ملف جريدة الشرق الأوسط عن سورية
هل تتوقع أن تظل سوريا ما بعد الأسد كيانا موحدا في أعقاب الضربة الأميركية الموعودة؟
نعم… والثورة ستكون مقدمة توحيدية على مستوى المنطقة/ د. محمد كمال اللبواني
الثورات عادة تقوم لأسباب مباشرة وصغيرة، لكنها تحقق غايات ومتغيرات بعيدة وعميقة، وثورة الحرية والكرامة لن تسقط فقط النظام السياسي، بل ستطيح بكامل المستقر في الخريطة السياسية والاقتصادية، وستعيد بناء الثقافات.. وبعكس ما نراه اليوم من صراع يوحي بتفتت الدول، وخاصة سوريا، فإن نظرة أعمق تبين أنه مقدمة لتغيير شامل في خريطة المنطقة ينتهي بتوحيدها بعد اختبار ومسار عسير سيطيح بما فرض عليها من تقسيم مصطنع، كشفه ملايين اللاجئين الذين لجأوا لدول الجوار، والذين فهموا أن هذه الحدود لا قيمة ولا معنى لها بعد الآن.
مشروع التقسيم كمنهج وهدف قائم في لبنان ثم العراق، وجار في سوريا، التي استطاع النظام بالتعاون مع إيران تحويل ثورتها لحرب طائفية «سنية – شيعية»، ودفع مكونات أخرى للتخوف من الضياع والاضطهاد. والواضح أن دولا معينة تسعى لتفتيت سوريا… وكان سبق للاستعمار الفرنسي أن قسم سوريا لأربع دول، لكن ذلك لم يعمر طويلا. إن الجغرافيا السورية غير متماثلة.. داخل، ساحل، جبل، صحراء.. كل قسم منها يحتاج لمكملاته الموجودة في القسم الآخر. كما تغيب الحدود الواضحة بين المكونات، أي حدود التقسيم المحتمل، فالعلويون النصيريون مثلا يتركزون في جبال الساحل، لكنهم لا يشكلون وحدهم أغلبية واضحة فيه، وكذا الكرد في الشمال، وأقل منهم بكثير المسيحيون، وإن ظهر استثناء عند الدروز في جبل العرب، لكن الحجم يعيق بشدة استقلالهم. واللغة العربية منتشرة في كل المناطق. ولا يوجد تطابق في نوع التقسيم المقترح: فالقومي غير الديني، والطائفي لا يتماشى مع القومي، وهكذا. ناهيك عن أن كل لون منقسم ومشرذم، فالسنة تركمان وكرد وعرب وشركس، والمسيحيون عرب وأرمن وآشوريون سريان، ولهم كنائس متنوعة، والعلويون منقسمون لقبائل ويتمايز فيهم المرشديون وعنهم الإسماعيليون، ويختلفون مع الشيعة الاثني عشرية.
عبر التاريخ كان هناك تشابك بين سوريا وجوارها، وغالبا ما كانت محتلة من جار أكبر، ولم تشكل لا هي ولا أي قسم منها دولة مستقرة متمايزة لفترة طويلة؛ فهي شريط ساحلي وصحراء، وهي معبر بين القارات الثلاث وملتقى للحضارات، وبالكاد تتمايز هويتها القائمة على التنوع والتعدد يشوبها صراعات تخبو وترتفع، لكن السمة العربية الإسلامية السنية المعتدلة حفظت صيغة العيش المشترك، واستمرت الضامن الحقيقي للتعايش طيلة 14 قرنا، رغم التوترات والحروب والاحتلالات.
وسوريا الحديثة التي أسست على يد الاستعمار بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية، استطاعت تشكيل هوية من نوع ما للقاطنين فيها، وترابط اقتصادي من الصعب تفكيكه، وخلطت المكونات السكانية حتى صارت نموذجا يمكن تعميمه ليكون أساس الوحدة في الشرق الأوسط. والعصر الحديث يسير نحو فتح الحدود، وتشكيل التحالفات الإقليمية والدول الاتحادية المبنية على المصالح، أما السير عكس التاريخ نحو الدولة القومية، أو نحو الدولة الدينية، أو أدنى من ذلك نحو الدولة الطائفية، فسيصطدم بالمصالح التي تتخطى الحدود وتقفز فوق الحواجز.
