مقالين تناولا رحيل باتريك سيل
رحيل باتريك سيل: يغيب الكاتب وتبقى الكتب/ إلياس حرفوش
لم يكن باتريك سيل مستعداً للرحيل. وطبعاً ليس بهذه السرعة. في آخر أيار (مايو) من العام الماضي اختار أن يبلغني عبر الـ «E-mail» بنبأ العملية الجراحية في الدماغ التي كان مقرراً أن تجرى له بعد أسبوع. كان الـ «E-mail» مفاجئاً، إذ إن تواصُلنا بالهاتف كان شبه أسبوعي لمناقشة المقال الذي كان يكتبه في «الحياة»، غير أنه أشار إلى أمله في نجاح الجراحة، مؤكداً أنه ينوي العودة إلى الكتابة «بعد فترة قصيرة».
أحيا ذلك أملاً في أن باتريك سيتجاوز هذه المحنة. لم يكن هناك ما يشير إلى دقة الحالة وصعوبتها، ولا إلى العمر الذي بلغه. وهو في الثالثة والثمانين كان دائماً يشع بابتسامته وأناقته ونكاته الجاهزة، كان ممتلئاً حيوية ونشاطاً، ومقبلاً على الحياة من دون تحفظ.
لم تنجح الجراحة في استئصال الورم بالكامل، وكان باتريك مطلعاً على تقدم الداء وعلى صعوبة المعركة، لكنه ظل حتى الأسابيع الأخيرة، قبل غيبوبته، على صلة بما يستطيع من مباهج الحياة في لندن، من ارتياد المطاعم التي كان يحبها، إلى التجوال في الحدائق العامة متكئاً على عصاه وعلى كتف أبنائه، هو الذي كان يتحدث دائماً عن شوقه إلى هذه النزهات خلال انقطاعه القصير عنها أثناء إقامته في باريس.
ينتمي باتريك سيل إلى جيل الصحافيين البريطانيين الذين عايشوا من قُرب أحداثَ المنطقة العربية وانغمسوا فيها. ساعده تخصصه في تاريخ الشرق الأوسط من جامعة أكسفورد على اكتساب الخلفية الأكاديمية. ومثل ديفيد هيرست وروبرت فيسك وسواهما من الصحافيين، كانت معايشته الدقيقة لأحداث منطقتنا سمة غالبة على مقالاته وحواراته. لم يكن متابعاً فقط من موقع الصحافي الأجنبي أو حتى من موقع المؤرخ، بل كان يعتبر نفسه في معظم الأحيان شريكاً في القرار، من خلال الأحكام والتقويمات التي كان لا يوفرها في تغطيته للأحداث أو كتابته عنها. وهكذا، تحولت كتبه الى مراجع، سواء تعلق الأمر بحافظ الأسد أو برياض الصلح أو أبو نضال، إضافة إلى مساهمته في صياغة كتاب «مقاتل من الصحراء» الذي يروي فيه الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز جزءاً من سيرته الذاتية وصولاً إلى دوره في حرب تحرير الكويت، كما كانت لسيل مواقف واضحة في دعم القضية الفلسطينية وانتقاده إجراءات الاحتلال الإسرائيلي وسياسات الاستيطان.
غير أن اسم باتريك سيل عندما يُذكر يبقى مرتبطاً، بصورة أو بأخرى، بتطورات الوضع السوري، فكتابه «الأسد والصراع على الشرق الأوسط» اصبح مرجعاً لا غنى عنه لكل باحث في التاريخ السوري في مرحلة حكم حافظ الأسد وما رافقها من صراعات داخلية وإقليمية بين سورية وجيرانها، والأمر نفسه بالنسبة الى كتابه «الصراع على سورية». وربما بسبب ما حققه الكتابان وما حظي به سيل من تقرب من الأسد ومن دائرة القرار السوري في ذلك الحين، شعر أنه مدين بالوفاء لسورية، وظل يدفع تكاليف هذا الدّين حتى النهاية، وهو ما يفسر الخلاف الذي يدور اليوم، بعد غيابه، حول ما يعتبره البعض مواقف باتريك سيل التبريرية للنظام السوري، مع انه كان واضحاً في انتقاداته طريقةَ مواجهةِ هذا النظام الثورةَ السورية منذ انطلاقها في درعا، كما لم يُعرف أنه كان على صلة أو قرب من نظام الأسد الابن.
