق بتنظيم «جبهة النصرة» أثناء وجوده في شمال سورية التي انتقل اليها في تموز (يوليو) الماضي، للمساعدة في الـعمل الخيري لمصـلحة اللاجئين السوريين.
حالة تطرح في آن أسئلة محيّرة للحكومة والمجتمع البريطانيين وغيرهما، حيث يضاعف مقتل مجيد قلقاً يتراكم يوماً بعد آخر إزاء أزمة تتراكم أيضاً، ليس في بريطانيا فحسب، بل في مجتمعات أخرى أوروبية. فللمرة الأولى منذ نصف قرن تقريباً، تواجه أوروبا أساساً تهديدات إرهابية معقدة كانت كامنة لفترة في عواصمها الرئيسة. فعندما يسمع المرء مثلاً كيف أن مراهقين، مثل ابنتي السابعة عشرة اللتين اعتقلتا في مطار هيثرو في كانون الثاني (يناير) الماضي وفي حوزتهما كميات كبيرة من المال، كانتا تنقلانها إلى جهاديين في سورية عبر تركيا، فإنه يتوقف عند هذه الحالة التي تسبب ذعراً لا حدود له في تلك المجتمعات. إذ باتت مراكز البحث في لندن وباريس وبروكسيل وغيرها من العواصم الأوروبية، المتخصصة في شؤون الإرهاب، مهتمة بعمق بتفاصيل نشاطات إرهابية في أوروبا مهما كانت صغيرة مثل حادث مطار هيثرو. فهي ترى في ذلك الحادث مجرد حبكة واحدة في شبكة كبرى من العلاقات الغامضة عبر القارات. فعدد الجهاديين في سورية تضاعف مرات في النصف الثاني من 2013 نتيجة انضمام جهاديي أوروبا إلى حقول القتل.
والسائد الآن أن هناك حوالى 8000 جهادي في سورية، حوالى 2000 منهم جاؤوا من غرب أوروبا، لا سيما فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا وهولندا. وهناك آخرون ولكن بأعداد أقل جاؤوا من الدنمارك والنروج. المسؤولون في لندن يعتقدون بوجود 200 من مواطنيهم بين الجهاديين، في حين يعتقد الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بأن جهاديي بلاده في سورية يصلون إلى 700. معظم جهاديي أوروبا من المراهقين ولا تتحدر غالبيتهم بالضرورة من أصول إسلامية باكستانية أو شمال إفريقية، بل ظهر بينهم من اعتنق الدين الاسلامي. مع هذا يجمعهم هدف واحد مرعب وهم في طريقهم إلى سورية، ألا وهو: الشهادة.
القلق الأكبر في الغرب ليس من عدد شبّان جهاديي أوروبا المتزايد المتوجهين إلى سورية، بل يكمن في عدد العائدين منهم إلى بلادهم ومجتمعاتهم وأسرهم بعد بضعة أشهر يمضونها في حقول القتل. فاحتمال المشاركة هؤلاء في عمليات إرهابية ليس بعيداً أو لن يكون غريباً لدى حدوثه. وهذا يعني أن على كل من يعتقد في أوروبا بأن بلاده بعيدة من التأثر بأزمة سورية، أن يعيد النظر بسرعة في هذا الأمر. فقد عُرض أخيراً فيلم على «يو-تيوب» ظهر فيه مراهق بلجيكي اعتنق الاسلام قبل أشهر، يدعى براين دي مولدر، يستعرض «إنجازاته» في حياته الجديدة في أحد مخيمات الجهاديين الإرهابية في سورية، وكيف أنه سينقل هذه التجربة إلى بلاده.
نزوح هؤلاء الشبان من أوروبا باتجاه حقول القتل والإرهاب في سورية، يعيد إلى أذهان بعضنا ممن عاصروا نزوحاً آخر، ليس غريباً كثيراً عن النزوح الراهن، لأوروبيين باتجاه منطقتنا أواخر السـتينـات وخـلال الـسبعينات من القرن العـشـرين. الوجهة المفضلة لهؤلاء كانت الأردن أو لبنان أو سورية وبدرجة أقل العراق. النـزوح الأوروبـي والغربي من إيـطاليـا وفرنسا واليابان وألمانيا الغربية (تسمية فترة الحرب الباردة) نحو مناطق الأزمة في الشرق الأوسط، كان في طبيعته مختلفاً بعض الشيء من ناحية القِيَم، لكنه لا يختلف كثيراً عن أهداف الجهاديين المعاصرين وأحلامهم وسبلهم. فمعظم هؤلاء كانوا من المتمردين على تنظيماتهم الشيوعية واليسارية، ووجدوا في أسلوب التطرف الجهادي المضمون، السبيل لتحقيق الأهداف.
هؤلاء كانوا ينتمون إلى تنظيمات سريّة وغامضة النشأة، لكنها تخريبية، من النوع الجهادي كـ «الكتيبة الحمراء» في إيطاليا و «الجيش الأحمر» في اليابان و «المقاومة المسلحة للثورة البروليتارية» في ألمانيا الغربية، والمشهورة باسم «بادر-ماينهوف» نسبة الى اسمي مؤسّسَيْها. هؤلاء جميعاً حلّوا ضيوفاًَ في إطار ما سمّي «التضامن الثوري ضد الإمبريالية العالمية» في مخيمات تدريب تابعة لحركات أعضاء في منظمة التحرير الفلسطينية، بينها الجبهتان الشعبية والديموقراطية لتحرير فلسطين وحركة «فتح». أولريكا ماينهوف وأندرياس بادر أعلنا عن تنظيمهما عام 1970 ووصفاه بأنه «حركة شيوعية ضد الامبريالية لخوض حرب عصابات في المدن». وقامت هذه الحركة بعدد من العمليات الإرهابية والسطو على مصارف قبل اعتقالهما وصدور حكم بسجنهما. كلاهما انتحر في السجن عام 1977.
هناك أيـضاً اليابانية فوساكو شيغينوبو التي «أسست» الجيش الأحمر الياباني مطلع 1971 بمساعدة مباشرة من «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» التي نفذت من خلال الامتداد الياباني عمليات إرهابية في المنطقة واليابان. وكان أكثر تلك العمليات شهرة، الهجوم على مطار اللد (بن غوريون الآن) عام 1972. كذلك هناك عسكر «الكتيبة الحمراء» الإيطالية التي زرعت اسماً لها من خلال عملياتها الارهابية الجريئة، وآخرها خطف رئيس وزراء إيطاليا السابق آلدو مورو ووضعه في صندوق سيارة مدة طويلة وقتله لاحقاً في 1978. هذا التنظيم نفذ في تاريخه الطويل والدموي نحو 14000 عملية عنفية مختلفة الأحجام، بينها عمليات سطو.
إرهـابـيـو «الـحرب الـباردة» في الـقرن الـعـشرين لا يخـتلفون كـثـيراً عن إرهـابيي العصر: أحـلامـهم كوابيس.
الحياة