لقد خلقت ظروف الحرب واقعا عسكريا أمنيا شاذا، إنما لو عاد السلم فستزول مبررات الانقسام «الأمنية القتالية الطارئة التي تعززها المجازر المروعة غير المسبوقة»، لتنهض من جديد المصالح المحطمة للحدود والحواجز. ثم إن فكرة التقسيم لم تكن مطروحة بتاتا قبل الحرب، إلا في الوسط الكردي إلى حد ما وبشكل ملطف، بعكس فكرة الوحدة والتعاون وفتح الحدود، مع لبنان والأردن والعراق وتركيا والخليج، والشراكات العربية والإسلامية والأوروبية. أيضا الشعب السوري يتصف بولعه بالتجارة.. المعادية بطبعها للحدود والتقسيم وللحروب. أي أن حالة التقسيم مرتبطة كثيرا بحالة الحرب، وتوقف الحرب سيبطل جاذبية هذه الفكرة، ويضعها مباشرة في مواجهة مصلحة قطاعات كبيرة تهتم بالإنتاج والمصالح التي تحتاج للوحدة.
حاليا هناك من يسعى لإطالة أمد الصراع وتثبيت الجبهات التقسيمية، ويبطل كل حسم، محاولا فرض حالة من الانقسام لفترة طويلة من الزمن.. قد تخلق واقعا تقسيميا مستداما من نوع ما، لكن عدم وقف إطلاق النار أو تسريع التطبيع كفيل بخلط الأوراق وتحطيم الحدود من جديد.
حتى الدولة الدينية التي تحاول القيام في الرقة وحولها، لها «مشروع توحيدي» مع العراق وكل الشام بما فيه فلسطين، والدويلة النصيرية المفترضة لن تجد نفسها من دون «الهلال الشيعي» ومن دون تحالف أقلوي، ومن دون امتداد نحو لبنان والعراق، أو احتلال روسي. أما الكرد فهم لا يسعون للانفصال إلا لتشكيل حلمهم القومي الموحد. هذا يعني أن المنطقة تتجه فعلا نحو التوحد والاندماج لا التقسيم، ليبقى البحث عن هوية هذا التوحد. لكن ذلك يحتاج لتجاوز حالة الصراع إلى حالة التوافق والتشارك، وهذا يتطلب العدالة والانفتاح العقلي والإصلاح الديني، والديمقراطية التي هي فعلا تجعل المختلف يتعايش سلميا. ولذا فالدولة الاتحادية الكبيرة في المنطقة هي الوعاء الذي تحل به القضية العربية والكردية والفلسطينية وغيرها..
وأخيرا، لا بد من شعار ترفعه المعارضة بوضوح، وتقاتل الأغلبية من أجله: التقسيم يعني الحرب المستمرة وسيادة حالة ما من دولة العصابة الرهينة، أما الوحدة ضمن الدولة المدنية التي تحترم حقوق الإنسان فهي الشكل الوحيد للسلم والحضارة.
* عضو الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني السوري
الشرق الأوسط
هل تتوقع أن تظل سوريا ما بعد الأسد كيانا موحدا في أعقاب الضربة الأميركية الموعودة؟
لا… أخشى أن تكون سوريا على طريق الجمر/ أمين قمورية
صورة الغد في سوريا، بعد الذي حدث ولا يزال يحدث فيها، لا تبدو زاهية ولا تبشر بمستقبل قريب واعد للسوريين كشعب واحد ونسيج وطني متماسك. كل الطرق التي عبدها الجحيم الكبير بالزفت الأسود، والتي تعمق خطوطها يوما بعد يوم في سوريا الحالية، تقود إلى نهايات مأساوية.
عندما يقع الشقاق والخلاف في دول متعددة الانتماء الثقافي والديني والعرقي مثل سوريا، لا بد أن ينتهي بتسوية تضمن التوازن بين المكونات الأساسية للمجتمع على أساس التعددية والمشاركة في صنع القرار والديمقراطية، وإعطاء كل ذي حق حقه، بما يرفع عن الأقليات هواجسها، وعن الأكثرية غبن تهميشها بتحالف الأقليات ضدها.