وسيُشيع جثمان باتريك سيل الثلثاء 22 نيسان (ابريل) الجاري الساعة الواحدة والنصف ظهراً ويدفن في مقبرة كنزال غرين kensal green cemetery في لندن.
الحياة
باتريك سيل… رحيل الشاهد على الطغيان في سورية/ بشير البكر
لم يختر باتريك سيل تاريخ موته، فقد ضيّق عليه السرطان اللعين الخناق، وذهب به. والحق أن هذا الصحافي الاستثنائي رَحَل في ظرفٍ مأساوي لا يختلف عن ظروف ولادته وطفولته. فقد وُلِد باتريك سيل في فترة الانتداب البريطاني والفرنسي للربوع العربية، والاستعداد لإنشاء الكيان الصهيوني، على أنقاض فلسطين التاريخية وشعبها، بينما كانت شعوب المنطقة الأخرى تناضل لتفكيك الاستعمار الذي كان خبراؤه الاستراتيجيون يرسُمون مستقبله على فوهة بارود. وها هو باتريك سيل يُغادرنا، وفلسطين العزيزة على قلبه تبتعد كل يوم عن حل الدولتين، والاستعمار الغربي الجديد يعود إلى المنطقة المهددة بمخططات جديدة وتقسيمات لا أول لها ولا آخر. وها هي سورية التي بالَغ الصحافيّ في تمجيد أحد جنرالاتها الانقلابيين، إلى حد مقارنة بطش دكتاتورها برؤيوية الزعيم “بسْمارك”، تتحول في ظل حكم “وريثه” إلى أنقاضٍ وشعب من المهجرين والمنفيين والمنكوبين.
عن عمر يناهز الثالثة والثمانين رَحَل الكاتب والصحافي البريطاني باتريك سيل، بعد معاناة مع المرض. والحقيقة أنه لا يوجد صحافي غربي مثله استطاع أن يؤثرَ على الرأي العام الدولي، من خلال مقالاته التي كانت تظهر في الكثير من الصحف الغربية والعربية ومن أهمها “الأوبزرفر”، ويقدّمَ عن العالم العربي الاسلامي نظرة مختلفة عن السائد في الصحافة الغربية، خصوصاً ضد الرؤية الرسمية البريطانية. وقد اصطدمت آراؤه ومواقفه السياسية، وهو المؤازر لحركة التحرر العربي، مع الرؤية الكولونيالية البريطانية التي ساهمت إلى حد بعيد في رسم خريطة المنطقة التي لا تزال آثارُها نشيطة.
مَن مِنّا لم يقرأ المقالات المثيرة لباتريك سيل: “لماذا يخشى الغربُ العربَ؟” و”الأسباب العشرة التي من أجلها قَتل شارون الشيخ ياسين” و”مَنْ قَتَل الحريري؟” (وإن كان في المقالة يبرئ ساحة النظام السوري ويقول إن خصومه هم الذين ارتكبوا الجريمة) و”إيران تحدّ للجميع”. جميعها مقالات تدل على انخراط هذا المُراسِل الصحافي الجدّي في صُلب الأحداث، وتشير إلى فهمه الكبير للرهانات السياسية في هذه المنطقة المشتعلة.
في وقت مبكر، استطاع الحصول على ثقة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد (الذي لم يكن يَثق في أحد)، الخارج توّاً من انقلابه “التصحيحي”، والممسك بزمام السلطة في سورية، فكرّس له كتاباً عن “الصراع على الشرق الأوسط” كتب فيه سيرة الرئيس حافظ الأسد إلى غاية سنة 1987، مانحاً إياه أهمية لم يكن ينتظرها الطاغية السوري، وجعل منه الأسدُ، في المقابل، متخصصاً لا مثيل له، هو الآخر، إن في الشؤون السورية، أو في القضايا العربية والإسلامية. ولم يكن الأسد يدري، وهو يتلفظ بجملته الأخيرة “ولا يزال الصراع مستمراً” (كما اعترف سيل)، أنها تعني، ضمن ما تعنيه، صراع عائلته من أجل البقاء متحكمة في رِقاب السوريين.
