مكامن القلق الإسرائيلي من الثورة السورية!
محمد رشيد
لدى الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة في اسرائيل قلق واضح من الثورة السورية. قلق يستند الى المصالح اكثر مما يستند الى المخاوف، لكن ان سألت اي مسؤول سياسي اسرائيلي، سيرد عليك فورا بان هذا غير صحيح، و سيؤكد لك ان امكانية نشوء ديموقراطيات عربية تعزز فرص السلام العربي الاسرائيلي، وتؤدي الى ازدهار المنطقة كلها.
وسرعان ما سيضيف الى ذلك بعض «المخاوف السياسة التقليدية» و«بعض المخاوف الانسانية»، مثل تلك التي أبدوها لدى قيام الثورة المصرية، وسيستعرضها لك واحدة واحدة، كما فعلوا للمرة الأولى عند انطلاق وانتصارالثورة المصرية. واذا ما كانت بعض تلك المخاوف مشروعة (طبقا للمفهوم الاسرائيلي طبعا) في محاولات اسرائيل لدراسة وفهم كل الثورات العربية، فإنها تزداد عمقا والتباسا عندما يتعلق الامر بالثورة السورية، الى حد بعض محاولات التدخل الخفية لدى دوائر القرار الدولي، لإبطاء الاندفاع الدولي نحو الثورة السورية، الامر الذي سنشهد المزيد منه في المستقبل القريب عندما سيتعلق الامر بالاعتراف الدولي بالمجلس الوطني السوري، ما لم ينتبه الاخوة في قيادة المجلس الى ذلك ولم يسارعوا الى تجميع دعم سوري اكبر، خصوصاً من القوى والشخصيات التي تتفق معهم في الاهداف، وتلك مسالة اخرى لا اريد الخوض فيها الان.
كمثال على «المخاوف السياسية الاسرائيلية التقليدية»، تأتي في المقدمة التركيبة السياسية للثورات العربية، وسلسلة القيادة، وما هو التأثير الحقيقي للقوى التي ترفع شعارات تحرير فلسطين بالقوة، لان اسرائيل لا ترى أي مصلحة في رحيل نظام عرفت كيف تتعايش معه على مدى عقود طويلة، تعايش سبق ولادة بشار الاسد فشب عليه و تعايش معه، بل احبه، مقابل انتظارالمجهول القادم الذي لا تعرفه تل أبيب!! ربما ينبغي التنبيه الى ان السياسة الاسرائيلية لا تدار على ذاك النحو، و ذاك ما حرك قرون الاستشعار الاسرائيلية منذ الايام الاولى للثورة السورية لتنتزع تلك التصريحات الشهيرة لرامي مخلوف، اي ان اسرائيل لم تفاجأ بتلك التصريحات لانها جاءت باتفاق مسبق من خلال وسيط اميركي غير رسمي، واعطت تلك التصريحات أُكلها حتى الان على الاقل.
تلك واحدة، اما الثانية فهي الترويج لنظرية بان هذه الثورة قد لا تصل الى كامل أهدافها وتطيح بهذا النظام، ما سيقود الى انقسام السوريين ويلي ذلك تقسيم سورية، ما يؤدي الى فلتان غير مسبوق على الحدود الاسرائيلية – السورية، و يزعزع استقرار المنطقة و امنها، وان مثل هذا التطور سيؤثر على لبنان (الواقف ضد الثورة السورية) وعلى الأردن (الداعم بقوة لمطالب الثورة). تناقض واضح ولكنه في النهاية يخدم مصالح اسرائيل.
اما المثال الأوضح على ادعاء «المخاوف الانسانية» فيرتبط بـ «الأقليات» العرقية والدينية والإثنية، وامكانية تعرضها للقمع والضغط، ويدللون على ذلك بما يحصل في العراق وفي مصر، في حين واقع الحاضر والتاريخ يؤكدان ما يخالف ذلك تماماً، فإسرائيل عملت بجد وبلا توقف للقول لهذه الأقليات (مع التنبيه انني لا أؤمن بهذا الوصف) انها ليست في محيط امن، مستغلة التشدد العروبي تارة، والتشدد الاسلامي تارة اخرى، وزادت عليها في السنوات الاخيرة التشدد الطائفي، لكن في حقيقة الامر، اسرائيل قلقة كثيرا من النضج العربي ومن ان يؤدي هذا النضج الى عدالة مقبولة بين ابناء البلد الواحد.