هكذا تسوية أرسيت خطوطها العريضة في «جنيف 1» بين الأميركي الراعي الكبير للمعارضة والروسي راعي النظام. لكن الطريق نحو هذا الحل يبدو صعبا جدا في المدى المنظور، لا.. بل يبدو مستحيلا. فلا الراعيان الكبيران قادران على الاتفاق على التفاصيل الضرورية لإطلاق مسار الحل السلمي، بفعل خلافاتهما الكبيرة والتباعد بينهما الذي يزداد اتساعا بفعل المستجدات، وآخرها استخدام السلاح الكيميائي وما نتج عنه من إسقاط لـ«الخطوط الحمر» الأميركية، حيث صارت واشنطن قاب قوسين من التدخل العسكري المباشر في نار الأزمة.. ولا دول الإقليم قادرة على لجم التدهور بعدما صارت سوريا بالنسبة إليهم معركة كسر عظم لا يمكن لأي منهم تحمل خسائر هزيمتها، إذ لا الإيراني قادر على التراجع، ومثله حزب الله، ولا التركي قادر على تقديم التنازلات، مثله في ذلك مثل دول الخليج والأردن. وهنا لا يمكن التقليل من الدور الإقليمي في الحل، ذلك أن للجغرافيا وزنا في المعادلات يماثل في بعض جوانبه وزن السياسة ووزن إرادات القوى العظمى.
أكثر من ذلك، فإن قاموس المفردات السياسية للاعبين المحليين أيضا لا يتضمن حتى الآن اعترافا بوجود عبارتي «تسوية» أو «حل سياسي». النظام لا يعترف بوجود معارضة سياسية في بلاده، ويصر على أن خصومه رهط من «الإرهابيين» تحركهم «مؤامرة خارجية»… وتاليا لا يقبل بأي شكل مبدأ مفاوضاتهم بذريعة أن دواء «الإرهاب» هو الكي والاستئصال. ولذا يواصل «كي» الأخضر واليابس حارقا المدن والآمنين والأبرياء. وفي المقابل، فإن المعارضة التي جعلها خواء السياسة السورية في عهود التوتاليتاريات المتعاقبة، وتكالب الخارج على الداخل، معارضات متباينة المواقف والبرامج والأهداف… لا يجمع بين بعضها وبعض سوى هم إسقاط النظام ولا شيء غيره. وعليه، كانت هي أيضا أعجز عن بناء بديل مقنع للنظام وفرض شروط جديدة لتسوية مقبولة للجميع.
وبين نظام متحجر يقدس جبروت الحلول الاستئصالية والإلغائية والإقصائية، وبين معارضات هائمة على وجهها سقطت أكثر من مرة في فخ النظام وانقادت بردود فعلها غير المدروسة إلى العصب المذهبي والانحلال الأخلاقي.. طارت التسوية وصارت في خبر كان أو ربما.
إمكانات الحل السياسي في سوريا حتى هذه اللحظة مستحيلة. وتأتي الحرب الأميركية المفترضة لتزيد استحالته وليس لتقريبه. وفي المقابل، يبدو الحسم الميداني مستحيلا أيضا، فليس النظام قادرا على استعادة السيطرة على كل سوريا حتى ولو استعاد عسكريا كل المدن بتدميرها؛ لأن الريف سيظل خارج سيطرته مهما فعل. والمعارضة بدورها عاجزة عن إسقاط النظام بالضربة القاضية بفعل الدعم اللامحدود له سياسيا وعسكريا وماديا من حلفاء أقوياء باتوا يعتبرون المعركة معركتهم، لا سيما منهم إيران وروسيا.
أكثر من ذلك فإن التصريحات الحربية الغربية لا تشير إلى نية إسقاط النظام بالقوة بذريعة «عدم جهوزية البديل»، في حين تنظر ضمنا وبارتياح إلى تحول سوريا، قلب بلاد الشام ومفتاح الصراع مع إسرائيل، دولة مفتتة ضعيفة.
إذن، ما الحل؟ هل التقسيم والتجزئة هما طريق الخلاص لسوريا؟
حتى هذه اللحظة لم تفصح أي دولة كبرى عن هكذا نية مبيتة. روسيا أعلنت صراحة رفضها «دولة الأقليات»، وواشنطن لم تشر أبدا إلى التجزئة. والعرب يريدون سوريا عربية متماسكة، وإيران تحبذ أن تظل سوريا موحدة تحت قبضة حليفها.
كذلك النظام السوري يرفض وجود شريك له يشاركه السلطة والسيادة على أي جزء من الأرض السورية، ولا يزال أركانه يحلمون عبثا باسترجاع الماضي. وفي المقابل، تعتقد غالبية المعارضات السورية، وتصر على أن المعارضة تمثل غالبية الشعب السوري، وأن لها اللاذقية وطرطوس وجبال العلويين والقامشلي، ولا تنفك تشن هجمات في قلب هذه المناطق تأكيدا لوحدة سوريا وتماسكها الجغرافي، وأنها لا تقبل بديلا عن سوريا كاملة.
