ملاحظات أولية حول أفكار البطريرك بشارة الراعي: لا معنى لأقلية دينية أو أكثرية مذهبية
يوسف سلامة
تفاخر النظم الديموقراطية بأنها تستند في حكمها إلى الأكثرية التي تمنح حكومة ما الجانب الأكبر من أصوات الناخبين في صناديق شفافة وأسلوب اقتراع شفاف أيضاً. وكل ذلك يعني أن الشعب هو المصدر الأوحد للسلطة . ومن الواضح هنا أن تصور النظم الديموقراطية للأكثرية هو تصور سياسي بمعنى أن الأكثرية الوحيدة التي يعتد بها والتي يمكن أن تكون معبرة عن إرادة الشعب وسيادته هي أكثرية سياسية لا غير. وما يترتب على ذلك بالضرورة هو ان نظام الحكم الديمقراطي يرفض كل صور الأكثرية الأخرى الممكنة أي يرفض كل أكثرية غير سياسية.
والمفهوم المكمل لمفهوم الأكثرية السياسية هو مفهوم الأقلية السياسية . فالنظام الديموقراطي لا ينظر إلى الذين خسروا الانتخابات إلا باعتبارهم أقلية سياسية لم تستطع ان تقنع ببرنامجها المطروح في الانتخابات إلا عدداً محدوداً من أفراد الشعب مما يجعلها أقلية سياسية على ان هذه الأقلية السياسية يمكن في أي وقت ان تتحول إلى أكثرية سياسية فتصبح بذلك معبرة عن ميل عدد أكبر من المواطنين إلى الالتزام ببرنامج سياسي مناقض.
والواضح من ذلك كله أن مفهوم الأقلية ومفهوم الأكثرية مفاهيم إنسانية طبيعية وهي نتاج لفعل الإنسان بوصفه كائناً سياسياً واجتماعياً، وليس نتاجاً لسلطة خارجية أو إرادة مقدسة أو غير مقدسة تملي على البشر ما لا يتفق وعقولهم من قرارات لابد أن تكون بطبيعتها (فوق إنسانية) غير مفهومة وغير مسوغة بالنسبة للكائنات العاقلة لصدورها عن إرادة يتوقف احترام قراراتها على الإيمان القلبي وحده أو يمكن على العكس من ذلك أن تكون قرارات (تحت إنسانية) أو (دون إنسانية) أي قرارات صادرة عن القوة الغاشمة والعمياء للغرائز المرضية في شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص المتعطشين إلى فرض إرادتهم الشخصية وحرمان الأكثرية من حقها في صنع الحاضر والمستقبل. فنكون بذلك أمام نظام ديكتاتوري فردي أو نظام ديكتاتوري تسلطي تمارسه عائلة أو مجموعة من العائلات المتحالفة مع مجموعة من رجال الأعمال ومع بيروقراطية إدارية وعسكرية.
وعلى ذلك فالديموقراطية تستند في وجودها إلى المعايير الإنسانية التي يضعها البشر لأنفسهم والتي يمكن لهم أن يطوروها أو يغيروها إذا ما اتفقت إرادة الأغلبية على فعل ذلك . لذلك فقط، وفقط بذلك ، يكون الحكم سياسياً وتكون الأكثرية والأقلية بالتبعية مفاهيم سياسية ليست مشروطة إلا بالفعل الإنساني وحده وهذا ما يجعلها سياسية بالضبط.
في ضوء ذلك يصبح الحديث عن الأكثرية الدينية وعن الأقلية الدينية حديثاً لا معنى له . فإذا كانت طائفة إسلامية ما – كالسنة مثلا – تشكل الأغلبية السكانية في هذا القطر الثائر أو ذاك. فهذا أمر لا معنى له من الناحية السياسية بالاستناد إلى المقولات الديمقراطية . ففي هذه الحالات لا تشير هذه الأكثرية إلا إلى أكثرية محايدة لأنها لا تنطوي على مضمون سياسي محدد بسبب التنوع الشديد في المصالح والاتجاهات والأيديولوجيات والرؤى الثقافية إلى آخر كل ما من شأنه أن ينتج المواقف السياسية المتبلورة لأفراد هذه الطائفة التي توصف بأنها أكثرية .
وبالمثل فإن الأقلية الدينية في هذا القطر الثائر أو ذاك كالطائفة العلوية والمسيحية والاسماعيلية هي أيضاً مفهوم زائف لأنه لا ينطوي على مضامين سياسية محددة للاعتبارات التي سبق أن ذكرناها. وبالتالي فإن مواقف الأفراد الذين يفترض أنهم ينتسبون إليها لا تتحدد بالولاء الديني بل بالمصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرؤى الثقافية المتباينة التي يتبناها أفراد هذه الجماعة التي توصف بأنها أقلية دينية، هذا إذا كانت هذه الاقليات الدينية راغبة في العيش في ظل نظام ديموقراطي تمثيلي يستند إلى صندوق الاقتراع مصدراً وحيداً للقوى.