وقد أصدر الصحافي الراحل مؤلفات عديدة في هذا الشأن، من بينها “الصراع من أجل سورية” و”النضال من أجل الاستقلال العربي” و”رياض الصلح”، وفي هذا الكتاب يبيّن دور السياسي اللبناني، ويُظهِر لنا المُؤلِّف اختلاف النظرتين الفرنسية والبريطانية للمنطقة، فينحاز للرؤية البريطانية التي يقول إنها “تحترم روح الانتداب”. وكتاب “صناع الشرق الأوسط الحديث”.
والحقيقة أن معظم كتابات سيل عن العالم العربي، وعن القضية الفلسطينية، تعبّر عن أصالة وفهم كبيرين، فهو من أنصار إيجاد حل للمأساة الفلسطينية التي ساهمت بلاده في صنعها، وتتحمل جزءاً من مسؤوليتها. ولكنه يرى، بعمق، كيف أن التصرفات الإسرائيلية على الأرض، إضافة إلى المواقف الأميركية والغربية من إسرائيل، وكذا حالة العرب المتشرذمة، العاجزة عن القيام بأي تأثير على الولايات المتحدة، لا يمكنها أن تؤدي إلى حلّ الدولتين. تجدُرُ الإشارة إلى أن انهماكه في معرفة خبايا الصراع العربي الإسرائيلي، ولقاءاته مع معظم أصحاب القرار السياسي في المنطقة، جعلته يخرُجُ بخلاصات تدين مشروع الهيمنة العسكرية الإسرائيلية، كما أن علاقاته مع الفاعلين المهمين في الساحة الفلسطينية، جعلته يؤلف كتاباً بيوغرافياً عن اللغز الفلسطيني “أبو نضال”.
كان باتريك سيل قريباً من الفلسطينيين ويعرف ماذا تعنيه الكرامة والهوية الفلسطينية، وخصوصاً أنه وُلِد في فترة الانتداب البريطاني لفلسطين، أي قبل أن تنشأ دولة إسرائيل. وهو لم يكن يُجامِل أو يتصنع الانتصار لهذا الشعب. وكَمْ كان يتألم لحالة التمزق العربي، وبشكل خاص للتمزقات الفلسطينية.
لا يمكن أن نجد لباتريك سيل شبيهاً في الدول الغربية الأخرى، من حيث تفهمه لوجهة النظر العربية، وجرأته على كتابة ما قد لا يُعجِب صانع القرار الغربي. ولكن ما يؤاخذ عليه، بحق، هو أن صداقاته في بعض الأحيان أثرت على مواقفه وقراءاته الساذجة للأحداث. فتقريظه للأسد يصيب القارئ بالإحباط، إذ يبالغ في منح صورة استثنائية للرجل. والحقيقة أن كل مستبد عربي يروقه هذا النوع من التوصيف، ويتمنى أن يكون محاطاً بهذا النوع من كُتّاب السيرة والمؤرِّخين. يرى باتريك سيل أن الأسد يشبه القائد الألماني الكبير “بسمارك” (يرى أن الأسد يقلده في سلوكياته!) في مفهوم “القوة تعلو على الحقّ”، ولكنه مفهومٌ ماكيافيلّيّ بامتياز، ويعتمده كلُّ زعيم سياسي يريد أن يستمر في السلطة.
وإذا كان “بسمارك العرب” قد رحل مبكراً، في ظروف تاريخية وسياسية ملائمة (هدنة مطلقة مع إسرائيل والمساهمة في الحرب على العراق)، فإن “وريثه” لم يَنَلْ مثل هذه الحظوة. وعاش باتريك سيل ليرى، أخيراً، الشعبَ السوري ينتفض ضد الاستبداد والدكتاتورية وحُكم العائلة. وفي مايو/أيار 2011، نشر مقالاً في صحيفة “لوموند ديبلوماتيك” الشهرية بعنوان لافت: “العمى القاتل لعائلة الأسد”، يرْصُدُ فيه إرهاصات الثورة السورية التي انطلقت من درعا، بعد قليل من اندلاع الثورة في تونس، في وقت كان فيه بشار الأسد يتشدق أمام صحيفة “وول ستريت جورنال” بالاستقرار في سورية ويغمز من قناة مصر وتونس.
وإذا كان الكاتب سيل، في مقالاته الأخيرة، يطالب بحل سلمي تفاوضي بين كل الأطراف السورية، فقد أدرك، أخيراً، أن الاستقرار الذي أرساه الأسد الأب كان خادعاً، وأن تحليلاته وقراءاته، هو أيضاً، عن سورية، كانت مصابة بنوع من العمى.
العربي الجديد