ملامح خطة لإنهاء حرب لا تنتهي في سورية/ نوح بونسي
مهما كان ما قد يعتقده نظام الأسد وخصومه، لا يتجه أي طرف نحو انتصار عسكري في هذه الحرب. ووفقاً للمسار الراهن فإن الأمور تتجه نحو الأسوأ، مع مزيد من القتل والتدمير للنسيج الاجتماعي وتفاقم حدّة التطرف العابر للحدود.
سيترتب على استمرار مأساة السوريين أيضاً ارتفاع تكاليف الحرب على الأطراف الخارجية الرئيسيّة: إيران وروسيا في معسكر النظام، وتركيا والسعودية وقطر والولايات المتحدة في معسكر المعارضة. حان الوقت للاعبين الخارجيين أن يدركوا أن خصومهم لن يستسلموا، وأن يبدأوا بالعمل الجدّي المتمثّل في تحديد خطوط حل جيوسياسي لإنهاء الحرب.
إن المكاسب التي حقّقتها المعارضة المسلّحة في الشمال والجنوب لا يمكن أن تُعدّ انتصاراً بالمفهوم الأوسع للحرب. النظام والقوات الموالية له تحكم سيطرتها على مناطقها الرئيسية من دمشق حتى الساحل، فيما قام النظام وحلفاؤه باستنزاف وسحق الإمكانات العسكرية للمعارضة في جزء كبير من غربي سورية. وسيتطلب الأمر انهيار النظام من الداخل لكي تستطيع المعارضة المسلّحة الاستمرار بزخم باتجاه تلك المناطق، وهو أمر غير وارد حتى الآن. وحتى لو حدث، فمن المرجح أن تستمر بقايا النظام والميليشيات الموالية له في القتال.
في الوقت نفسه، فإن الوضع العسكري الأوسع للنظام يتدهور، كما أنّ محدودية القوى البشرية التي يمكنه حشدها والمعدّلات المرتفعة لاستنزاف هذه القوى تجعله غير قادر على التعويض عن النضوب المستمر في صفوفه من طريق حشد قوة فعّالة من الجنود أو الميليشيات، وبالتالي فإنّ المقاتلين الأجانب، بما في ذلك «حزب الله» والميليشيات الشيعية المتحالفة مع إيران، باتوا يتحمّلون عبئاً أكبر. لكن حتى مع مثل هذا الدعم، فإن النظام لا يزال يتراجع خارج مناطقه الرئيسية.
إن أطراف الصراع في سورية تتسم بدرجة من التشرذم والهشاشة، وتمعن في محاولة تغيير الوضع الراهن لصالحها. وهكذا، فإن الدول الداعمة لهذه الأطراف هي في وضع أفضل يمكّنها من تغيير مواقفها وبالتالي التأثير في مسار الأحداث، كما أن لهذه الدول مصلحة مشتركة في إنهاء الحرب التي لا تغذّي مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلاميّة» وحسب، بل تغذّي التطرف لدى طرفي الصراع في سورية، وتساهم في تعزيز الانقسام الإقليمي الطائفي والسياسي المتفاقم. بدلاً من التفكير الرغبوي والسعي وراء أهداف وهمية، على اللاعبين الخارجيين أن يتوصّلوا في النهاية إلى تحديد مطالبهم الجوهرية التي يمكنهم تحقيقها.
عندها يمكن ديناميكية إيجابية أن تولد وتفضي في النهاية إلى التفاوض على تسوية سياسية دائمة. وهذا سيتطلب وضوحاً استراتيجياً وتنازلات صعبة ومتبادلة.
إن أفضل طريقة يمكن بها الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين الخروج من الدوّامة السورية، هي وضع استراتيجية جديّة، بالتنسيق مع تركيا والسعودية وقطر، لتعزيز قوة المعارضة المعتدلة ودفعها نحو رؤية سياسية (والمقصود بهذه المعارضة طيف واسع من الفصائل الثورية، الإسلامية وغير الإسلامية، التي تقبل بالتعدّدية الاجتماعية والسياسية في سورية، ولا تتبنى فكر السلفية الجهادية، وليست مرتبطة بتنظيم «القاعدة» أو غيره من الجماعات العابرة للحدود).
على داعمي المعارضة الغربيين والإقليميين أن يعملوا، من خلال ممارسة النفوذ وتحسين أشكال التنسيق بشكل جذري، على الضغط على فصائل المعارضة المسلحة تدريجياً للاختيار بين الدعم الخارجي الكبير والحصول على دورٍ في المستقبل السياسي التعددي في سورية من جهة، أو استمرار التعاون مع الجماعات الجهادية المسلحة العابرة للحدود من جهة أخرى. وينبغي أيضاً أن توفّر الحوافز للانخراط السياسي البراغماتي واحترام المجتمع المدني المحلّي، ومعاقبة التكتيكات التي لا تميّز بين مدني ومقاتل، والسلوك الإجرامي والخطاب الطائفي.