لكن التمنيات شيء والواقع على الأرض شيء آخر. ويوما بعد يوم يتعزز الفرز ويتعمق الشرخ ويدمر النسيج الاجتماعي بفعل عمليات الفتك والاغتصاب الجماعي على أنواعه.
سوريا فعلا صارت «صومالا جديدا» تحكمه العصابات وتدير مناطقه والمدن المافيات.
الصراعات على الزعامة المحلية في كل شارع وفي كل دسكرة وزاروب، ويستوي في ذلك مناطق نفوذ النظام ومناطق نفوذ المعارضة. ولا غرابة أن نسمع بيانات الرقم واحد وإعلانات عن قيام «دويلات» و«جمهوريات» أو «إمارات» مستقلة مثل «حلب لاند» أو «درعاستان» أو جمهورية «كردستان الجنوبية المستقلة» أو إمارة «جبل الدروز».
سوريا الموحدة والمتماسكة معلقة في انتظار أعجوبة.. على الأرجح لن ترى النور في الأمد المنظور. إنها طريق الجمر.
* صحافي وسياسي لبناني
السؤال الثاني: هل يساعد التدخل الخارجي في تبديل المعطيات على الساحة السورية؟
لا… «الضربة» لسوريا شكل آخر من العجز/ د. نهلة الشهال
أولا، هناك اتفاق على أن «الضربة» العسكرية لسوريا، لو وقعت، فستكون محدودة في الزمان والأهداف. والاعتبار الأول خلف ذلك هو أن الولايات المتحدة خصوصا، وهي القادرة عليها، لا تريد التورط في عمل يعيد إلى الأذهان مغامراتها المكلفة والفاشلة في أفغانستان والعراق، ولا تريد من جهة ثانية إفساح المزيد من المجال أمام المجموعات السورية المتشددة المقاتلة. هناك اعتبار فوق هذين المتداولين كثيرا، وهو خطر تصعيد المواجهة مع روسيا ومع إيران، مما يمكن أن يكون حسابه عسيرا والتوقعات بشأنه غير دقيقة. والسبب الأخير لا يرد كثيرا في المحاجات، لأن الوعي السائد ما زال يتحرك عند واقعة انهيار الاتحاد السوفياتي وحسم الحرب الباردة الماضية لصالح الأميركان، بينما هذه الحقبة من «نهاية التاريخ» كانت قصيرة، بل خاطفة. وقد وقعت التدخلات الأميركية في إطار تلك اللحظة التي انقضت. فيما تبرز اليوم تعددية قطبية جديدة، تقود روسيا على ما يبدو جناحها الشرس، أو العسكري. فهل يغامر أوباما بالوقوف أمام منزلقات من هذا النوع؟ وهل يقوى؟ وهل يمكنه ألا يحسب التداعيات التي قد تكون كارثية، وغير متوقعة، في منطقة شديدة القرب من إسرائيل ومن منابع النفط، وهي تداعيات يقف على رأسها انتشار فوضى يصعب على أي كان لمها، حتى لو أراد.
ثانيا، في دوافع الداعين إلى الضربة – ولو أمكن تدخل عسكري أكبر – أمر يصعب فهمه في السياسة. الغربيون، وعلى رأسهم الفرنسيون، تحدثوا أحيانا عن «التأديب»، بأبوية استعمارية جوفاء. وأما المحليون، فينقسمون إلى فئتين، واحدة تبيع أوهاما من قبيل أن وراء الضربة خطة استراتيجية متدحرجة، بينما نعلم جيدا أن السياسية الغربية الحالية تعتمد التلمس والقيادة يوما بيوم. والفئة الثانية تريد «الانتقام» من بشار الأسد حتى لو عرفت أن الضربة لا تنوي استهدافه، وفي هذا قصور يضع السياسة في موقع الثارات العشائرية. وهي هنا بلا طائل، فهي ليست خطة لإسقاط الأسد.