واذا ازلنا غبار تلك المخاوف (التقليدية والانسانية) وغيرها سنجد قلق اسرائيل في مكامن اخرى تماماً، مخاوف سياسية وأمنية، جغرافية واقتصادية ولكن مختلفة عن تلك التي في الواجهة. فعلى الصعيد السياسي مثلا، تخشى اسرائيل كثيرا من ان تؤدي هذه الثورات الى نشوء ديموقراطيات عربية حقيقية تضعف مكانتها التقليدية كديموقراطية وحيدة في «صحراء» الدكتاتوريات ونظم الاستبداد المحيطة بها، نظم لا تعرف القوانين، تضطهد شعوبها، لا تسمح بحرية المعتقد والانخراط في نشاطات سياسية اواجتماعية اوثقافية، لا تسمح حتى بالعبادة. نظم تعطي درجات لرجال الدين وتصنفهم، خاصة وان اسرائيل عاشت طويلا في دلال الغرب باستخدام مسألة انها دولة القانون و الديموقراطية، واعتمدتها كمادة تسويقية رئيسية في سلة وسائلها الدعائية. وتدرك اسرائيل جيدا ان عالما عربيا ديموقراطيا يستطيع ان يستقطب الرأي العام العالمي لتاييد حقوقه العادلة بيسر اكثر.
أيضا سيؤدي هذا النشوء المتوقع الى اندماج الجميع في العملية الديموقراطية بمختلف تعبيراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتتضاءل مفاهيم الأقلية والأغلبية والتمايزات بكل أشكالها ستضعف، حتى لو شهدنا فترة من الصراع وعدم الاستقرار، وبالتالي ستفقد اسرائيل واحدة من اهم مرتكزات استراتيجيتها في التعامل مع الدائرة الاولى ولثانية في الجوار المحيط بها.
=ان اهتزاز عرش الديموقراطية الوحيد في المنطقة، ونشوء واحات جديدة، سيجبر اسرائيل على اعادة حساباتها الإقليمية والدولية بعمق شديد وهي لا تريد هذا العبء، لذا لديها كل هذا الميل لعدم سقوط نظام الاسد.
لكن هل لهذا الميل بعد سوري واضح ومحدد لا يشترك فيه مع الثورات العربية الاخرى؟
نعم هنالك اكثر من بعد واكثر من سبب سوري جوهري!!!
اول هذه الأسباب ان تل أبيب لاتستطيع ان تتذمر من هذا الجار الوديع، بل وتخشى استبداله. جار يوفر لها كل الحجج الدعائية لكنه لم يقلقها لعقود طويلة، دون ان يكون لدى اسرائيل أي مشكلة مع (حروب بالوكالة) من حين الى اخر، تجرب فيها اسرائيل مرونة عضلاتها العسكرية، وتعتمد اسرائيل في علاقتها مع النظام السوري حكمة شعبية عربية قديمة (الجار قبل الدار)، ولقد كان رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق اسحاق رابين يقول دوما ان افضل اتفاقية سلام لدى اسرائيل هي تلك الاتفاقية الغير الموقعة مع النظام السوري.
هذا طبعا غير ما وفره هذا الهدوء على جبهة الجولان من مرونة للإنفاق والقدرة العسكرية الاسرائيلية، مقابل نظام حاول خداع الجميع بنظرية التوازن الاستراتيجي التي اطلقها الاسد الاب وعاش عليها الابن، وها قد دقت ساعة النظام ولم تدق ساعة ذلك التوازن بعد!!!
لكن ساعة التوازن ستدق بقوة رهيبة قريبا واسرائيل تعرف ذلك. وتعرف أيضاً ان سقوط النظام وقيام سورية ديموقراطية سيضعها بصورة تلقائية امام ملف الاراضي والمقدرات السورية المحتلة، خصوصاً بعد نجاح الشعب السوري بتصميمه وتضحياته الجسام على ان يكسب عطف وتأييد ودعم العالم كله باستثناء الشبكة الحليفة للنظام.
ان سورية الجديدة والمسلحة بكل هذا الحب والتأييد العالمي ستكون هي التوازن الاستراتيجي الحقيقي، وذلك يقلق اسرائيل كثيرا.