على الحكومات الغربية أن تدرك أيضاً أن الوقائع العسكرية والسياسية تربط الصراع ضد «الجهاديين» بالحرب الأوسع ضد النظام. ولكي تكتسب المعارضة المعتدلة قوة على حساب الجماعات الجهادية، عليها أن تثبت نفسها كلاعب أقوى في الحرب ضد النظام. ومن شأن الدعم الخارجي أن يساعدها على تحقيق ذلك. كما أن هذا سيُثبت لإيران وروسيا أنّ العائد على استثماراتهما في قوات النظام آخذ بالتضاؤل. وللتخفيف من مخاطر إثارة تصعيد إيراني معاكس، أو تغذية آمال غير واقعية في أوساط المعارضة بإمكانية تحقيقها انتصاراً عسكريّاً حاسماً، على واشنطن أن تبعث رسائل واضحة عن استعدادها للدفع نحو التفاوض على حل سياسي ينهي حكم بشار الأسد لكن يشمل أيضاً المحافظة على مؤسسات الدولة وإصلاحها، وتقديم ضمانات أمنية فعلية لجميع مكونات المجتمع، ووضع ترتيبات أمنية لا مركزية تمكّن القوى المحلية من لعب دورٍ قيادي في توفير الحماية لنفسها، وتحديد المسؤوليات من خلال بنود دستورية تحدد أسس الدولة السورية التعددية الجديدة. وبالنظر إلى نفوذ إيران على الأرض، لا بدّ من إشراكها في تلك المحادثات بشكل أو بآخر.
على إيران كذلك القبول بأقل مما كانت تتمتع به حتى الآن، أي النفوذ غير القابل للمنافسة على موقع سورية داخل «محور المقاومة» الإيراني، والتفاوض بدلاً من ذلك على تحقيق أهم ما تتطلبه أجندة سياستها الخارجية، وهو استمرار صلتها بـ «حزب الله»، وتحييد الدولة السورية عن المحاور الإقليمية بحيث لا تكون متحالفة حصرياً مع منافسي طهران.
على نحو مماثل، يمكن الداعمين الإقليميين الرئيسيين للمعارضة تحقيق أهدافهم المشتركة الرئيسية في سورية، من خلال تقديم تنازلات تتعلق بالأولويات الثانوية التي لا تمتلك هذه الدول القدرة على تحقيقها. لدى هذه الدول فرصة أكبر في الحصول في النهاية على رحيل الأسد كجزء من عملية انتقالية من خلال الموافقة على دعم ترتيبات أمنية لامركزيّة، والقبول بدولة سورية غير منحازة بدلاً من الانضمام إلى المحاور التي يرعاها الداعمون الإقليميون.
إن دور تركيا مهمّ على نحو خاص، فبالنظر إلى امتلاكها نفوذاً كبيراً على الفصائل المسلّحة، فإن دورها محوري في تغيير توازن القوى بين تلك الفصائل وفي النهاية ضمان التوصل إلى حل سياسي. ينبغي أن تؤخذ مصالح تركيا الجوهرية بعين الاعتبار والمتمثّلة في قيام دولة قادرة ومستعدة للمساعدة على احتواء المجموعات المسلحة العاملة حالياً في تركيا، وحماية حدودها، وعودة ما يقارب مليوني لاجئ سوري تستضيفهم تركيا، وفتح المناطق ذات الأغلبية الكردية في الشمال (والتي يسيطر عليها حالياً الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني) أمام المشاركة التعددية من قبل جميع القوى الاجتماعية والسياسية بشكل يضمن وجودها جزءاً لا يتجزأ من سورية.
أما بالنسبة الى روسيا، فانّ مشاركتها في حل حقيقي في سورية سيساعدها على تعزيز مكانتها الدولية، ومعالجة أفضل للتهديد الجهادي، وسيزيد من نفوذها على معايير الحل التفاوضي، ما سيضع حداً للرأي القائل بأنّها تلعب دوراً ثانوياً في محاولة محكومة بالفشل لإعادة الشرعية لرئاسة الأسد، كما أنّها ستساهم في الحفاظ على أجهزة الدولة السوريّة التي استثمرت فيها روسيا، وخصوصاً القوات المسلّحة.
ويمكن الحكومات الأوروبية التخفيف من حدة التهديد المزدوج، المتمثل في الجهادية المتنامية فيها وهجرة اليائسين إليها بتطبيق أكثر فاعليّة للأداة الوحيدة في السياسة الخارجية التي لا تثير الانقسامات بينها، والمتمثلة في المساعدات الإنسانية. وهذا يتطلب، أولاً وقبل كل شيء، المزيد من الأموال لبرامج تساعد 12.2 مليون شخص بحاجة للمساعدات داخل سورية ونحو 4 ملايين سوري لاجئين في البلدان المجاورة. كما أن ثمة حاجة لدرجة أفضل من التنسيق بين المانحين أنفسهم وبين الشركاء المنفّذين. وتشمل الأولويات في هذا المجال الضغط على دمشق للسماح بإيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة وإزالة العقبات الإدارية التي تعيق تقديم المساعدات في أماكن أخرى، ومقاربات إبداعية للأزمة التعليمية الخطيرة، حيث هناك أكثر من مليوني طفل سوري خارج المدرسة، وزيادة التمويل لمعالجة نقاط الضعف في برامج الأمم المتحدة الداعمة للاجئين، وزيادة المساعدات التنموية للبلدان المجاورة التي تتحمل أعباء أزمة اللاجئين.
وحالما يتم تحديد صورة الوضع النهائي الذي يركّز فيه الجميع على الحدود الدنيا لمطالبهم، يمكن أن يبدأ العمل الصعب المتمثل في تحديد عناصر خريطة الطريق وأسس الدولة السورية التعددية الجديدة.
* كاتب ومحلل سياسي لدى «مجموعة الأزمات الدوليّة» – بروكسيل
الحياة