ثالثا، نحن إذن أمام معضلة حقيقية. هناك استعصاء مزدوج جديد يضاف إلى سابقه ويجعل الوضع يتعقد يوما بعد يوم وينذر بالأهوال. فقد كان يظهر جليا – إلا للمكابرين – أن النظام السوري غير قادر على القضاء على «العصابات الإجرامية» كما سمى الانتفاضة الشعبية منذ اللحظة الأولى، ناكرا الواقع، وعاملا في الوقت نفسه على تحوير ما يجري باتجاه العنف المسلح والطائفي. وكان يظهر في الآن نفسه أن الانتفاضة غير قادرة على إزاحة النظام أو إسقاط رأسه، لأن نواته الصلبة مغلقة، غير حساسة تجاه فعل الانتفاضة، وغير قابلة للمس، ومستعدة لأقصى عنف، ولأنه لا توجد أجسام وسيطة يمكنها التدخل بين رأس النظام والناس، كما كانت عليه الحال في مصر وتونس، أو بالنسبة للدور الخليجي في اليمن. يتضح هنا بقوة ما معنى أنه في الحالة السورية (وليس وحدها) تتطابق الدولة – والسلطة – والحاكم. هي واحد. والضربة اليوم من طينة الاستعصاء نفسه؛ فهي مشكلة لو حصلت، بسبب مخاطر تداعياتها المحتملة من جهة، ولأنها من جهة أخرى (ولا تناقض) تسعى لأن تكون «شكلية» بمعنى من المعاني لفرط ما تحتاط. ومشكلة أيضا لو لم تحصل بعد كل هذا الضجيج، لأن ذلك يعني انتصارا لبشار الأسد (ولو بفضل المظلة الروسية) سيجعله يستقوي أكثر ويغرق سوريا في مزيد من الدم، وأهلها في مزيد من اليأس من التغيير.
رابعا، وكل ذلك يجري بجلافة، ومن دون التبريرات «الأخلاقية» المعتادة حول الحق في «التدخل الإنساني». الكلام عن «التأديب» يلغي أصلا هذا البعد، ومعه الاعتبارات المبدئية والأخلاقية في القصة. صحيح أن الضربة تجري بسبب استخدام الأسلحة الكيميائية (وبانتظار الثبوت العلمي للمسؤوليات!)، ولكن المجازر في سوريا لم تنقطع، ومن حق ضحاياها الاعتراض على عدم الاكتراث بهم، وتخصيص من قضى بغاز السارين بكل هذا الضجيج! وهذا الأمر يثير مشكلة إضافية تتعلق بانحطاط المعايير السائدة، وبالحاجة للعودة إلى التفاوض بشأنها وإنتاج توافق عالمي جديد، شرعة تسمح بوجود مقاييس موضوعية يمكن الاعتداد بها وتمثل نقلة إلى الأمام للبشرية، وليس انتكاسا نحو الانفلات والعجز عن أي شيء كما هو حاصل.
في العقدين الماضيين، جرت ممارسة الكثير من الاستنساب والاعتباط. وهذا معطل، ويجعل من الممكن للحكام الدمويين أن يدعوا واعظيهم إلى «تنظيف عتبة بيتهم» قبلا. وهكذا يبدو أنه لا يمكن حماية البشرية جمعاء وفي كل مكان من أماكنها، من دون تطلب شرعة قيمية ومعيارية جديدة.
الضربة إذن، ومعها هذا كله، لا يمثلون حلا لمشكلة سوريا، ولو أن تعقيد أوضاعها هو ما يبرز بحدة الحاجة العليا لشرعة قيمية عالمية. بمعنى وجود أزمة عميقة والحاجة لتخطيها. أهو عزاء كاف للسوريين المكتوين بنيران متقاطعة، بانتظار تغير حالهم نحو الحرية.
* باحثة لبنانية في علم الاجتماع السياسي
السؤال الثاني: هل يساعد التدخل الخارجي في تبديل المعطيات على الساحة السورية؟
نعم… الضربة العسكرية ستؤثر.. لكنها لن تسهل التوصل إلى تسوية سياسية/ كمال ريشا
أجازت لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي للرئيس باراك أوباما «معاقبة» النظام السوري على استخدامه السلاح الكيماوي لضرب المدنيين، ما يرجح حصول الرئيس الأميركي على موافقة أغلبية أعضاء الكونغرس على المضي قدما فيما بات يعرف على نطاق واسع بـ«الضربة» العسكرية ضد النظام السوري.