يبقى نوع من التجمع أو التكتل البشري الذي يصعب النظر إليه باعتباره جماعة سياسية على الرغم من أنه يستخدم المقولات السياسية في عمله ونشاطه اليومي وفي تبرير كونه السلطة الحاكمة في هذا البلد العربي أو ذاك. نعني بذلك حكم الحزب الواحد . فهل يمكن النظر إلى الحزب الواحد الحاكم على انه يشكل أكثرية سياسية أو أقلية سياسية؟.
الجواب على ذلك ربما نجده في الخصائص المميزة للجماعة الدينية . فالجماعة الدينية أو الحزب الديني الذي يعتبر نفسه ناطقاً بلسان الله ومحققاً لمشيئة الله على الأرض لا يمكن النظر إليه على أنه جماعة سياسية نظراً لكونه ينطلق من مقولات فوق إنسانية يمكن لأي عقل أن يرفضها لأسباب منطقية أو حتى غير منطقية . كذلك الأمر بالنسبة للحزب الواحد الذي يفرض سلطانه على هذا البلد أو ذاك لا يمكن النظر إليه إلا على أنه جماعة دينية هي في حرب مستمرة ضد الكفرة والخارجين على الناموس المقدس (لأيديولوجيتها المباركة) ، أي أكثرية الشعب التي تميل بطبعها إلى تبني التعددية السياسية المميزة للكائن الإنساني بوصفه كائناً اجتماعياً وسياسيا.
خذ على سبيل المثال تنظيم اللجان الثورية في النظام الليبي أو ما يشبهه في قطر عربي آخر فإن هذه التنظيمات السياسية تعتقد أنها تملك الحقيقة المطلقة وأن كل من لا يشاركها الرأي فهو كافر وخارجي يستحق العقوبة والتأديب بحسب الظروف والأحوال التي توقع فيها العقوبة أو يتم فيها التأديب.
وللخروج من مأزق الجماعة غير السياسية المهيمنة على نظم الحكم في العالم العربي ليس هناك إلا مخرج واحد هو اعتراف هذه الجماعات الحاكمة وغير السياسية بضرورة التحول السلمي إلى حكم الجماعة السياسية التي يمكن أن نميز فيها بين أكثرية وأقلية على أسس إنسانية محضة.
لهذه الجماعات غير السياسية إذا لم تقبل بالتحول الحقيقي إلى الحياة السياسية أن تتحمل كل المخاطر الناجمة عن ذلك وفي طليعتها احتمال التدخل الأجنبي الذي لا يميز بين جماعة وأخرى ولا بين فرد وآخر لكونه يستهدف الجميع دون تمييز بين حاكم ومحكوم.
وفي ضوء ما تقدم لا نرى سبباً وجيهاً يبرر مخاوف غبطة البطريرك بشارة الراعي – الذي نكن له كل الاحترام والتقدير- على الأقلية المسيحية في العالم العربي وخاصة في سوريا. فكل المصائب التي ألمت بالمسيحيين العراقيين نجمت عن الاحتلال الأميركي للعراق وعن انفلات الصراعات الطائفية الهمجية بين السنة والشيعة التي أحرقت بلظاها جميع العراقيين والمسيحيون من بينهم. ولذا نعتقد أن الضمانة للمسيحيين والمسلمين واحدة ومشتركة هي قيام نظام حكم علماني يكون بعيداً كل البعد عن استئثار أي طائفة بالسلطة لا فرق في ذلك بين أن تكون طائفة تمثل الأكثرية كالسنة في سوريا أو إحدى الطوائف التي توصف بالأقليات الدينية كالمسيحيين والاسماعيليين والعلويين. فالضمانة يجب أن تكون للمجتمع كله وليس لهذه الطائفة أو تلك فمن يريد ضمانة لطائفة واحدة معناه أنه على استعداد لأن يضحي بالجميع لحساب هذه الطائفة المختارة وهذا ما ننزه غبطة البطريرك الراعي عن أن يكون ما يعنيه بتصريحاته . وعلى أي حال فأن كلامكم يا غبطة البطريرك قانون داخل الكنيسة المارونية وحدها، ولكنه خارجها ، أي في عالم المواطنة قابل للنقاش الحر المستند الى التقديرات البشرية وحدها وهذا بعض من حقوقنا التي لابد من التسليم بها من جانب غبطتكم .
ونخالكم لا تنازعون أن من حق المسيحيين بوصفهم أفراداً أن يفكروا على النحو الذي يرونه مناسباً لأنفسهم ولوطنهم، وتعلمون غبطتكم أن التقدم الذي حققته أوروبا قد كان مشروطاً بانتصار العلمانية في تلك البلاد. وربما قال قائل إن التجارب الإنسانية لا تتكرر ونجيب على هذا القول ببساطة إن الأشكال والصور قد لا تتكرر، ولكن مضامين الحياة الإنسانية شأن مشترك بين كل البشر. ويبقى التوق إلى الحرية والانعتاق من كل سلطة – دينية أو سياسية – شوق البشر الأكبر ما استمر للبشر من وجود في هذا العالم.
([) كاتب وأكاديمي سوري