البعد الآخر للموضوع الذي يقلق اسرائيل بصورة جدية، هو البعد الامني، لانها تعرف جيدا حجم التسليح غير التقليدي لدى النظام، سواء المصنع محليا او المستورد من الخارج. بوجود نظام الاسد اسرائيل حذرة و لكنها ليست قلقة، لانها تعرف ان النظام الاسدي يعرف جيدا فداحة التفكير بذلك، ولانها تعرف ان هدف النظام هو الحفاظ على العرش، ولكن ماذا لو وقعت هذه الاسلحة بيد من لا يرى غير القوة سبيلا مع اسرائيل؟ تلك مسألة من العسير جداً إقناع الاسرائيليين بعكسها حتى لو هزوا رؤوسهم بالايجاب.
وهناك البعد الايراني الحساس، فمن جهة تعرف اسرائيل ان ايران ليست فقط متحالفة مع الاسد، بل هي موجودة بقوة على الارض، وربما كان سرا على العالم ما هو ليس سرا على ابناء البلد بان ايران تنفق مباشرة في سورية وعبر قنواتها اكثر من عشرة ملايين دولار شهريا، تذهب اربعة ملايين منها الى ثلاثة آلاف ضابط سوري، و اما البقية فتذهب الى (الحسينيات و دعاة التشيع) والى بعض الإعلاميين السوريين.
وهنا يأتي السؤال المنطقي، كيف تستوي هذه المعادلة، من جهة اسرائيل تأمن بشار، حليف ايران، ومن جهة اخرى تدفع العالم كله لضرب ايران؟ ولكن على قدر ما يبدو ذاك السؤال محرجا، يبدو الجواب بسيطا. ففي التقييم الاسرائيلي الوضع تغير في العلاقات الإيرانية – السورية منذ موت الاسد الاب. وفي زمن الاب كانت ايران واحدة من خمسة اوراق يلعب بها حافظ، اما في زمن الابن اصبحت سورية واحدة من سبع اوراق تلعب بها طهران، لذلك فان اسرائيل لا ترى في بشار لاعبا بل تراه تابعا.
وهناك بعد الاراضي السورية المحتلة ومياه بحيرة طبريا. في مسألة الاراضي لا خلاف. فقد رضي الاب والابن بالتأجير غير المباشر لأراضي الجولان لسنوات طويلة، وتعهد الاب والابن تحويل الجولان الى منطقة سياحية واقتصادية تحت رقابة او شراكة دولية.
أما المياه فهي أرق اسرائيل الدائم والمستمر، وفقط للتدليل على ذلك، فان اسرائيل وفي اطار اتفاقية اوسلو، صممت على ان تكون المياه ملفا مستقلا على ذمة المفاوضات النهائية مع الجانب الفلسطيني. وفي الواقع الحالي يستهلك الاسرائيليون من مياه الضفة الغربية 6 أضعاف ما يستهلكه الفلسطينيون من مياههم. لذلك وفي الوضع الحالي لا مطالبات سورية في مياه طبريا بانتظار التوازن الاستراتيجي الاسدي، ولكن بعد انهيار النظام سيطلب الشعب السوري ان يشرب وان يروي زرعه من مائه، وهذا سيكون بمثابة تغير كبير لا تريد اسرائيل تحمل اعبائه.
هل هناك اكثر من ذلك؟
نعم، وعود النظام في القنوات السرية، وهذا نظام لم يخلف يوما وعدا لإسرائيل، وأخطر تلك الوعود انه وفي حال عجز النظام الدفاع عن حكمه سوف يشرع مباشرة في مخطط التقسيم والتحالف. مخطط اقتطاع جزء من الساحل السوري و ضمه الى الجبل واعلان الاستقلال واعلان التحالف مع اسرائيل، اي إغراء اسرائيل بفكرة التحالف مع الأقليات.
ولتأمين ذلك تحتاج تل أبيب الى ان ترى حشدا علويا ومسيحيا ودرزيا وراء النظام الامر الذي اخفق بشار في تأمينه حتى الان. وحتى في هذا الامر لا تبدو اسرائيل مرتاحة، ازاء الموقف الصارم للطائفة الدرزية دفاعا عن تاريخها ووطنيتها، الامر الذي قال عنه الزعيم الدرزي المؤثر وليد جنبلاط والأسير المحرر من ابناء الجولان وئام. لذلك كله، وغير ذلك ما خفي لم يقطع بعد الحبل السري بين بشار واسرائيل، بانتظار إرادة ووحدة الشعب السوري.
* “الرأي العام” الكويتية.