وطبقا لما بات معروفا فإن الضربة بنتائجها العسكرية، ستكون أكبر بقليل من تلك التي يسعى النظام السوري لتصويرها، وأقل بقليل من طموحات المعارضة، ما يعني أنها قد لا تؤدي إلى إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وتاليا لا تفسح المجال للمعارضة للاستيلاء على السلطة في أعقاب الضربة. وانطلاقا مما سبق، ستعيد الضربة الأميركية على النظام السوري خلط الأوراق على الساحة السورية؛ فهي ستضعف من قدرة النظام وتفوقه، أقله في المجال الجوي، والأسلحة الاستراتيجية، التي تفتقر إليها المعارضة، لأنه إذا كان متعذرا قصف مخازن الأسلحة الكيماوية بسبب النتائج الكارثية التي ستنتج عن هذا القصف، فإن الولايات المتحدة ستلجأ إلى قصف الوسائل العسكرية للنظام التي استخدمها وقد يستخدمها، من أجل إعادة الكرة، وهذا يعني أن الولايات المتحدة ستقصف منظومة الصواريخ السورية وتعطل سلاح الجو للحؤول دون إمكان النظام السوري من جديد من قصف المدنيين ومعارضيه بالسلاح الكيماوي.
ما بعد الضربة يطرح احتمالات عدة للمسار السياسي في سوريا، أولها أن تحاول المعارضة الإفادة من الحد من تفوق النظام، لتحقق مكاسب ميدانية في المدن الرئيسية، حيث ما زال النظام يسيطر على معظم هذه المدن التي تضم قرابة 70 في المائة من مجمل الشعب السوري، خصوصا العاصمة دمشق وحلب وحماه وسواها. وتاليا، فإن قوى المعارضة قد تستأخر العملية السياسية لتحقيق مكاسب ميدانية تعزز موقعها التفاوضي مع النظام، أو أنها ستمضي قدما في عملية إسقاط النظام وخلق دينامية سياسية جديدة طبقا لتطور قدراتها الميدانية.
الاحتمال الثاني أن يلجأ النظام إلى تقديم تنازلات «مؤلمة» للمعارضة، تستدعي تقديم العملية السياسية على المسار الميداني، إلا أن هذا الأمر دونه عقبات، أولها أن النظام السوري ليس من النوع الذي يقبل بالاعتراف بخصومه، الذين هم في نظره جماعة من «الإرهابيين» المغرر بهم، و«المأجورين» للخارج، وتاليا لا حل مع هؤلاء سوى التخلص منهم. وثاني العقبات، أن المعارضة التي دفعت آلاف الشهداء لن تقبل بعملية سياسية تلحظ بقاء أو مشاركة الرئيس السوري بشار الأسد في صياغة مستقبل سوريا.
لذلك من المستبعد أن يلجأ أي من الطرفين إلى تقديم تنازلات جدية لصالح العملية السياسية التي تنتظر انعقاد مؤتمر جنيف.
إلى ما سبق، هناك أيضا المصالح الإقليمية على الساحة السورية التي إذا ما أضيفت إلى العوامل الداخلية فستزيد من تعقيدات العملية السياسية، خصوصا إيران وروسيا والصين التي تدعم نظام الأسد، وتبحث عن ضمان لشبكة مصالحها ببقاء النظام أو بعد رحيله.
فإيران، التي تستثمر على جميع المستويات في سوريا منذ إسقاط نظام الشاه، أعلنت أن الدفاع عن دمشق هو بمثابة الدفاع عن طهران، وسقوط الأسد يعني، حسبما يقول الكثير من الخبراء، سقوط نظام الملالي في طهران والمشروع التوسعي الإيراني في الشرق الأوسط.
وموسكو، التي تبني أكبر قاعدة عسكرية لها في طرطوس، لن تقبل بسقوط الأسد مجانا… وهي تسعى إلى إعادة الاعتبار إلى دورها في ثنائية الحرب الباردة، التي انتهت بسقوط الاتحاد السوفياتي، من البوابة السورية.
في المقابل يخشى الغرب، الذي لا مصالح حيوية له في سوريا، من تفشي استخدام الأسلحة المحظور استعمالها دوليا، ويقف إلى جانب منظومة دول الخليج العربي من أجل إسقاط الرئيس السوري بعد أن أفشل الأخير جميع المحاولات للحؤول دون تفاقم الأمور في بلاده.
إزاء كل هذه التعقيدات، وبين تضارب المصالح الإقليمية والداخلية السورية، من المستبعد أن تؤدي الضربة العسكرية إلى حل سياسي في مؤتمر جنيف الذي لم يحدد موعد انعقاده، ومن المرجح أن يستمر النزاع العسكري إلى حين إلحاق أحد طرفي النزاع الهزيمة بالآخر، أو تزامن الضربة العسكرية مع عمل استخباري يعجل بالتخلص من الرئيس السوري بشار الأسد، مما يفسح في المجال أمام انطلاق العملية السياسية.
* كاتب صحافي لبناني